الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8423 - 2025 / 8 / 3 - 11:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أوروبا – إحياء الخطاب الإستعماري بإشراف أمريكي
يستخدم ترامب روسيا كأداة للضغط على الصين في إطار المفاوضات مع الرئيس الصيني شي جين بينغ لتسريع توقيع اتفاقية تجارية، وفشلت هذه الخطّة الأمريكية، إذ أكدت الحكومة الصينية دعمها لروسيا، وعززت تحصيناتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لأن الولايات المتحدة تحاول فرْضَ حصار على الحدود البحرية والممرات التجارية للصين، ولجأ الرئيس الأمريكي إلى إعلان اختصار المُهْلَة التي حدّدها لروسيا للتوصل إلى وضع حدّ للحرب في أوكرانيا، وأعلن إرسال بارجَتَيْن حربيّتين نوَوِيّتَيْن ( أو قادرة على استخدام أسلحة نووية) إلى حدود روسيا...
تندرج "دبلوماسية العصا الغليظة" الأمريكية ضمن مسار عَسْكَرة العلاقات الدّولية الذي اتّسَعَ نطاقه بعد انهيار الإتحاد السوفييتي الذي كان يُشكّل قوة رَدْع، وتمت تجربة "البَلْطَجَة" في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق، ثم ليبيا وسوريا، قبل أن يعود الخطاب الإستعماري القديم – من خلال الخطاب الرسمي ووسائل الإعلام – والدّعم المُطلق للشكل الحالي من العدوان الكيان الصهيوني، كاستكمال لما لم يتم إنجازه خلال النكبة سنة 1948، ورفضت دول أمريكا الشمالية والإتحاد الأوروبي تطبيق قرارات محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدّولية، فاستقبلت الولايات المتحدة وأوروبا رئيس وزراء العدو الصهيوني بدل اعتقاله ورفض الإتحاد الأوروبي مراجعة علاقات الشراكة المُميّزة التي تربطه بالكيان الصهيوني، بل فرضت الولايات المتحدة على موظفين سامين بالأمم المتحدة دخول الأراضي الأمريكية حيث يوجد مقر الأمم المتحدة، مما يذكر بممارسات عصابات الجريمة المنظّمة...
رغم التّفوّق العسكري والإقتصادي على بقية دول العالم، أقرّت الدّول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال قمة منتصف العام 2025 في لاهاي زيادة الإنفاق العسكري العسكري الأوروبي من 2% إلى 5% من الناتج الإجمالي المحلي "لتغطية تكاليف مظلة الدفاع الأميركية حول القارة"، وفي المقابل أقرّت كل الدّول الأوروبية سياسات التّقشّف وخفض الإنفاق الحكومي وتقليص ميزانيات الصحة والتعليم والخدمات العامة، وزيادة الضرائب غير المباشرة، ليرتفع الإنفاق العسكري الإجمالي للدّول الأعضاء في الحلف من 2,7 إلى 3,8 تريليون دولارا، أي بزيادة 1,1 تريليون دولارا، ولا تمثل الميزانية السنوية للأمم المتحدة – بما فيها عمليات "حفظ السلام – ( 3,72 مليار دولارا) سوى 0,1% من ميزانية التسلح العالمية، ويُمَكِّنُ مبلغ الزيادة في الإنفاق العسكري لحلف شمال الأطلسي ( 1,1 تريليون دولارا) الدّول الفقيرة من سداد ديونها ( البالغة 11,4 تريليون دولارا) خلال عقد واحد ( 1,1 x 10 ) ومن القضاء على الجوع في العالم خلال عقدَيْن...
تُعتبر الشعوب الفقيرة من أكبر الخاسرين من عسكرة الدبلوماسية والعلاقات الدّولية ( ولا نتحدّث عن الشعوب التي تُعاني من العدوان والحصار )، غير إن الأضرار طالت كذلك الشعوب الأوروبية، حيث يواجه نحو 21,1% من سُكّان ألمانيا، أقوى دولة أوروبية، خطر الانحدار إلى دائرة الفقر أو التهميش الاجتماعي، وفق تقرير نشره موقع صحيفة فايننشال تايمز ( تم الإطلاع عليه يم الثاني من آب/أغسطس 2025) وتعهدت الحكومة الألمانية بتخصيص 650 مليار يورو على مدى السنوات الخمس المقبلة للإنفاق العسكري، ولذلك ستحتاج إلى جمع حوالي 144 مليار يورو سنوياً، من خلال اعتماد سياسة التقشف وزيادة الاقتراض وزيادة الضرائب.
في المقابل دعت مجموعة بريكس ( خلال قمة ري ودي جنيرو بالبرازيل ) إلى تبني برامج «تمثل مصلحة شعوبنا من خلال تعزيز السلام، وإنشاء نظام دولي عادل يضمن تمثيلاً أفضل، ونظام متعدد الأطراف متجدد ومُحدّث، وتحقيق التنمية المستدامة والنمو الشامل»
وافق المجلس الأوروبي، المكوّن من رؤساء حكومات دول الاتحاد الأوروبي إلى جانب رئيسه ورئيسة المفوضية الأوروبية، يوم السادس من آذار/مارس 2025، على زيادة الإنفاق الحربي بقيمة 800 مليار يورو تحت اسم «إعادة تسليح أوروبا» الذي يهدف تعزيز القوة والهيبة الجيوسياسية للقارة بدل زيادة الإنفاق على التنمية، وتبرّر دول أوروبا زيادة الإنفاق العسكري "بالتهديدات الأمنية التي تواجهها خصوصًا منذ غزو روسيا لأوكرانيا (فضلا عن ) الفوائد الاقتصادية من إعادة تسليح أوروبا، وتعزيز النّمو من خلال الإستثمار المُكثّف في الصناعات الحربية..." غير إن الوقائع تُشير إلى فَرْض الولايات المتحدة شراء الأسلحة الأمريكية ( التي تمولها أوروبا) لتتماشى مع معايير ومواصفات حلف شمال الأطلسي، وهي المعايير التي يحددها الجيش الأمريكي، كما لا تُشير التحليلات "الغربية" لاستراتيجية الجيش الروسي إلى وجود أي تهديد لدول الإتحاد الأوروبي أو للدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وفي المقابل ازدادت عدوانية حلف شمال الأطلسي تجاه روسيا منذ انقلاب شباط/فبراير 2014 الذي أطاح بالرئيس الأوكراني المنتخَب فيكتور يانوكوفيتش واستعانت الولايات المتحدة وأوروبا بمليشيات يمينية متطرفة، فقدّمت لها السلاح والتدريب والمعلومات الإستخباراتية ثم فرضت إدماجها في جيش أوكرانيا ومشاركتها في السلطة، ولما تكررت المجازر ضد السكان الناطقين بالروسية والإستفزازت العسكرية الأوكرانية في المناطق الحدودية، بدعم من حلف شمال الأطلسي، تدخلت روسيا عسكريا في هذه المناطق الحدودية، وفي الحين رفعت دول الإتحاد الأوروبي إنفاقها العسكري من 214 مليار يورو سنة 2021 إلى 326 مليار يورو سنة 2024، وأشارت مُذكِّرة صادرة عن المفوضية الأوروبية خلال شهر آذار/مارس 2025 إلى ضرورة زيادة الإنفاق العسكري بسبب "تصاعد التهديدات من روسيا والصين ( وإن ) عدم مواجهة هذا التهديد سيجعل أوروبا عرضة للمزيد من الضغط الإقتصادي والتّقني والعسكري..."، وتمثّل هذه المذكّرة تحوّلا في خطاب الإتحاد الأوروبي من "أولوية الحوار والتفاوض للتخفيف من التوترات" (مع روسيا أو غيرها) إلى تبنّي الأهداف الأمريكية، بدون تحفّظ، والإستعداد لحل القضايا العالقة – مع روسيا أو غيرها – باستخدام القوة العسكرية، ومعالجة المشاكل الإقتصادية وضُعْف نمو الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي بزيادة الإنفاق العسكري، وعدم الإهتمام بزيادة عدم المساواة، وارتفعت أسعار أسهم شركات إنتاج الأسلحة الأوروبية إلى مستويات قياسية بعد إعلان رئيسة المفوضية الأوروبية ( أورسولا فون دير لاين) برنامج «إعادة تسليح أوروبا"، واقترحت شركة "راينميتال"، أكبر شركة أوروبية لتصنيع الذخيرة الحربية، الاستحواذ على مصانع فولكسفاغن الخاملة لتنتج فيها الدبابات، وتحويل مَصْنَعَيْنِ قَائِمَيْن لقطع السيارات إلى إنتاج معدات حَرْبِية، كما تجري شركة "هنسولت" التي تصنع أنظمة الرادار ( TRML-4D ) المستخدمة في حرب أوكرانيا، محادثات، وانضَمّت الكونفدرالية الأوروبية لنقابات العمال إلى رواية تمجيد اقتصاد الحرب، واعتبرت زيادة الإنفاق الحربي "فرصة لمعالجة الركود الإقتصادي المستمر في أوروبا ولاحتضان مفهوم أوسع للأمن يشمل الأهداف الاجتماعية واحترام حقوق العمال والنقابات..."
استخدمت الأطراف الأشد رجعية في صفوف الرأسمالية الصناعية والمصرفية الأوروبية ( وخصوصا الرأسمالية الألمانية) الحرب في أوكرانيا لطرح مشروع إعادة تسليح أوروبا، ولتبرير زيادة الإنفاق العسكري وتعزيز المكانة الجيوسياسية لأوروبا تحت هيمنة ألمانيا والولايات المتحدة، وتكفّلت مراكز البحث التي تمولها نقابات أرباب العمل بتقديم التبريرات الأيديولوجية، وتكفلت نقابات العُمّال الكبرى ( خصوصًا في ألمانيا) بالترويج لاقتصاد الحرب الذي "يمكن أن يعود بالنفع على العمال في ظل شروط معينة"، رغم الإنفاق على الصناعات الحربية من خلال الدّيُون التي تُؤَدِّي إلى تخفيض الإنفاق على خدمات الرعاية الصحية، وإلى كبح الأجور والمعاشات وتذرّع الحكومات وأرباب العمل بأن هذه الإجراءات "تضحيات ضرورية للحفاظ على الأمن الداخلي والوحدة الأوروبية..."
الولايات المتحدة: المستفيدون من زيادة الإنفاق الحربي
أكّد تقرير صادر يوم التاسع من تموز/يوليو 2025 عن مشروع "تكاليف الحرب" ( Costs of War ) بجامعة براون الأمريكية إن الشركات العسكرية الخاصة كانت أكبر مستفيد من زيادة الإنفاق العسكري، وحصلت على عقود من وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) بقيمة 2,4 تريليون دولار على مدى السنوات الخمس من 2020 إلى 2024، ويُمثل هذا المبلغ نسبة 54% من إجمالي الإنفاق الحربي البالغ 4,4 تريليون دولار خلال تلك الفترة التي تميزت باستثمار الحكومة الأميركية في خمس شركات أسلحة أكثر من ضعف المبلغ الذي استثمرته في الدبلوماسية والمساعدات الخارجية، فقد منحت عقودًا ( بين 2020 و 2024) بقيمة 771 مليار دولار ( من ميزانية البنتاغون ) لشركات لوكهيد مارتن (313 مليار دولار)، و أرْ تي إكس ( RTX ) المعروفة المعروفة سابقًا باسم رايثيون ( 145 مليار دولار) وبوينغ (115 مليار دولار)، وجنرال ديناميكس (116 مليار دولار)، ونورثروب غرومان (81 مليار دولار)، وبالمقارنة، بلغ إجمالي ميزانية الدبلوماسية والتنمية والمساعدات الإنسانية، باستثناء المساعدات العسكرية، 356 مليار دولار، وتتعامل هذه الشركات العملاقة مع مئات الشركات الصغيرة المُتعاقدة من الباطن، أي التي تنفذ طلبات الشركات الكبرى.
ارتفع الإنفاق العسكري السنوي للولايات المتحدة بشكل كبير منذ بداية هذا القرن، وكانت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمر 2001 تعِلّةً جيّدة وفُرصةً تلاها العدوان على أفغانستان والعراق وأفغانستان وغيرها، وكلما ارتفعت ميزانية الحرب، زادت حصة الميزانية المخصصة للمقاولين العسكريين، من 41% بنهاية القرن العشرين إلى 54% من متوسط الإنفاق السنوي للبنتاغون منذ سنة 2020.
ارتفع الإنفاق العسكري الأمريكي وتمويل البنتاغون والأنشطة العسكرية التي تمولها وكالات أخرى، من 531 مليار دولار سنة 2000 إلى 899 مليار دولار سنة 2025 (بسعر الدولار الثابت للعام 2025) وأضافت الميزانية التي تم اعتمادها خلال شهر تموز/يوليو 2025 مبلغ 156 مليار دولار إلى هذا الإجمالي، ليصل الإنفاق العسكري الأمريكي السنوي إلى 1,06 تريليون دولار، مما يرفع الميزانية العسكرية الأمريكية بنسبة 99% منذ سنة 2000، وأشار التقرير إن الجيش الأمريكي اعتدى على 78 دولة باسم "مكافحة الإرهاب" بين سنتَيْ 2001 و 2024،
يحلل تقرير مشروع نفقات الحرب أساليب التأثير المتنامية التي تستخدمها صناعة الأسلحة، وتتمثل في تَمْوِيل الحملات الانتخابية، والدّعم الإعلامي من خلال وسائل الإعلام التي تهيمن عليها هذه الشركات كُلِّيًّا أو جُزْئِيًّا، ورفعت شركات صناعة الأسلحة عدد موظفي جماعات الضّغط التابعة لها من 220 سنة 2020 إلى 950 سنة 2024...
خصص مشروع الإنفاق العسكري تحليلا للعدوان الصهيوني المستمر على فلسطِينِيِّي غزة، وقدّر إن العمليات العسكرية الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة منذ السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023 ستؤدي إلى وفيات غير مباشرة كثيرة تتجاوز بكثير عدد الوفيات المباشرة، وقدّر قيمة الإنفاق الأمريكي لدعم العمليات العسكرية الصهيونية في غزة ومناطق أخرى، بين خلال سنة واحدة بين السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023 و 2024، بحوالي 18 مليار دولارا، بالإضافة إلى قرابة خمس مليارات دولارا للعمليات العسكرية التي نفذها الجيش الأمريكي لدعم الجيش الصهيوني، ومن جهة أخرى يُضخّم الخطاب الرسمي ووسائل الإعلام الأمريكية التهديدات الأمنية المزعومة التي تمثلها الصين وروسيا، واستفادت شركات التكنولوجيا من هذه الدّعاية لتطوير أدوات التّجسس الإلكتروني...
أدّت الحروب الأمريكية وعمليات مكافحة الإرهاب إلى وفاة ما لا يقل عن 940 ألف شخص بشكل مباشر وما يصل إلى 3,8 ملايين شخص بشكل غير مباشر في مناطق الحرب التي اندلعت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 مما يرفع العدد الإجمالي للضحايا إلى ما بين 4,5 و 4,7 مليون شخص، فضلا عن نزوح حوالي أربعين مليون شخص في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال والفلبين، وكانت هذه الحروب مُرْفَقَة بتراجع مستوى الحريات المدنية وحقوق الإنسان سواء داخل الولايات المتحدة ( قانون باتريوت أكْتْ مثلاً) أو خارجها، وقُدِّرت تكاليف حروب ما بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في العراق وأفغانستان وباكستان وسوريا وأماكن أخرى حوالي ثماني تريليونات دولارا ولا يشمل هذا المبلغ تكاليف الفائدة المستقبلية على الاقتراض لتمويل الحروب... عن موقع تكاليف الحرب ( Costs of War ) معهد كوينسي بجامعة براون – الولايات المتحدة – 09 تموز/يوليو 2025
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟