الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8438 - 2025 / 8 / 18 - 09:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
واقع الفقر
تكشف البيانات الرسمية الواردة في دراسة نشرتها منصّة "كل أوروبا" ( تموز/يوليو 2024) إن نحو 20% من سكان الإتحاد الأوروبي مهددون بالفقر أو الإقصاء الاجتماعي، ونشرت شركة ستاتيستا الألمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين تقريرًا قَدَّرَ "إن نحو مائة مليون شخص أو 20% من سُكّان دول الإتحاد الأوروبي معرضون لخطر الفقر أو الاستبعاد الاجتماعي"، بفعل انحسار دَوْر الدّولة أو انسحابها من احتواء التفاوتات بواسطة أنظمة الدّعم الإجتماعي، مما رَفَعَ من عدد الأفراد الذين يعيشون على هامش المجتمعات الأوروبية، أو العاجزين عن مواجهة مصاريف الحياة الأساسية كالسكن والطّاقة والرعاية الصحية والتعليم والنّقل، وتُخفي هذه النسب تفاوتًا بين فنلندا التي بلغ معدّل الفقر بها أقل من 6%، وفرنسا ( 9,2% ) وبلغاريا (16% ) وإسبانيا ( 13,7% ) وإيطاليا ( 13% ) في إسبانيا، ولم يعد العمل يُمثل حماية أو "تأمينًا" ضدّ الفَقْر، إذْ قدّرت البيانات الرسمية للإتحاد الأوروبي ( يوروستات) إن نحو 10% من العاملين في الاتحاد الأوروبي يعيشون تحت خط الفقر، سنة 2023.
خلل هيكلي
تعتمد الدّوَل والمُؤسسات الدّولية على حجم الناتج المحلي الإجمالي لقياس قوة الإقتصاد وعلى نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي، وهي معايير كَمِّيّة، ومعدّلات ( مثل حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي) لا شأنَ لها بالتّنمية ولا بتوزيع الثروات، ولذلك فإن ارتفاع حجم الإقتصاد ( الناتج المحلي الإجمالي) لا يعني تحسُّنًا في ظروف عيش الأغلبية أو انخفاض نسبة الفقر أو ارتفاع الرواتب وقد يعني ارتفاع ثروة الأثرياء بشكل غير متناسب مع عددهم ومع الجُهْد الذي قد يبذلونه لتعظيم ثرواتهم، وأظهرت البيانات في أمريكا الشمالية والإتحاد الأوروبي ارتفاع عدد العقود والوظائف الهشّة مقابل انخفاض الوظائف الثابتة، وازدياد احتمالات التّهديد بالفقر لفئة كبيرة من السّكّان العاملين ( في المناطق الحَضَرية أو في الأرياف) وغير العاملين، بسبب خفض الإنفاق الإجتماعي وبسبب سوء توزيع الثروة، مما جعل فئات عديدة من السّكّان عاجزة عن توفير الضّروريات، وارتفع عدد الفُقراء والمُهمّشين – بمن فيهم العاملون - بشكل لافت في ألمانيا وفرنسا، أكبر اقتِصادَيْن أوروبِّيّيْن، إذا اعتبرنا الفقير هو من لا يحصل على دخل يكفي لتلبية الحاجيات الأساسية كإيجار السّكن والطاقة والدّواء وتعليم الأبناء، ولو كان عاملا بدوام كامل، وفق مؤشّر الإتحاد الأوروبي للفقر ومرصد اللّامُساواة (فرنسا 2024 ) الذي يُركّز على ارتفاع عدد العاملين الفقراء (وهي ظاهرة تتجاوز فرنسا وتُؤَشِّرُ إلى خلل هيكلي في الرأسمالية النيوليبرالية) وعلى اتساع الفجوة في الدّخل والرواتب، بين المدير التنفيذي والعامل أو الموظف في أدنى درجات السّلّم الوظيفي، مما يُعرقل طموح أغلبية العاملين في تحسين مستوى عيشهم، ولذا وجب دراسة الجوانب المُتعدّدة ( أو الأبْعاد المتعدّدة) لمسألة الفَقْر في أوروبا التي تتضمن فُرص العمل المحدودة وهشاشة عُقود العمل وانخفاض قيمة الدّخل الحقيقي وانزلاق بعض الفئات الوُسْطى نحو الأسفل، وإلغاء منظومة الدّعم الإجتماعي، ويُشير المرصد الفرنسي إلى "الفَقْر غيْر الظاهر" للمواطنين الفُقراء الذين لا تشملهم عمليات الإحصاءات الرّسمية وهذا حال الكثير من فقراء أوروبا الذين لا يُحسبون ضمن الإحصاءات الرسمية، ويُشير موقع "يوروستات" ( مكتب الإحصاء الأوروبي) بنهاية حزيران/يونيو 2025 إلى ارتفاع حجم دُيُون الأفراد والأُسَر، مما يُشير إلى اتّساع دائرة الفَقْر غير المَرْئي أو المُقَنّع في بلدان الإتحاد الأوروبي، بسبب تضخم أسعار السكن والطاقة والغذاء، وثبات أو ضعف نمو الأجور التي أصبحت لا تكفي لتغطية النفقات الأساسية،وبسبب انعدام الأمان الوظيفي، وتجميد التوظيف الحكومي ( باستثناء قطاع الأمن) ونشرت شبكة يورونيوز تقريرًا يوم 13 حزيران/يونيو 2025 يُشير إلى ارتفاع نسبة الأطفال المعرّضين لخطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي داخل الاتحاد الأوروبي بنهاية سنة 2024، ليصل عدد هؤلاء الأطفال إلى نحو 19,5 مليونًا، أي ما يُعادِلُ 24,2% من مجموع الأطفال، مقابل 20,3% من الأوروبيين البالغين، وتُظهر بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي (يوروستات) ارتفاع فَقْر الأطفال في العديد من بلدان أوروبا ( فرنسا وبلجيكا وإسبانيا ورومانيا ومالطا ) فيما تتصدر بلغاريا الدول الأوروبية من حيث خطر الفقر والإقصاء الاجتماعي لدى الأطفال بنسبة 35,1%، تليها إسبانيا (34,6%) ورومانيا (33,8%)، إلى جانب الدول التي سجلت انخفاض أو ضُعْفَ الحماية الاجتماعية، مقابل حُصُول الأُسَر الثّرية على إعفاءات ضريبية هامّة...
فرنسا – نموذج أزمة الفئات الوُسْطى
تُعد فرنسا نموذجا معبّرا عن أزمة الفئة الوسطى من المجتمعات الأوروبية التي فقدت "نعمة الإستقرار" الذي كان يُميّزها، وفق دراسة نشرها "معهد مونتين" (Institut Montaigne ) سنة 2024، تحت عنوان "الطبقة الوسطى: التوازن المفقود"، وفي الواقع تُعدّ عبارة "الفئات الوسطى" ( أو الطّبقة الوُسطى كما يُشاع) فضفاضة وغير دقيقة، وتفتقد إلى التّجانس لأن أفرادها غير مُتساوِين في الدّخل والوضع الاجتماعي وأنماط الاستهلاك، ولكن العديد من الأُجَراء والتّجّار والفلاحين يَشْعرون اليوم بعدم الأمان بفعل تراجع مستوى عيشهم وتدهور ظروف حياتهم وضبابية مُستقبل أبنائهم، لأن التعليم لم يعد يُشكل ضمانًا للوظيفة والدّخل المُحْتَرَمَيْن، واقتصر الإرتقاء في درجات السُّلّم الإجتماعي على أبناء الأثرياء، وأصبحت هذه الفئة تُعاني من جمود أو انخفاض الدّخل الحقيقي ومن تقلبات السوق وسياسات التقشف أو الضرائب غير المتوازنة، ومن تدهور مكانتها في المجتمع الذي تخلّى عن اعتماد الكفاءة كمقياس للترقِّي الإجتماعي، ومن ارتفاع احتمال التّعرّض للهشاشة والإقصاء، ولا يقتصر هذا التّوْصِيف على فرنسا لوحدها، بل يشمل العديد من دول الاتحاد الأوروبي، حيث تتجلّى ظاهرة ارتفاع ثروة الأثرياء ليزدادوا ثراءً بشكل استفزازي، وازدياد فقر الفُقراء، مما أحدث خلَلا في بُنية المجتمعات الأوروبية ( وكافة الدّول الرأسمالية المتطورة)، مما يُقوّض "النموذج الديمقراطي" الذي تبجّحت به أوروبا، حيث استفاد اليمين المتطرف من تراجع ثقة المواطنين في المؤسسات التقليدية، وفق دراسة معهد مونتاني المذكورة التي لاحظ مُعِدُّوها "انهيار العقد الإجتماعي ومفهوم المُواطنة الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية"، مما يُهَدّد المجتمعات الأوروبية بفقدان توازنها الداخلي، جراء انهيار الفئات الوسطى، وإقصاء الفقراء والمُهَمَّشِين والكادحين نحو الأحياء الطَّرَفِيّة وضواحي المُدن الكبرى التي أصبحت رمزًا حيًّا لسوء الخدمات وغياب التنمية الإجتماعية وصعوبة الحصول على سَكَن لائق وفُرص عمل ورعاية صحية ملائمة، ورمزًا للتفاوت الاجتماعي وفق تقرير أصدرته المفوضية الأوروبية سنة 2024، يُشير ( استنادًا إلى البيانات الرسمية للدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي) إلى ارتفاع معدلات الفقر والإقصاء وصعوبة الخروج من دائرة الفقر في هذه الأحياء الطَّرَفِيّة التي لم يعد يُؤمن سكانها ب"تكافؤ الفُرَص"، ولا تقتصر آثار هذا التهميش على المؤشرات الاقتصادية، بل تمتد إلى البنية النفسية والاجتماعية للسكان، إذ يولّد الفقر المتوارث شعورا باللاجدوى، ويُعزز من ضعف الثقة في الدولة ومؤسساتها مما يُشكّل مُؤشّرًا للخلل الاجتماعي البنيوي. (تقرير المفوضية الأوروبية بعنوان "شروط الحياة في أوروبا.. الفقر والإقصاء الاجتماعي" – 2024 )
ألمانيا
تُعَدّ ألمانيا قاطرة الإقتصاد الأوروبي، غير إن هذه القُوّة الظّاهرة تُخفي تفاوتات مُجحفة وأقَّرت الحكومة الألمانية ( بداية شهر نيسان/ابريل 2025) إنشاء صندوق استثماري بقيمة 1,1 تريليون يورو لتحديث البنية التحتية، وتعزيز قطاعات الصحة والتعليم، ودعم الاقتصاد الذي يواجه تحديات متزايدة، وقد اضطر البرلمان الألماني لتعديل الدّستور وإقرار الخطة، المناقضة لسياسة (كبح الديون)، ما أتاح للحكومة إمكانية الاقتراض الضخم، بعد أن حظي القرار بموافقة أكثر من ثلثي أعضاء البوندستاغ ( البرلمان الإتحادي) كشرط دستوري...
يأتي الاستثمار في ظل ظروف اقتصادية وسياسية صعبة؛ فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تكبد الاقتصاد الألماني خسائر فاقت 280 مليار يورو (310 مليارات دولار) خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى جانب تقديم أكثر من 40 مليار يورو (44,27 مليار دولار) كمساعدات عسكرية لأوكرانيا، كما شهدت ألمانيا ركودًا اقتصاديًا للعام الثالث على التوالي، مما دفع أكثر من 55 ألف شركة إلى إعلان إفلاسها منذ بدء الحرب الأوكرانية، وفق معهد إيفو لأبحاث الاقتصاد الذي يُشير إلى تراجع "تَنافُسِيّة" اقتصاد ألمانيا وتراجع دورها الذي كان جاذبًا للإستثمارات واعتبرت حكومة الإئتلاف بزعامة الحزب الدّيمقراطي الإجتماعي ( مع الخُضْر) أو بزعامة الحزب الدّيمقراطي المسيحي إن حل معضلة تراجع القوة الاقتصادية الألمانية يتمثل في "تنفيذ إصلاحات تشمل تخفيض الضرائب عن الشركات وتقليص البيروقراطية، و زيادة الاستثمار في البنية التحتية العامة وتعزيز أمن الطاقة وتقديم حوافز أكبر للعمالة، والتّركيز على مجالات التكنولوجيا المتقدمة كالرقمنة والأقمار الصناعية للاستطلاع، والاتصالات الآمنة والطائرات من دون طيار وتعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية ( بقيادة ألمانيا)، وتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الخارجية، خاصة في مجالات المواد الخام والطاقة، وتقليل التبعية الأوروبية للولايات المتحدة..." وفق معهد إيفو لأبحاث الاقتصاد...
رحبت اتحادات الصناعة والمستثمرون بخطة الحكومة الألمانية إنشاء صندوق استثماري وتشمل الخطّة استثمارات ضخمة مثل 500 مليار يورو (553,5 مليار دولار ) لتطوير البنية التحتية ( الطرقات والسكك الحديدية ) ومائة مليار يورو (110 مليارات دولار) لدعم البيئة والمناخ، وأصْدَرَ اتحاد الصناعات الألمانية بيانًا يُثَمِّنُ "أهمّيّة دعم الإبتكار والشّركات النّاشئة (...) إن هذه الاستثمارات ستكون حاسمة في تحفيز النمو، ومن الضروري تعزيز رقمنة الدولة لتكون أكثر دعمًا للشركات، إذ يجب أن تصبح البنية التحتية الرقمية والتنظيم المشجع للابتكار ودعم الصناعات الإستراتيجية مثل أشباه المواصلات والبطاريات، في صدارة الأولويات لتبقى ألمانيا رائدة الإقتصاد الأوروبي... "
تُشير هذه التّعليقات إلى ضرورة دعم رأس المال من قِبَل الدّولة ( أي من المال العام والدُّيُون) "وتقديم إعفاءات ضريبية لدعم الاستثمار وتعزيز التوظيف"، فيما تُشير بعض الدّراسات الأكاديمية إلى "توجيه الأموال نحو تطوير البُنْيَة التّحتيّة والمدارس والجامعات وتحسين مستوى الرعاية الصحية ودعم الرَّقْمَنَة والتكنولوجيا، لإعادة إحياء الاقتصاد المتباطئ..." وأهملت هذه الدّراسات رواتب العاملين وتحسين ظروف عيش السّكّان، وخصوصًا المُتقاعدين، وارتفاع نِسب الفقر...
ارتفاع الإنفاق العسكري زمن الأزمة
أدّى قرار رصد ميزانية مفتوحة للجيش والصناعات العسكرية واستثمار مبالغ ضخمة لتطوير الجيش وقوات الأمن، إلى صفرة غير مسبوقة لقطاع صناعة الأسلحة، وتهدف الحكومة الألمانية جعل الجيش الألماني الأقوى في أوروبا، وانتعاش الإقتصاد بواسطة عَسْكَرَتِهِ، بعد عامين من الركود، واقتراض 465 مليار دولار ( 400 مليار يورو) لتحسين البنية التحتية المتهالكة والتعليم والصحة، و116 مليار دولارا ( مائة مليار يورو) لحماية المناخ، وتمثل الميزانية المفتوحة ( بدون سَقَف) للصناعات العسكرية عودة إلى فترة الحكومة النّازية التي جعلت من القوة العسكرية والأمن ( القمع ) أساسًا لسياستها، وبرّر معهد أبحاث الاقتصاد الألماني زيادة الإستثمار العسكري بدَوْرِه في "الخروج من فترة الرُّكُود لأن المكاسب الإنتاجية الناجمة عن الإنتاج العسكري قد تكون كبيرة، خاصة تلك المرتبطة بالبحث والتطوير..."، ورحّبت ولاية بافاريا (جنوب ألمانيا) بزيادة الإنفاق العسكري، لأن الولاية تضم أهم مواقع التجهيز العسكري والمركبات والطائرات وغيرها من المعدات، حيث يعمل حوالي 45 ألف شخص في قطاع الدفاع والأمن في الولاية، وأدى رفع الميزانية الدفاعية في ألمانيا إلى ارتفاع أسهم الشركات المصنعة للأسلحة، وفق اتحاد الصناعة البافاري، غير إن الولايات المتحدة ربطت زيادة الإنفاق العسكري لأعضاء حلف شمال الأطلسي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي بشراء السلاح والمعدّات من الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني...
الوجه الخفي للقُوة الألمانية
تُعدّ ألمانيا أكبر اقتصاد أوروبي وثالث أكبر اقتصاد عالمي، ومع ذلك أعلن مكتب الإحصاء الاتحادي يوم الأربعاء العاشر من نيسان/ أبريل 2024، استنادًا إلى النتائج الأولية لمسح حول الدخل والظروف المعيشية، أن 17,7 مليون شخص في ألمانيا كانوا تحت خط الفقر أو الإقصاء الاجتماعي خلال العام 2023، ما يعادل 21,2% من السكان، وبالمقارنة مع العام السابق ( 2022)، فقد بقيت النسبة تقريبًا دون تغيير، ويُعتَبَرُ الفرد مُعرّضًا لخطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي، وفق معايير الإتحاد الأوروبي، إذا كان دخله أقل من خط الفقر، أو أن تعاني أسرته من حرمان مادي واجتماعي شديد، أو أن يعيش في أسرة تشارك بشكل محدود في سوق العمل ويمكن تحديد نسبة المتضررين بناءً على كل من هذه الحالات، وتنطبق هذه المعايير على 20% من المتقاعدين أو حوالي 3,4 مليون شخص فقير تفوق أعمارهم 65 سنة، من إجمالي حوالي 17 مليون مواطن مُسِنّ في ألمانيا، من أجمالي 83,5 مليون نسمة، وبدأ فقر المُسِنِّين يطول الفئات المتوسطة، فيما تعاني ألمانيا من احتمال انخفاض عدد سُكّانها وانخفاض حجم الفئة القادرة على العمل، بينما ارتفع عدد المُشرّدين وعدد المُصْطَفِّين في الطوابير للحصول على مواد غذائية مجانية، وعدد المتقاعدين الذين يبحثون عن زجاجات فارغة لإعادتها إلى المتاجر مقابل بعض السّنْتَات، في العاصمة برلين كما في معظم المدن الألمانية، وهذا هو الوجه الآخر الخَفِي لارتفاع الثروة وارتفاع أجور الكوادر والمُديرين خلال السنوات القليلة الماضية، وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 21,3% من السكان (أكثر من 25,5 مليون شخص) يعيشون تحت خط الفقر أو مهددون بالإقصاء الاجتماعي سنة 2024، وفقا للمكتب الاتحادي الألماني للإحصاء الذي تُشير بياناته إن 14,4% من سكان ألمانيا مهددون بخطر الفقر ( فضلا عَمّن يعيشون تحت خط الفقر أو هم فُقراء حاليا)، ويتم تعريف الشخص كفقير في الاتحاد الأوروبي إذا كان دخله أقل من 60% من متوسط الدخل الشهري للفرد في بلده، ويُقاس مستوى الفقر في ألمانيا بدخل شهري صافي يقل عن 1200 يورو (1250 دولارا) شهريا للفرد أو أقل من 2410 يورو (2510 دولارات) لعائلة مكونة من أبوين وطفلين، وتتمثل زيادة الفقر الظّاهر في ألمانيا بطول الطوابير أمام بنوك الطعام، وخصوصًا من المُسنّين، أما ما هو غير ظاهر فيتمثل في التفاوت في توزيع الثروة ووجود فئات تعاني من صعوبات اقتصادية، وأخرى متخمة، في ظل غياب سياسات اجتماعية واقتصادية تعزز تكافؤ الفرص وتقديم الدعم للفئات المحتاجة، وصرّح متحدث باسم بنك الطعام "تافل" ( قرابة أَلْف فَرع في ألمانيا)، إن التضخم وارتفاع الأسعار جعلا معاشات التقاعد غير كافية لتغطية الاحتياجات الأساسية، وإن الناس يواجهون أوضاعا صعبة أكثر من أي وقت مضى، لتفسير ارتفاع أعداد المتقاعدين المترددين على بنوك الطعام للحصول على مواد غذائية، جمعتها بنوك الطعام من المتاجر الكبرى والمخابز، واضطرت بنوك الطعام إلى تقليص كميات الطعام الموزعة لكل شخص لضمان استفادة أكبر عدد ممكن، بسبب ارتفاع أعداد المحتاجين منذ ثلاث أو أربع سنوات...
يُمثّل الفَقْرُ في ألمانيا مشكلة تعود بعض أسبابها إلى الارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة، مقابل ثبات الأجور وعدم كفاية معاشات التقاعد، رغم النظام الاجتماعي الذي يوفر الحد الأدنى من الحماية، لكنه لا يكفي للقضاء على الفقر ( لأن) مكافحة الفقر مسؤولية سياسية ولا يمكن تركها بالكامل للمنظمات الخيرية مثل "تافل أو كاريتاس الخَيْرِية، وأشار المتحدّثان باسم هاتَيْن المُؤسّسَتَيْن "إن الفقراء غالبا ما يعيشون في شقق غير ملائمة أو صغيرة، بعيدا عن مواقع العمل والمدارس، وينفق معظمهم أكثر من نصف دخلهم على تكاليف السكن، ومن المؤسف إن نحو 70% من الأشخاص الذين عانوا من الفقر خلال السنوات الخمس الماضية سيستمرون في هذه الحالة خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يعكس قلة الفرص المتاحة وندرة الوظائف ذات الأجر الكافي لتأمين حياة كريمة، حيث يحتاج الفرد في ألمانيا إلى ما لا يقل عن 650 يورو (677 دولارا) شهريا للحصول على غذاء صحي، في ظل ارتفاع نسبة البطالة إلى 6% وفق المكتب الاتحادي للإحصاء، ولا يتجاوز الدّخل الشهري للعاطلين عن العمل 560 يورو، وبشكل عام لا يحمي نظام الضمان الاجتماعي الأساسي من الفقر، ولم تُقدّم برامج الأحزاب المُمثّلة في البرلمان الإتحادي حلولا جذرية لمشكلة الفقر في ألمانيا...
بين خطاب "تكافؤ الفُرَص" وممارسة الإقصاء
وُلِدت الثورة الصّناعية والرّأسمالية في أوروبا، واستعمرت الدّوَلُ الأوروبية العالم، منذ القرن الخامس عشر، ولا تزال أوروبا تنهب ثروات البلدان الفقيرة التي تُهيمن عليها وُطْلق الحروب من أجل السيطرة على الأرض والموارد، وترفض هجرة ضحايا هذه الحروب وهذا النّهب من المُعَطّلين عن العمل والمُفَقَّرِين من إفريقيا وآسيا، الذين لازالوا يحملون أوهامًا عن أوروبا بعد تغْيِير شكل الإستعمار من عَسْكَرِي مُباشر إلى استعمار اقتصادي وثقافي وأشكال أخرى من الهيمنة "النّاعمة" و"الخشنة" ( كالإنقلابات)، وتتم هذه الهيمنة بتواطؤ من الأنظمة الوَكِيلة للإمبريالية التي تُفرّط في الثروات المعدنية والأرض والبشر...
لا زال ملايين البشر من بلدان "الأطراف" يعتبرون دول الإتحاد الأوروبي ملاذًا ومعقلا لحقوق الإنسان ورَمْزًا "للّرّفاه والحضارة والرُّقِي"، لكن مبدأ الرأسمالية يتلخّص في التّوزيع غير المتكافئ للثروات، في أي بلد رأسمالي، بل إن الفجوة الطّبقية ما فتِئَتْ تتوسّع وتتعمّق بين رأس المال والعَمل أو بين الأثرياء ( الذين لا يحصلون على المال من كَدّهم وعَرقِهم، بل بالوراثة أو بالمُضاربة واستغلال البشر فضلا عن الدّعم الحكومي) والكادحين الذي لا ثروة لهم سوى جُهْدِهم أو قُوّة عملهم، وكذلك الفُقراء الذين تم تهميشهم أو تشغيلهم بدوام جُزْئي مَفْرُوض وبعقود قصيرة الأمد وغير ثابتة، واتّسعت رُقعة الفقر بعد خصخصة المرافق العامة وخفض الإنفاق الحكومي في المجالات الحيوية كالرعاية الصحية والتعليم والنقل والسّكن، بموازاة ارتفاع حجم البطالة الكُلِّيّة أو الجُزْئِيّة، فارتفعت نسبة المُشرّدين وفاقدي المأْوَى جراء ارتفاع إيجار المَسْكن وزادت نسبة من يُعانون من سوء التغذية بسبب ارتفاع أسعار الغذاء، كما تخلّى ملايين المواطنين في الدّول الرأسمالية الغنية عن العلاج بسبب خصخصة قطاع الصحة وارتفاع أسعار الدواء وارتفاع أسعار الطّاقة، رغم انخفاضها في الأسواق العالمية، وتُساهم مجمل هذه العوامل وغيرها في تقويض أُسُسَ الدّيمقراطية التّمثيلية وانخفاض عدد المُشاركين في التصويت في الإنتخابات الدّوْرِية بسبب عدم تمثيل القوى السياسية لمصلحة أغلبية المواطنين...
لذا فإن الصُّورة البَرّاقة لأوروبا ( أو أمريكا الشّمالية) هي مُجرّد قِناع أو غلاف أو مَظْهَر خارجي يُخْفِي الفوارق الطّبقية المُجْحِفَة ويَطْمس الواقع اليومي للكادحين ومَحْدُودِي الدّخل والمُهاجرين الذين يتم استغلالهم بشكل فاحش وتشغيلهم في المِهن الشاقة وغير المُجْزِيَة، وتُخفي الفوارق بين المناطق وأحياء المدن الغنية والضواحي التي يسمنها الفقراء، وبين السكان الأصليين والمهاجرين، كما تدهورَ وضع الفئات الوُسطى التي كان أفرادها يطمحون الإرتقاء في درجات السُّلَّم الطبقي ليلتحقوا بطبقة الأثرياء...
وردت أهم المعلومات من وكالة رويترز 15 شباط/فبراير و 20 تموز/يوليو 2025 + أسوشيتد برس 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 + مرصد اللاّمُساواة (فرنسا) أرقام سنة 2024، بالإضافة إلى مكاتب الإحصاء الوطنية والأوروبية.
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟