أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)















المزيد.....

النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 21:38
المحور: قضايا ثقافية
    


تلعب النماذج الفكرية دورًا جوهريًا في تشكيل وعي المثقف وتوجيه مساراته المعرفية وتفاعلاته مع الواقع. فالنموذج الفكري ليس مجرد مجموعة من الأفكار أو المقولات النظرية التي يحملها الفرد، بل هو منظومة متكاملة من التصورات والمفاهيم والقيم التي يتفاعل من خلالها مع العالم. ومن هنا، فإن المثقف لا يمكن أن يكون كيانًا معزولًا عن السياق الفكري الذي ينتمي إليه، بل هو مشدود دومًا إلى نمط معين من التفكير يحدد طريقته في الفهم والتحليل، وفي كثير من الأحيان، في إصدار الأحكام وصياغة المواقف.
عندما يتبنى المثقف نموذجًا فكريًا معينًا، فإنه يُعيد تأويل الواقع من خلال مرشح هذا النموذج، مما يجعله يرى بعض الظواهر باعتبارها ذات مغزى كبير بينما قد يتجاهل أو يقلل من أهمية ظواهر أخرى. وهذا ينعكس بشكل واضح في طريقة قراءته للتاريخ، فهمه للمجتمع، نظرته للسياسة، وموقفه من قضايا الدين والثقافة والهوية. ومن هنا يظهر أن النماذج الفكرية لا تكتفي بتفسير الواقع، بل تصوغه من جديد، وتعيد بناءه وفقًا لافتراضاتها المسبقة، وغالبًا ما تمنح المثقف نوعًا من "الإجابات الجاهزة" التي قد تحجبه عن أسئلة جديدة كان من الممكن أن تفتح له آفاقًا أوسع من الفهم.
غير أن خطورة النموذج الفكري تكمن في قدرته على فرض نوع من الجمود الذهني حين يتحول إلى إطار مغلق لا يسمح بالشك أو المراجعة أو التجاوز. فبعض المثقفين قد يتحولون إلى أسرى لنماذج فكرية محددة، يرون من خلالها كل شيء، ولا يستطيعون الفكاك منها حتى عندما تتعارض بوضوح مع معطيات الواقع المتغير أو تكشف الأيام عن قصورها في التفسير أو العجز عن الفعل. وهنا يتحول المثقف من فاعل نقدي إلى مروج أيديولوجي، ومن باحث عن الحقيقة إلى مدافع عن نظام رمزي يخدم مصالح معينة أو يبرر مواقف مسبقة.
وهذا ما رأيته بأم عينيّ، من بعض المثقفين، ممن يخوضون في قضايا فكرية وأخرى ثقافية، لكنهم يكتبون بازدواجية، ونمطية، ويميلون إلى جهات تدعمهم، رغم كون بعض القضايا لا يؤمنون بها، إلّا أنهم يغضون الطرف عنها.
في الوقت نفسه، لا يمكننا إنكار أن النماذج الفكرية يمكن أن تكون مصدرًا للتحفيز والإبداع إذا تعامل معها المثقف بوعي نقدي وبروح مفتوحة. فهي تمنحه إطارًا مرجعيًا يمكن من خلاله تنظيم أفكاره وربط الجزئي بالكلي، لكنها لا ينبغي أن تتحول إلى قيد على التفكير أو على حرية التساؤل. المثقف الحر هو الذي يستخدم النموذج الفكري لا الذي يخضع له؛ يطوره ويختبره في ضوء الواقع، لا من يذعن له كحقيقة مطلقة. ومن هنا، فإن التفاعل مع النماذج الفكرية ينبغي أن يكون دائمًا ديناميكيًا، يسمح بالتحول والتطور، لا استسلامًا جامدًا لنمط واحد من الفهم.
ثم إن المثقف حين يُدرك تعدد النماذج الفكرية وتباينها، ويعي أنها ليست جميعًا سوى محاولات إنسانية نسبية لفهم العالم، فإنه يصبح أكثر تواضعًا في أحكامه، وأكثر انفتاحًا على الآخر، وأكثر استعدادًا لمراجعة قناعاته. وهنا تتجلى قيمة المثقف الحقيقية: في قدرته على الوقوف على المسافة بينه وبين ما يؤمن به، وعلى اختبار منطلقاته على ضوء التجربة، لا على ضوء الولاء الفكري أو الانتماء الأيديولوجي. فالمثقف الذي لا يُراجع نموذجه الفكري باستمرار، ولا يضعه موضع التساؤل، يُعرّض نفسه لخطر التكلس الفكري والانفصال عن حركة الواقع الحي.
ومن هذا المنطلق، فإن العلاقة بين المثقف والنموذج الفكري علاقة معقدة ومركبة، تقوم على التفاعل والتأثير المتبادل. فكما أن المثقف يتأثر بالنموذج الذي يتبناه، فإن هذا النموذج نفسه قد يتغير ويتطور بفضل إسهاماته النقدية وتحولاته الذاتية. وليس المثقف الحقيقي هو من يظل متمترسًا داخل قوالب فكرية جامدة، بل هو الذي يعبر النماذج، ويتجاوز الحدود، ويصنع من قلقه المعرفي طريقًا إلى التفكير الحر والمتجدد.
وبالتالي يصبح من المهم التأكيد على أن المثقف لا يولد في فراغ، بل ينشأ ويتكوَّن داخل بيئة ثقافية واجتماعية وتاريخية تفرض عليه نماذج فكرية بعينها منذ الطفولة. الأسرة، المدرسة، الإعلام، الدين، والمجتمع بأسره يسهمون في غرس مفاهيم معينة تشكّل البنية الذهنية الأولى التي ينطلق منها المثقف في فهمه للعالم. وقد يظن البعض أن المثقف حين يبدأ رحلته في القراءة والتفكير والنقاش، يتحرر تلقائيًا من تلك النماذج، لكن الحقيقة أن الكثير من تلك الأفكار تظل تعمل في وعيه الباطن، وتوجّهه بشكل غير مباشر، حتى وهو يظن نفسه حرًا.
إذن المطلوب من المثقف هو التحرر، لكن التحرر من النماذج الجاهزة ليس بالأمر السهل، بل هو معركة فكرية شاقة تتطلب شجاعة داخلية وممارسة دائمة للنقد الذاتي. إن المثقف الذي يريد أن يظل أمينًا لمهمته الأخلاقية والمعرفية لا بد أن يكون في حالة مراجعة دائمة، لا فقط لما حوله، بل لما في داخله من مسلمات. فكل نموذج فكري هو في نهاية المطاف أداة لفهم العالم، وليس العالم ذاته. والمشكلة الكبرى تنشأ حين تتحول الأداة إلى صنم، أو حين يخلط المثقف بين النموذج والواقع، فيظن أن ما يراه من خلال عدسة فكره هو الحقيقة المطلقة، لا مجرد تأويل من بين تأويلات ممكنة.
لقد أظهرت التجارب الفكرية الكبرى عبر التاريخ أن النهضة الحقيقية لا تأتي من المثقفين الذين يكررون خطاب النموذج السائد، بل من أولئك الذين يمتلكون الجرأة على كسر الإطار، وطرح أسئلة جديدة، والخروج عن النسق عندما يعجز عن تقديم أجوبة صالحة للعصر. المثقف النقدي لا يكتفي بإصلاح النموذج من الداخل، بل يسعى أحيانًا إلى تجاوزه كليًا، عبر اقتراح نماذج جديدة تنبع من حاجات واقعية وتجارب معاشة، لا فقط من تراكم نظري منفصل عن الأرض. وعلى الجانب الآخر، لا يمكن إنكار أن للنماذج الفكرية دورًا تنظيميًا مهمًا في توجيه الجهد الثقافي، فهي توفر أفقًا عامًا للفهم، وتمنح نوعًا من الاستقرار المؤقت للمعنى في عالم يعج بالفوضى والتعقيد. غير أن هذا الدور يجب أن يكون مرحليًا ومفتوحًا دائمًا على إمكانيات التغيير. فالمثقف الذي يحوّل النموذج الفكري إلى هوية ثابتة لا يدافع إلا عنها، يفقد بالتدريج قدرته على الابتكار والتفاعل مع المتغير، ويصبح مجرد حامل لراية ماضٍ فكري لم يعد صالحًا بالكامل لمواجهة تحديات الحاضر.
ومن هنا، فإن مسؤولية المثقف لا تكمن فقط في إنتاج المعرفة، بل أيضًا في تفكيك الأطر التي تُنتج هذه المعرفة. عليه أن يتعامل مع كل نموذج فكري بوصفه منتجًا بشريًا له ظروفه وحدوده، وليس بوصفه نصًا مقدسًا. وهذا يتطلب قدرًا عاليًا من المرونة الذهنية والانفتاح على التعدد والاختلاف، لأن المثقف حين ينغلق داخل نموذج واحد يُضيّق على نفسه فضاء التفكير، ويصبح غير قادر على رؤية ما هو خارج إطار مألوفه المعرفي.
وفي الختام، يمكن القول إن المثقف الحقّ هو ذاك الذي لا يُغويه الانتماء التام لأي نموذج فكري، ولا يقع في أسر العداء الكامل له. بل يتعامل مع النماذج باعتبارها أدوات عمل مؤقتة، قابلة للتطوير أو حتى الإلغاء، ويجعل من فكره مساحة مفتوحة دائمًا للتساؤل، والمراجعة، والتحول. فحرية التفكير لا تتحقق إلا حين يتجاوز المثقف أسر النموذج، دون أن يُنكر قيمته أو يتنكر لأهميته، ويجعل من عقله مختبرًا دائمًا للبحث، لا مستودعًا لتخزين الأفكار الجاهزة. وهذا هو التحدي الأكبر للمثقف في زمن تتصارع فيه النماذج، وتُفرض فيه الأطر على نحو قد يبدو حتميًا، لكنه في عمقه لا يعدو أن يكون تحديًا إضافيًا لحرية الإنسان وقدرته على التفكير المستقل.
مراجع المقال:
1. ما بعد الحداثة والتفكيك – أحمد يوسف، دار رؤية للنشر، 2007.
2. المدينة في تفكير الغرب – شحاتة صيام، دار قباء، 2011.
3. في نقد الحاجة إلى الإصلاح – حسن حنفي، دار الفكر المعاصر، 1999.
4. ثقافتنا في مواجهة العصر – جلال أمين، دار الشروق، 2002.
5. الذات والعنف – أمارتيا سن، ترجمة فؤاد شاهين، المركز القومي للترجمة، 2010.
6. الهويات القاتلة – ريجيس دوبريه، ترجمة عبد الله إبراهيم، دار الكتاب الجديد، 2001.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)
- نبيّ الخمرة ونقّاد الوهم: تفكيك قصة (دمية راقصة) للكاتب عبد ...
- تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)
- المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)
- جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي
- المثقف المقولب في عصر العولمة: تحديات وآفاق(30)
- المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)
- القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
- المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
- أوجاع غير قابلة للغفراف
- الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
- هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18


المزيد.....




- مصادر لـCNN: -الترويكا الأوروبية- من المرجح أن تعيد فرض عقوب ...
- بالتزامن مع افتتاح معرض دمشق الدولي.. غارات إسرائيلية تستهدف ...
- صيف بريطانيا 2025 يسجل أعلى رقم قياسي في درجات الحرارة منذ 1 ...
- فتح تحقيق في إطلاق نار بمدرسة كاثوليكية في مينيابوليس الأمري ...
- إسرائيل تهدد بوقف تمويل منظمة دولية أكدت مجاعة غزة
- قبول ترشح الرئيسة التنزانية لانتخابات أكتوبر واستبعاد أبرز م ...
- عاجل | مصدر عسكري سوري للجزيرة: الجيش الإسرائيلي نفذ إنزالا ...
- -الكابينت- يبحث الأحد السيادة على الضفة الغربية
- أردوغان: القبة الفولاذية تنقل تركيا لمستوى جديد في الدفاع ال ...
- غانا تكثف جهودها لمواجهة تسلل الجماعات المسلحة عبر الحدود


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - النماذج الفكرية كيف تؤثر على المثقف(34)