أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)















المزيد.....

المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 00:21
المحور: قضايا ثقافية
    


المثقف المقولب هو ذلك الذي يتنازل – تدريجيًا أو دفعة واحدة – عن صوته الخاص لصالح صوت الجماعة، الحزب، المؤسسة، أو السلطة التي تحتضنه. وفي هذا التنازل تتكثف الإشكالية: هل نحن إزاء فقدانٍ مؤلمٍ للأصالة، أم إزاء اكتسابٍ لقوة لا تتحقق إلا عبر التموقع داخل بُنى مؤسسية نافذة؟ السؤال مزدوج، ملتبس، ومتعدد الأبعاد.
في المستوى الأول، يبدو واضحًا أن القولبة هي نقيض جوهري للأصالة. فالمثقف الأصيل لا يلتزم قالبًا، بل يُعذّب القوالب ويقلقها. هو في حالة تشكيك دائم، لا يركن إلى استقرار فكري، ولا يطمئن لولاء أيديولوجي مغلق. إن الأصالة هنا ليست زخرفًا لغويًا، بل هي ذلك الوجع الداخلي الذي لا يهدأ إلا بالمخاطرة، ولا يرتاح إلا في التمرّد. حين يتنازل المثقف عن هذا الألم الخلّاق، ويستبدله براحة الانتماء السلس، يصبح صدى لا صوتًا، ويغدو أداةً في خدمة بنيةٍ لا يملك فيها إلا هامش الحركة داخل الأسوار. من هنا، يمكن القول إن القولبة تُجفّف ينبوع الحرية داخل المثقف، وتجعله يكتب أو يتكلم أو يُحلّل ضمن الحدود المسموح بها، متخليًا عن عنف التساؤل وقلق التجاوز.
لكن الوجه الآخر لهذا الواقع لا يقلّ تعقيدًا. إذ إن القولبة تمنح المثقف في كثير من الأحيان نوعًا من القوة. قوة الحضور، النفوذ، التأثير، بل حتى الاحترام الاجتماعي. فالنظام الاجتماعي بطبعه لا يحبّ الشذوذ، ولا يرتاح للأصوات المتفرّدة، بل يفضل المثقفين "القابلين للتطويع"، الذين يمكن ضبطهم داخل خريطة المصالح أو التوجهات العامة. ومن هنا، فإن المثقف الذي يقبل بالانضواء في مؤسسة فكرية أو إعلامية أو سياسية واضحة المعالم، غالبًا ما يُكافأ بمنبر أوسع، وجمهورٍ أكبر، وربما مكانةٍ رمزية أعلى. القولبة هنا تصبح أداة إنتاج للقوة لا عبر الفكر المستقل، بل من خلال الانسجام مع خطاب نافذ. وهذه المفارقة هي لبّ الإشكال. فبين الأصالة التي قد تقود إلى العزلة والتهميش، والقوة التي قد تُكسب المثقف سلطة على حساب حريته، يبدو الخيار مؤلمًا. فالحرّ يخسر دائمًا أمام المنظّم، والمستقلّ غالبًا ما يتكلم من الهوامش لا من المركز. ومن هنا قد يُغرى المثقف بالتنازل الجزئي، يعتقد أن قليلاً من القولبة لا يضر، وأنّ الولاء المؤقت قد يكون ثمنًا مقبولًا لفاعلية أكبر. غير أن التاريخ الفكري لا يرحم هذه التسويات؛ فكل مثقف نزل عن صوته، حتى لو مؤقتًا، غالبًا ما لم يعد إليه.
إن المثقف المقولب لا يخسر فقط نبرته الخاصة، بل يخسر كذلك قدرته على الرؤية الحرة. فحين يكرّر خطابًا مفروضًا عليه، يصبح جزءًا من آلة لا تنتج معرفة بل تكرّس سلطة، أياً كان نوعها. والأسوأ من ذلك، أن هذه القوة المكتسبة ليست ذاتية، بل مشتقة، معلّقة على رضا الآخر، لا على صدق الذات. وهكذا يتحوّل المثقف إلى "وظيفة" لا "رسالة"، وإلى "بوق" لا "صوت"، مهما كانت زينته البلاغية أو مكانته المؤسسية.
ولعل أبرز ما يتكشّف في هذه المفارقة، هو أن الأصالة والقوة غالبًا لا تجتمعان في زمن الانغلاق أو التبعية، بل تتحقق الأصالة حين يفقد المثقف القوة المصطنعة لصالح قوّة داخلية، فكرية، أخلاقية، لا تُقاس بالمنبر بل بالموقف. الأصالة إذًا، ليست خيارًا جماليًا، بل هي قيد وجودي لمن أراد أن يكون مثقفًا لا مروّجًا، باحثًا لا تابعًا، صانعًا لا مكرّرًا. أما القوة التي تأتي من القولبة، فهي سلطة مزيّفة، مؤقتة، مشروطة، تُفقد صاحبها جوهر ما يميّزه: الحريّة.
ربما يكون الخيار في النهاية شخصيًا. لكن التاريخ، حين يفرز الأسماء، لا يحتفظ كثيرًا بالمقولَبين، حتى لو احتلوا الصفحات الأولى. إنه يحتفظ بأولئك الذين كتبوا خارج القالب، ولو بيدٍ مرتجفة.
إن المثقف الذي يرضى لنفسه أن يُصبّ في قالب، مهما كان هذا القالب براقًا، يُراهن على ما هو آنيّ وزائل، ويهجر ما هو جوهريّ وأبديّ. فهو في سعيه إلى القبول الاجتماعي، أو التموقع داخل مراكز القرار، أو الاحتماء خلف خطاب مؤسسي جاهز، يتنازل – ببطءٍ وخفاء – عن أكثر ما يجعله جديرًا بلقب "مثقف": قدرته على أن يكون ناقدًا للواقع، لا ناطقًا باسمه. هذا لا يعني أن كل مثقف داخل مؤسسة هو بالضرورة مثقف مقولب؛ ولكن التحدي يكمن في الحفاظ على الاستقلال الداخلي، على درجة من التوتر النقدي، وعلى مسافة واعية بين الانتماء والانغماس، بين الالتزام والانصهار. المثقف الأصيل قد يكتب من داخل النظام، ولكن بشرط أن يُبقي عينه مفتوحة على هوامشه، وأن يتقن لعبة التوتر بين الداخل والخارج، بين الولاء للحق والواقع المفروض.
لقد أظهر التاريخ - مرارًا - أن التغييرات العميقة لا يصنعها أولئك الذين قالوا ما أراد الناس أو السلطة أو الجماعة سماعه، بل أولئك الذين قالوا ما كان ينبغي أن يُقال، وإن رفضوه. المثقف الحقيقي، في جوهره، هو حاملُ قلقٍ، لا حاملُ راية، هو مشكّك في الخطاب السائد، لا مؤطّر له. هو من يتجرأ على كسر القوالب، لا من يسكن داخلها مطمئنًا.
وفي المجتمعات التي تمرّ بمراحل من التكلّس أو الاستبداد أو التحوّل، تزداد الحاجة إلى هذا المثقف القادر على الخروج من النسق، على الانفلات من القولبة، على استعادة المعنى الحقيقي للفكر: وهو أن يكون فعل حرية، ومغامرة عقل، لا مجرد وظيفة خطابية.
إن خسارة القوة المؤسسية لا تعني الضعف، كما أن اكتساب المنصة لا يعني دائمًا التأثير الحقيقي. فالقوة التي تُمنح، قد تُسحب في لحظة، أما الأصالة، فهي لا تُهدى ولا تُصادَر. إنها تُبنى مع كل موقف شجاع، مع كل فكرة مُغايرة، مع كل انحياز للحقّ على حساب المصلحة.
المثقف المقولب يربح موقعًا، لكنه يخسر وجهه. يربح جمهورًا، لكنه يفقد بوصلة. يربح صوتًا، لكنه ليس صوته. أما المثقف الأصيل، فحتى حين يُقصى، أو يُسكت، أو يُهمَّش، فإن صوته يتردّد في المستقبل، لأن المستقبل لا يحفظ إلا ما كان صادقًا.
وفي النهاية، لا تبقى من المثقف إلا كتابته. لا المناصب، ولا المنافذ، ولا التصفيق. وحدها الكلمات التي قالها وهو حرّ، وهي مشتعلة بالشكّ، البصيرة، والجرأة، هي التي تنجو من الغبار، وتُخلَّد في ذاكرة الإنسانية. فالمثقف، لكي يكون كذلك حقًا، لا بد أن يختار: أن يكون صدى القالب، أو صوت الإنسان.
مراجع المقال:
1.عبد الله العروي – الإيديولوجيا العربية المعاصرة.
2. علي حرب – نقد النص / نقد الحقيقة.
3. محمد عابد الجابري – الخطاب العربي المعاصر.
4. برهان غليون – اغتيال العقل.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نبيّ الخمرة ونقّاد الوهم: تفكيك قصة (دمية راقصة) للكاتب عبد ...
- تأثير التكنولوجيا على قولبة أفكار المثقف(32)
- المثقف والقيود الذاتية: هل المثقف يصنع قيوده؟(31)
- جسر على نهر الاسئلة: الشاعر طه الزرباطي
- المثقف المقولب في عصر العولمة: تحديات وآفاق(30)
- المثقف والحدود الفكرية: كيف تُرسم(29)
- القولبة الفكرية: خطر على الحوار الثقافي(28)
- المثقف كصانع قوالب أو كضحية لها؟(26)
- أوجاع غير قابلة للغفراف
- الضغوط المؤسسة على حرية المثقف(26)
- هل سيتعافى العراق بعدما حلّ به من دمار؟
- المثقف المقولب: نمطية الفكر أم تنوعه؟(25)
- تشكيل الأفكار: هل هو فعل واع أم ملقن؟(24)
- المثقف بين الانصياع والتمرد الفكري(23)
- تأثير البيئة على قولبة أفكار المثقف(22)
- المثقف والمسلّمات: حدود التفكير الحُر(21)
- المثقف المقولب: نهاية الابتكار أم بدايته؟(20)
- صناعة الاتجاهات: كيف توجه أفكار المثقفين(19)
- المثقف في مواجهة القالب الاجتماعي(18
- التفكير النمطي: خطر على أصالة المثقف(17)


المزيد.....




- -توبيخ في القصر -..توماس باراك يثير استياء الصحفيين في لبنان ...
- بريطانيا تقرر محاكمة 67 من المحتجين على الإبادة الإسرائيلية ...
- حكومة غزة تفند رواية الاحتلال بشأن مجزرة الصحفيين
- شاهد.. أسباب تألق مدغشقر وتأهلها لنهائي الشان
- جنرال إسرائيلي متقاعد: نتنياهو يعرف إستراتيجية واحدة هي الهر ...
- 10 مشتتات في الغرفة تسرق راحتك.. تجنبها لنوم أفضل
- ما أسباب المخاوف من اندلاع حرب جديدة في تيغراي؟
- غياب الرئيس الليبيري عن يوم العلم الوطني يقلق الأوساط السياس ...
- الغابون تسعى إلى الخروج من أزمة الكهرباء؟
- الحرب على غزة مباشر.. أكثر من 50 شهيدا بالقطاع وعشرات الجرحى ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - داود السلمان - المثقف المقولب: فقدان الاصالة أم اكتساب القوة؟(33)