|
عدو ما يجهل: لعنة سوء الفهم
محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8387 - 2025 / 6 / 28 - 15:00
المحور:
قضايا ثقافية
في قلب وادٍ سحيق، تحيط به جبالٌ شاهقةٌ ووعرة، تقع قريتان متجاورتان: "النبع" و"الصخر". كانت قرية النبع تعيش على خيرات الوادي الخضراء، حيث تنساب المياه العذبة من الينابيع، وتزدهر الحقول بالقمح والخضروات. أهلها كانوا بسطاء، يتميزون بوجوهٍ مشرقةٍ وابتساماتٍ دافئة، يؤمنون بالتكاتف والعمل الجماعي. أما قرية الصخر، فكانت تقع على سفح الجبل، أهلها أقوياء البنية، عيونهم حادةٌ كعيون الصقور، يعتمدون في رزقهم على تربية الماشية وصيد الحيوانات البرية. كانوا أقل عددًا، وأكثر ميلًا للعزلة والشك بالغرباء. لم يكن بين القريتين تواصلٌ مباشرٌ منذ زمنٍ بعيد. فصلتهما أسطورةٌ قديمةٌ تتحدث عن خيانةٍ ودمٍ مسفوكٍ بين الأجداد، أسطورةٌ تحولت مع مرور الزمن إلى حقيقةٍ راسخةٍ في عقول الأطفال، وتوارثتها الأجيال كوصيةٍ مقدسة: "أهل النبع أعداء أهل الصخر، وأهل الصخر أعداء أهل النبع". لم يكن أحدٌ يتذكر تفاصيل الأسطورة، أو يعرف من بدأ العداوة، لكن الكراهية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من هويتهم، حقيقةً مطلقةً لا جدال فيها. كان الخوف من المجهول، من "الآخر"، هو الوقود الذي يغذي هذه العداوة. في قرية النبع، كان يعيش "سليم"، شابٌ في مقتبل العمر، عينان صافيتان وقلبٌ لم يعرف الكراهية بعد. كان يرى الجبال المحيطة بالوادي كحاجزٍ طبيعي، وليس كحدودٍ للعداوة. كان يسمع قصص الأجداد عن "أهل الصخر الأشرار" بقلبٍ منقسم، فهو لم يرهم قط، ولم يختبر شرهم المزعوم. كانت روحه تميل إلى التساؤل، إلى البحث عن الحقيقة، لكنه كان يخشى التعبير عن شكوكه خوفًا من نبذ مجتمعه. أما في قرية الصخر، فقد نشأ "يزن"، شابٌ مفتول العضلات، لكن عينيه كانتا تحملان حزنًا عميقًا. كان يزن يتوارث قصة "أهل النبع الغادرين"، وكان يعتقد أنهم يخططون دائمًا لإيذائهم، لسرقة أراضيهم ومياههم. كانت هذه القناعة تملأ قلبه بالخوف والغضب، لكنه في أعماقه كان يشعر بفراغٍ غريب، فراغٍ لم تملأه قصص الكراهية المتوارثة.
لقاء القدر: شعلة أملٍ في الظلام في عامٍ كان الجفاف يضرب المنطقة بقوةٍ غير مسبوقة، بدأت مياه النبع تجف في قرية النبع. أصبحت الحقول صفراء ذابلة، والخضروات تتهاوى، والناس يعانون العطش. كان اليأس يتسلل إلى القلوب، والجميع يتساءل عن مصيرهم. في المقابل، كانت قرية الصخر تعاني أيضًا. جفت المراعي، وهلكت الماشية، وقلّت الموارد. في أحد الأيام، وبينما كان سليم يبحث عن مصدرٍ جديدٍ للمياه في أعماق الوادي، ضلّ طريقه. وجد نفسه في منطقةٍ وعرةٍ لم يزرها من قبل. فجأةً، سمع صوتًا خافتًا، صوتَ أنينٍ. اقترب ببطءٍ وحذر، فوجد رجلًا مسنًا ملقىً على الأرض، مصابًا بجروحٍ بالغة، والدماء تنزف منه. كانت ملامحه تدل على أنه من أهل قرية الصخر. توقف سليم للحظة، صراعٌ عنيفٌ يدور في داخله. "هذا عدوي!" همس صوتٌ في رأسه، "اتركه يموت!" لكن صوتًا آخر، صوتًا أكثر نقاءً، قال له: "إنه إنسانٌ يتألم، بغض النظر عن هويته." انتصرت الإنسانية. اقترب سليم من الرجل العجوز، وقدم له ما لديه من ماءٍ وطعامٍ بسيط، وحاول تضميد جروحه. تحدث الرجل العجوز بصوتٍ متقطعٍ، شاكرًا سليم على لطفه. أخبره أن اسمه "حكيم"، وأنه خرج للبحث عن ابنه يزن الذي ضلّ طريقه في الجبال. لم يتردد سليم. حمل الرجل العجوز على ظهره، وبدأ يسير به نحو قرية الصخر. كانت الرحلة شاقةً ومحفوفةً بالمخاطر، لكن سليم لم يتوقف. كان يعلم أنه ينقذ حياة إنسان، وأن هذا وحده يكفي. في الوقت نفسه، كان يزن يبحث عن والده في الجبال، قلبه يشتعل قلقًا. وبينما كان يتسلق أحد المنحدرات الوعرة، لمح من بعيدٍ رجلًا يحمل آخر على ظهره، يتجه نحو قريته. أخرج يزن قوسه، وصوّب سهمه نحو الرجل الغريب. كانت التقاليد والأسطورة تصرخ في أذنه: "لا تثق بغريبٍ، خاصةً إذا كان قادمًا من وادي النبع!" لكن شيئًا ما جعله يتردد. رأى أن الرجل الغريب يتحرك بصعوبة، وأن الرجل الذي يحمله يبدو ضعيفًا. هل يمكن أن يكون هذا الغريب هو من أنقذ والده؟
القرار القاتل: لعنة الشك بينما كان يزن يتردد، سمع صوت والده، الحكيم، ينادي بصوتٍ خافت: "يزن... لا... إنه منقذي!" لكن الصوت كان ضعيفًا، وضاع في الرياح العاتية. في تلك اللحظة، ظهرت مجموعةٌ من رجال قرية الصخر، كانوا يبحثون عن يزن ووالده. لمحوا سليم يحمل الرجل العجوز، وصوّبوا أسلحتهم نحوه. صرخ أحد الرجال: "هذا من أهل النبع! لقد أتى لسرقتنا أو إيذائنا!" في تلك اللحظة، سيطر الخوف والشك على يزن. كان والده ضعيفًا، والرجال يصرخون، والأسطورة تتردد في ذهنه. أخذ نفسًا عميقًا، وأطلق سهمه. اخترق السهم جسد سليم. لم يصدر سليم صوتًا، فقط نظر إلى يزن بنظرةٍ مليئةٍ بالصدمة، ثم سقط على الأرض، والرجل العجوز يتأوه من الألم والخوف. ركض يزن ورجال القرية نحو سليم. عندما وصلوا إليه، وجدوه ملقىً على الأرض، غارقًا في دمائه. نظر الرجل العجوز، الحكيم، إلى ابنه بنظرةٍ مليئةٍ باليأس. "يا ولدي، ماذا فعلت؟ هذا الشاب أنقذ حياتي! هذا ليس عدونا، إنه إنسانٌ رحيم!" توسعت عينا يزن بصدمةٍ أكبر. شعر بالخجل والندم ينهشان قلبه. لقد قتل الرجل الذي أنقذ والده، الرجل الذي كان يمكن أن يكون صديقًا، أو أخًا. لقد قتله بسبب جهله، بسبب أسطورةٍ عمياء، بسبب خوفٍ موروثٍ من "الآخر". حمل رجال قرية الصخر سليم، وأعادوه إلى قرية النبع. كانت الصدمة قاسيةً على أهل النبع. لم يصدقوا أن أحدًا من أهل الصخر قد تجرأ على دخول واديهم، ناهيك عن قتل أحد أبنائهم. كانت الكراهية التي كانت مجرد أسطورةٍ قديمة، قد تحولت إلى حقيقةٍ دموية.
عواقب الوهم: نارٌ لا تنطفئ تدهورت الأوضاع بين القريتين بسرعةٍ مخيفة. زادت العداوة، واشتعلت شرارة الانتقام. أصبحت كل قريةٍ ترى في الأخرى عدوًا لدودًا، لا يمكن التصالح معه. كانت كل محاولةٍ للتواصل تُقابل بالرفض والشك. أصبحت الكراهية متجذرةً بعمق، كأنها مرضٌ عضالٌ لا شفاء منه. حاول الرجل العجوز، الحكيم، إخبار أهل قريته بحقيقة ما حدث، لكن أحدًا لم يصدقه. لقد رأوه مصابًا، ورأوا سليم ميتًا. كانت الأسطورة أقوى من الحقيقة، والخوف من المجهول أقوى من المنطق. أما يزن، فقد عاش بقية حياته تحت وطأة الذنب. لم يستطع نسيان نظرة سليم الأخيرة، نظرة الصدمة التي كانت تحمل في طياتها سؤالًا مؤلمًا: "لماذا؟". كان يرى وجه سليم في كل مكان، ويسمع صوت أنينه في كل ليلة. أصبح منعزلًا، حزينًا، لا يجد راحةً في نومه، ولا سعادةً في يقظته. لقد قتل براءته، قتل إنسانيته، بسبب "عدو ما يجهل". استمر الجفاف في ضرب المنطقة. لكن الآن، لم تكن الأزمة هي نقص المياه فقط، بل كانت أزمة الكراهية التي حرمت القريتين من التعاون، من إيجاد حلولٍ مشتركةٍ لمشاكلهم. كانت قرية النبع تصر على أن أهل الصخر هم سبب جفاف ينابيعها، وأنهم يحاولون سرقة مياههم. وكانت قرية الصخر تصر على أن أهل النبع يحاولون تجويعهم، ومنعهم من الوصول إلى المراعي. مرت السنوات، وأصبح سليم رمزًا للشهادة في قرية النبع، ويزن رمزًا للقاتل في قرية الصخر. أصبحت قصتهما جزءًا من الأسطورة المتجددة، أسطورة العداوة التي لا تنتهي. الأطفال في كلا القريتين ينشأون وهم يتعلمون أن "الآخر" هو عدو، وأن الحذر والشك هما أساس البقاء. تدهورت حياة القريتين تدريجيًا. أصبحت الحقول في النبع قاحلةً تمامًا، والمواشي في الصخر تموت جوعًا. بدأ الناس يهاجرون بحثًا عن حياةٍ أفضل، حياةٍ لا تُحكمها الكراهية. أصبحت القرى التي كانت تنبض بالحياة، مجرد أشباحٍ لمدنٍ مهجورة.
إرث الكراهية: درسٌ قاسٍ في النهاية، لم يتبقَ من القريتين سوى عددٌ قليلٌ من الشيوخ والعجائز، يجلسون في صمت، يراقبون الوادي الذي تحول إلى صحراء. لم تعد هناك مياهٌ في النبع، ولا مراعي في الصخر. كل شيءٍ قد دُمر، ليس بفعل الطبيعة وحدها، بل بفعل الكراهية التي تغلغلت في القلوب، والتي لم تسمح للعقل أن يفهم، أو للرحمة أن تنتصر. كانت قصة سليم ويزن، قصة "عدو ما يجهل"، درسًا قاسيًا في هذا الوادي المهجور. درسٌ يؤكد أن الجهل هو أخطر الأعداء، وأن الخوف من المجهول هو الشرارة التي تشعل نيران الكراهية. وأن هذه النيران، إذا لم تُطفأ بالتفهم والتعاطف، ستحرق كل شيءٍ في طريقها، تاركةً وراءها رمادًا، ويأسًا، وذكرى مؤلمةً عن ضحايا لم يكن ذنبهم سوى أنهم وقعوا فريسةً لعداوةٍ عمياء، ولعنة سوء فهمٍ دمرت كل أملٍ في التعايش والسلام. في هذا الوادي الذي أصبح خاويًا، لا يزال صدى الرياح يحمل همساتٍ حزينة، همساتٌ تتحدث عن سليم، الشاب الذي مات من أجل إنقاذ عدوه، وعن يزن، الشاب الذي قتل براءته بسبب جهله. ويبقى السؤال معلقًا في الهواء: متى سنتعلم أن عدونا الحقيقي ليس "الآخر"، بل هو الجهل، هو الخوف، هو الكراهية التي تُزرع في قلوبنا وتُغذى بأساطير لا أساس لها من الصحة؟ متى سندرك أن "دم المحيط" لا يختلف عن "دمنا"، وأن الإنسانية هي اللون الوحيد الذي يجب أن يحكمنا؟
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطريق إلى دمشق: ما الشيء الذي كاد نتنياهو أن يكشفه للأسد عا
...
-
رانديفو: حكاية قلبٍ بريء وقطارٍ فات
-
وصايا الضحايا: حكاياتٌ من ركام الكراهية
-
قلب روسي حقيقي: ألكسندر دوغين، فلاديمير بوتن والأيديولوجية ا
...
-
حرب كشمير المنسية تتحول إلى حرب عالمية
-
لورنس العرب يتحدث عن الحرب: كيف يطارد الماضي الحاضر
-
أشباح الشرق الأوسط القديم
-
لماذا يجد الناس أن قرع الطبول أسهل من التفكير؟
-
تواصلني حين لا ينفع الوصل: قصة لم تكتمل
-
كرز في غير أوانه: حكاية حب في زمن الحرب
-
نعوم تشومسكي، الصوت الصامت، والإرث الذي لا ينتهي
-
هاتفها الذي غيّر رحلتي من أمريكا إلى دمشق
-
الحب ليس رواية شرقية: رسالة أسمى تتجاوز القيود
-
تحديد دور الولايات المتحدة في الربيع العربي
-
المثالية والبراغماتية في الشرق الأوسط
-
كيف حارب تشرشل وروزفلت وستالين هتلر – ثم حاربوا بعضهم البعض
-
الأراضي المتصدعة: حكاية عالم عربي مفكك
-
من مصباح علاء الدين إلى عوالم الذكاء الاصطناعي: سحر يتجدد وت
...
-
تأهيل المتطرفين دينياً ودمجهم: مقاربات من علم النفس التربوي،
...
-
حلقة من حلقات الحرب
المزيد.....
-
رئيس الأركان الإيراني يتصل بوزير الدفاع السعودي.. ما السبب؟
...
-
ترامب: نتنياهو-بطل- ومحاكمته -مهزلة- قد تؤثر على المفاوضات م
...
-
جندي إسرائيلي رفض الخدمة بغزة: يريدون تدمير حماس لكنها لا تز
...
-
محارب ذكي وواقعي… أول مسلم يقترب من قيادة نيويورك
-
جيش الاحتلال يعلن اغتيال حكم العيسى
-
صحف عالمية: إسرائيل انقسمت مجددا بشأن غزة وترامب خلق وضعا هش
...
-
حكم العيسى.. من هو القيادي البارز في -حماس- الذي أعلنت إسرائ
...
-
نهائي درامي - إنجلترا تهزم ألمانيا وتتوج بأمم أوروبا تحت 21
...
-
هل تنجح مساع واشنطن لوقف الحرب في السودان ؟
-
اعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية تطال الجنود الإسرائيليي
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|