أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - هاتفها الذي غيّر رحلتي من أمريكا إلى دمشق















المزيد.....


هاتفها الذي غيّر رحلتي من أمريكا إلى دمشق


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 00:02
المحور: قضايا ثقافية
    


كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرًا بتوقيت سان فرانسيسكو، لكن عيناي كانتا مفتوحتين على وسعهما. شاشة اللابتوب تُضيء وجهي المتعب، وسط أكوام من الأوراق والمخططات الهندسية. كنتُ على وشك الانتهاء من مشروع "المدينة الذكية" الذي عملتُ عليه لأكثر من عامين، والذي كان سيضع اسم شركتي، واسمي أنا "آدم" كمهندس برمجيات، على خارطة الابتكار العالمي. كنتُ أركض في سباق محموم مع الزمن، مستهلكًا قهوة سوداء لا تعد ولا تُحصى، وحياة اجتماعية لا وجود لها. هذا هو حلمي الأمريكي، كما صورته لنفسي: عمل دؤوب، نجاح باهر، وتطوير يغير وجه التكنولوجيا.
رنّ هاتفي. نظرة سريعة على الشاشة أظهرت رقمًا غريبًا، دوليًا، يبدأ بمفتاح سوريا. استغربتُ. لا أعرف أحدًا في سوريا. تجاهلتُ المكالمة، معتقدًا أنها ربما خطأ بالرقم أو مكالمة تسويقية دولية. لكن الهاتف رنّ مرة أخرى، ثم ثالثة. بدا الأمر غريبًا ومُلحًا. ترددتُ للحظة، ثم قررتُ الرد.
"ألو؟" قلتُ بصوت أجش، متعب.
"مرحباً... هل هذا آدم؟" جاء صوت ناعم، أنثوي، يحمل لكنة شامية واضحة، لكنه كان ممزوجًا بقلق خفيف. صوتٌ غريب، لكنه اخترق تعبي فورًا.
"نعم، هذا آدم. من المتحدث؟" سألتُ، وقد استقام ظهري لا شعوريًا.
"أنا... أنا لانا. آسفة جدًا على الإزعاج في هذا الوقت المتأخر. أعلم أنك في أمريكا، لكنني اضطررت للاتصال."
لانا؟ الاسم لم يكن مألوفًا لي أبدًا. "لانا من؟ وكيف حصلتِ على رقمي؟" حاولتُ أن أكون مهذبًا، لكن الدهشة كانت تسيطر عليّ.
تنهدتْ بصوت خافت، وكأنها تجمع شتات نفسها. "أنا ابنة خالة أمك. أسماء. لا أعرف إذا كنتَ تتذكرها. توفيت أمي منذ شهرين، وأثناء ترتيب أغراضها وجدتُ دفتر قديم لها. كان فيه رقمك، مع ملاحظة صغيرة بخط يدها... آدم، إذا احتجتِ شيئًا، اتصلي به. هو سند. "
تجمدتُ في مكاني. ابنة خالة أمي؟ أمي التي توفيت قبل سنوات، والتي كانت قد قطعت علاقتها بالكثير من أهلها في سوريا بسبب الظروف السياسية. لم أتخيل أبدًا أن لديها قريبة أخرى غير التي أعرفها. والأهم، كيف لها أن تملك رقمي، وأنا أغير أرقامي باستمرار؟ وكيف كانت توصيها عليّ؟
"والدتي؟" تمتمتُ، صوتي بالكاد مسموعًا. "عمتي أسماء؟ أنا... أنا آسف جدًا لسماع ذلك. البقاء لله."
"شكرًا لك. أعلم أننا غرباء، لكنني في ورطة حقيقية يا آدم." كان صوتها يحمل يأسًا خفيًا. "عمتي... كانت مريضة جدًا في أشهرها الأخيرة. وبسبب الحصار والأوضاع الصعبة، لم نستطع توفير الدواء الكافي لها. في آخر أيامها، كانت تُعاني كثيرًا. وقبل أن تتوفى، همست لي بطلب أخير. طلبت مني أن أجد صندوقًا خشبيًا صغيرًا مخبأ في قبو منزلها القديم في دمشق. قالت إنه يحوي شيئًا مهمًا جدًا لها، ولا يمكن لأحد أن يجده غيرك. وأصرت أنك الوحيد الذي يمكن أن تفهم قيمته."
شعرتُ بقشعريرة تسري في جسدي. صندوق خشبي؟ قبو منزل قديم في دمشق؟ ما علاقتي بكل هذا؟ أمي لم تحدثني قط عن أي صندوق، ولا عن أي قبو. حياتها في سوريا كانت غامضة بالنسبة لي.
"صندوق خشبي؟ وماذا فيه؟ ولماذا أنا؟" سألتُ، وقد بدأت أفكاري تتسابق.
"لا أعرف ماذا فيه بالتحديد. عمتي لم تقل. لكنها قالت إنه سيعني لك الكثير. أما لماذا أنت... لا أعرف. ربما لأنك الأقرب إلى قلبها، وكنتَ أملها الأخير في أن يُحفظ هذا الشيء. القبو صعب الوصول إليه. هو جزء من منزلها الذي ورثته عن جدها، وهو الآن في منطقة شبه مهجورة بسبب الأحداث الأخيرة. لا يمكنني الذهاب وحدي، والأمر يبدو خطيرًا. لقد حاولتُ، لكنني لم أستطع. وهذا ما جعلني أتصل بك. طلبتُ منك المساعدة."
صمتٌ طويل خيّم على المكالمة. في ذهني، كانت لوحاتي الزمنية المزدحمة تصرخ، ومشروع "المدينة الذكية" يترنح. كانت حياتي منظمة، محسوبة، خالية من أي مغامرات غير مبرمجة. فجأة، وجدتُ نفسي أمام طلب غريب، قادم من ماضٍ غامض، ومن بلد لم أزره قط، بلد لا أعرف عنه إلا ما تقوله الأخبار: حرب، دمار، صراع.
"لانا... أنا... أنا آسف، لكن هذا يبدو... مستحيلًا. أنا في منتصف مشروع حياتي هنا. والقدوم إلى سوريا الآن... إنه أمر خطير جدًا."
"أعلم، أعلم كل هذا. أنا لا أطلب منك شيئًا سهلًا. لكنها كانت وصية عمتي الأخيرة. إنها ترقد بسلام الآن، لكنني لا أستطيع أن أخذل روحها. ربما أنتَ الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك. أنا لا أطلب منك البقاء، فقط أن تأتي، تجد الصندوق، وتعود بسلام. أنا مستعدة لتحمل كافة نفقات السفر والإقامة. فقط... فكر بالأمر، أرجوك."
صوتها كان يتردد في أذني. كان يحمل مزيجًا من اليأس والرجاء، وأكثر من ذلك، كان يحمل نبرة صادقة لم أستطع تجاهلها. شيء ما في داخلي، ربما بقايا حنين إلى أمي الراحلة، أو شعور بالواجب تجاه وصية غامضة، بدأ يتحرك.
"حسناً... أعطيني وقتًا لأفكر." قلتُ أخيرًا، وشعرتُ أن هذه الجملة ستغير مجرى حياتي.
أغلقتُ الهاتف. لم أستطع العودة إلى العمل. كلمات لانا، وصوتها، وصورة أمي الغامضة التي كانت توصي عليّ، كلها كانت تدور في رأسي. دمشق. لم أكن أتخيل يومًا أن أذهب إلى هناك. كانت مجرد نقطة على الخريطة، مرتبطة بالأخبار السيئة.
في الأيام التالية، لم أنم جيدًا. كنتُ أبحث عن سوريا، عن دمشق، عن الوضع الأمني. كل ما وجدته كان صور دمار، تقارير عن عنف، وتحذيرات سفر. كان عقلي يصرخ: "جنون! لا تفعلها!" لكن شيئًا آخر في قلبي كان يهمس: "ماذا لو كان هذا الصندوق يحمل شيئًا يغير حياتك؟ ماذا لو كان سرًا من أسرار أمك لم تُخبرك به؟"
وفي أحد الصباحات، بينما كنتُ أُعدّ قهوتي، تذكرتُ كلمة أمي الأخيرة لي قبل وفاتها. كانت قد قالت لي: "آدم، الحياة ليست فقط عن النجاح المادي. هناك أشياء أعمق، روابط لا تُرى، وتواريخ لا تُنسى. لا تُغلق قلبك على كل ما هو غير مألوف." حينها، لم أفهم ما كانت تقصده. الآن، بدأتُ أُدرك. ربما كانت هذه وصيتها لي، بطريقة غير مباشرة.
اتصلتُ بلانا. صوتها كان مرتبكًا. "آدم... هل قررتَ؟"
"نعم." قلتُ، وشعرتُ وكأنني أُلقي بنفسي في المجهول. "سآتي إلى دمشق."

كانت الرحلة طويلة ومرهقة. بعد ساعات من الطيران، ثم تغيير الطائرات، وصلتُ أخيرًا إلى مطار بيروت. من هناك، كانت لانا قد رتبت لي سيارة خاصة للعبور إلى دمشق. شعرتُ بالتوتر يتزايد كلما اقتربتُ من الحدود. الضباط، نقاط التفتيش، الوجوه المتعبة التي تحمل آثار السنين والصراع. كل ذلك كان غريبًا عني، وعن حياتي الهادئة في كاليفورنيا.
عندما وصلتُ إلى دمشق، كانت الشمس قد بدأت تغيب. مدينة لا تُشبه أي شيء رأيته من قبل. مبانٍ قديمة تحتضن أخرى حديثة، أسواق صاخبة، وروائح التوابل والقهوة تفوح في الهواء. لكنني لم أستطع تجاهل آثار الحرب: مبانٍ مهدمة جزئيًا، ثقوب الرصاص على الجدران، وشعور خفي بالحذر في عيون الناس.
وقفتُ أمام فندق صغير في أحد الأحياء القديمة. لم أكن متأكدًا مما إذا كانت لانا ستأتي. فجأة، رأيتُ فتاة تقف على الرصيف المقابل. كانت ترتدي حجابًا خفيفًا وعباءة بسيطة، لكن ملامحها كانت واضحة جدًا. عيناها واسعتان، لونهما بني غامق، تحملان مزيجًا من القوة والضعف. كانت بشرتها خمرية، ووجهها يُشبه لوحة فنية تحمل تفاصيل حزن خفي، لكنه يُضيء بابتسامة خجولة عندما رأتني. كانت أجمل بكثير مما تخيلت.
اقتربتْ مني بخطوات مترددة. "آدم؟" قالت بصوتها الهادئ الذي عرفته من الهاتف.
"لانا." قلتُ، ومددتُ يدي لمصافحتها. كانت يدها باردة قليلًا، لكن لمستها كانت حقيقية.
"أهلًا بك في دمشق." قالت، وابتسمت ابتسامة خفيفة. "الطريق كان متعبًا، أليس كذلك؟"
"جداً. لكن يبدو أن المغامرة بدأت للتو." قلتُ، وشعرتُ بتوتر يتبدد قليلًا في وجودها. كان هناك شيء ما في عينيها يبعث على الطمأنينة.
جلسنا في بهو الفندق. لانا تحدثت عن حياتها، عن عمتي أسماء (والدتها)، وعن صعوبة العيش في دمشق خلال السنوات الماضية. كانت قصة حياة مليئة بالصمود والتحديات. استمعتُ إليها بانتباه، وشعرتُ أن هذا العالم الذي أتيت إليه غريب تمامًا عن عالمي، لكنه يحمل عمقًا إنسانيًا لم أعهده من قبل.
"المنزل القديم في منطقة باب شرقي." قالت لانا. "الوصول إليه ليس سهلًا. هناك بعض الشوارع المتضررة، وقد نضطر للمشي قليلًا."
"أنا جاهز." قلتُ، وشعرتُ بحماس غريب لهذه المهمة الغامضة.

في اليوم التالي، انطلقنا. كانت لانا هي دليلي في متاهة دمشق القديمة. مررنا بأسواق تفوح منها رائحة البهارات والقهوة، وشوارع ضيقة مرصوفة بالحصى، ومساجد وكنائس تروي قصص قرون من التاريخ. كانت لانا تشرح لي عن كل زاوية، كل حارة، كل تفصيل. كانت عيناها تلمعان عندما تتحدث عن تاريخ مدينتها، رغم كل ما أصابها.
"هذا سوق الحميدية. هنا كنتُ أشتري الكتب مع عمتي أسماء."
"وهذه كنيسة حنانيا. يُقال إنها أقدم كنيسة في العالم."
كانت معرفتها بمدينتها مذهلة. شعرتُ وكأنني أُشاهد فيلمًا وثائقيًا حيًا، لكن الأهم أنني كنتُ أُشاهد الحياة من منظور مختلف. منظور لا يعتمد على البيانات والخوارزميات، بل على المشاعر والذاكرة والتاريخ الحي.
كلما اقتربنا من المنطقة التي فيها المنزل القديم، تغيرت ملامح الشوارع. أصبحت أضيق، وأكثر هدوءًا. ثم، بدأنا نرى آثار الدمار بوضوح أكبر. مبانٍ متهالكة، شبابيك مكسورة، شوارع كانت يوماً مليئة بالناس، أصبحت الآن شبه مهجورة.
"لقد عانت هذه المنطقة كثيرًا في السنوات الأولى للصراع." قالت لانا بصوت خافت، ونظرتها تحمل حزنًا عميقًا. "الكثير من الناس غادروا، ولم يعودوا."
وصلنا أخيرًا إلى المنزل القديم. كان مبنيًا من الحجارة البيضاء القديمة، لكنه بدا مهجورًا ومتهالكًا. الباب الخشبي كان متضررًا، والحديقة الأمامية كانت مليئة بالأعشاب الضارة.
"هنا." قالت لانا، وأشارت إلى الباب. "كانت عمتي تخشى أن تأتي إلى هنا وحدها."
دخلنا المنزل. كان الظلام يلفه، والغبار يغطي كل شيء. رائحة الأخشاب القديمة والتراب تملأ الأجواء. في وسط الصالة، كانت هناك فسحة سماوية صغيرة، يتسرب منها بعض الضوء الخافت.
"القبو هنا." قالت لانا، وأشارت إلى باب خشبي صغير في زاوية الغرفة.
كان الباب بالكاد يُفتح. دخلنا إلى القبو المظلم. الرطوبة كانت عالية، والرائحة غريبة. لم يكن هناك سوى القليل من الأغراض القديمة المتراكمة. بدأتُ أبحث في كل زاوية، متذكرًا كلام لانا عن صعوبة الوصول إليه.
"كانت عمتي تقول إن الصندوق مخبأ جيدًا. ربما خلف أحد الأحجار المتساقطة، أو تحت كومة من الأنقاض." قالت لانا، وهي تُساعدني في إزاحة بعض الأغراض.
مرت الساعات ونحن نبحث. اليأس بدأ يتسرب إلينا. هل كان مجرد وهم؟ هل كانت وصية عمتي مجرد كلمات أخيرة في لحظات الألم؟
"انتظر!" صرخت لانا فجأة. كانت قد أزاحت كومة من الطوب المتساقط، وكشفت عن فجوة صغيرة في الجدار. داخل الفجوة، كان هناك شيء ملفوف بقطعة قماش بالية. أخرجتُه ببطء. كان صندوقًا خشبيًا صغيرًا، منقوشًا عليه بعض الزخارف البسيطة. لكن ما أثار دهشتي، هو وجود حرف "آ" منقوشًا في أحد الزوايا. حرف "آدم".
نظرتُ إلى لانا، ثم إلى الصندوق. كان قلبي ينبض بقوة. "وجدناه!"
فتحنا الصندوق ببطء وحذر. لم يكن فيه ذهبًا أو مجوهرات. لم يكن فيه وثائق سرية أو أموال. ما كان فيه هو:
دفتر صغير بخط يد أمي: مليء بالقصائد. قصائد لم أقرأها من قبل، تتحدث عن الحب، عن الحنين إلى الوطن، عن الأمل في مستقبل أفضل. كلمات مؤثرة، تكشف عن جانب من أمي لم أكن أعرفه.
صورة قديمة: صورة لأمي وهي شابة، تجلس بجانب رجل لا أعرفه. كانت ملامحه غير واضحة تمامًا، لكنه كان يبتسم لها. وفي الخلفية، كانت هناك حديقة مليئة بالياسمين.
رسالة صغيرة: بخط يد أمي أيضًا، موجهة إليّ.
فتحتُ الرسالة، وبدأتُ أقرأ بصوت خافت:
"ابني الحبيب آدم، إذا وصلت هذه الرسالة إليك، فاعلم أنني لم أعد موجودة. لكنني أردتُ أن أترك لك شيئًا من روحي. هذه القصائد هي خلاصة مشاعري، وذكرياتي عن حب كبير عشته في هذه الأرض قبل أن أغادرها. الرجل في الصورة هو حبيب قلبي، يوسف. كان رسامًا وشاعرًا، أحببتُه بجنون. هذه الحديقة التي في الصورة هي نفسها التي في منزلنا القديم، حيث كنا نلتقي سرًا. كان حلمنا أن نتزوج ونبني حياتنا معًا هنا. لكن الظروف كانت أقوى. عائلتي لم توافق على زواجنا، وأُجبرتُ على السفر إلى أمريكا والتخلي عنه. لم أستطع أن أنساه أبدًا. كل قصيدة كتبتها كانت له. لم أخبرك بهذا الجزء من حياتي، لأنني لم أرد أن تُثقل عليك بحزني.
لكنني أردتُ أن أترك لك هذا الصندوق. أردتُ أن تعرف أنني كنتُ أحببتُ بصدق، وأنني كنتُ أعيش حياة مليئة بالمشاعر، حتى لو كانت قاسية. أردتُ أن أقول لك: لا تدع الحياة تمنعك من الحب. لا تدع الظروف تُطفئ شعلة قلبك. ابحث عن الحب، تمسك به، وحاول ألا تقع في نفس الأخطاء التي ارتكبتها أنا. وربما... ربما تُساعدك هذه القصائد على فهمي أكثر، وعلى فهم أن الحياة ليست فقط عن العقل، بل عن القلب أيضًا.
اعتنِ بنفسك يا ولدي. وداعًا."

انتهيتُ من قراءة الرسالة. كانت عيناي تفيضان بالدموع. لانا كانت تنظر إليّ بصمت، دموعها تسيل على خديها أيضًا. لم أكن أعرف شيئًا عن هذا الجزء من حياة أمي. لم أكن أعرف أنها عاشت قصة حب عظيمة، وأنها أُجبرت على التخلي عنها. شعرتُ وكأن حجابًا قد رُفع عن عينيّ. أدركتُ لماذا أصرت أمي على أن أجد هذا الصندوق. لم يكن عن كنوز مادية، بل عن كنز من المشاعر، عن قصة لم تُروَ، عن جزء من روحها أرادت أن تُشاركه معي.
نظرتُ إلى لانا. كانت هناك رابطة غريبة تجمعنا الآن. رابطة من خلال أمي، ومن خلال هذا السر المشترك. "شكرًا لكِ يا لانا." قلتُ بصوت متهدج. "شكرًا لأنكِ لم تستسلمي."
ابتسمت لانا من خلال دموعها. "إنها عمتي. كنتُ أعلم أن هناك شيئًا مهمًا."
خرجنا من القبو، ومن المنزل القديم. حملتُ الصندوق بين يديّ، وكأنه أثمن ما أملك. كانت أشعة الشمس قد بدأت تعود، تُرسم خطوطًا ذهبية على الشوارع المتضررة.
"ماذا ستفعل الآن يا آدم؟" سألت لانا، ونحن نمشي عائدين إلى الفندق.
نظرتُ إلى الصندوق، ثم إلى لانا، ثم إلى شوارع دمشق. حياتي في أمريكا، ومشروعي الضخم، ومستقبلي المخطط له بعناية... كل ذلك بدأ يبدو بعيدًا، مختلفًا.
"لا أعرف." قلتُ بصدق. "لكن شيئًا ما قد تغير في داخلي. أمي... لم تكن مجرد مهندسة حاسوب ناجحة. كانت امرأة عاشقة، امرأة ذات روح عميقة. ربما هذه الرحلة لم تكن فقط للعثور على صندوق، بل للعثور على جزء مني أيضًا، جزء لم أكن أعرف بوجوده."
مرت الأيام التالية في دمشق كحلم. لانا لم تتركني وحدي لحظة. اصطحبتني لزيارة الأماكن التي ذكرتها أمي في قصائدها، لنتخيل كيف كانت حياتها مع "يوسف" هنا. زرنا الحديقة التي في الصورة، والتي كانت بالفعل مليئة بأشجار الياسمين العتيقة. جلسنا تحتها، وأنا أقرأ لها قصائد أمي. كانت عيناها تلمعان، وكأنها ترى أرواحهما تحلق في الأجواء.
قضينا أيامًا نتحدث عن الحياة، عن الحب، عن الخسارة، وعن الأمل. لانا، بفطرتها البسيطة، وحكمتها العميقة، كانت تفتح عينيّ على جوانب من الحياة لم أكن ألتفت إليها. علمتني كيف أرى الجمال في وسط الخراب، كيف أجد الأمل في عيون الناس الصامدين، وكيف أقدر اللحظة الحاضرة.
مع كل يوم يمر، شعرتُ أن قلبي يتغير. لم أعد ذلك المهندس الآلي، المبرمج الذي يُركّز على الأرقام والمنطق. بدأتُ أشعر بمشاعر حقيقية، أرى العالم بألوان أكثر وضوحًا. كانت لانا تروي لي عن أحلامها، عن رطلعها في بناء مكتبة عامة في دمشق، عن رغبتها في مساعدة الأطفال على التعلم في ظل الظروف الصعبة. كانت طموحاتها بسيطة، لكنها كانت صادقة ونبيلة.
ذات مساء، بينما كنا نجلس على سطح الفندق، نُشاهد أضواء دمشق المتلألئة، التفتُ إلى لانا. كانت عيناها تحدقان في الأفق، تحملان حنينًا خفيًا.
"لانا." قلتُ، وقلبي ينبض بقوة. "لقد جئتُ إلى هنا لأبحث عن صندوق، لكنني وجدتُ شيئًا أعمق بكثير. وجدتُ جزءًا من أمي، ووجدتُ... وجدتُ نفسي. وأعتقد أنني وجدتُ شيئًا آخر أيضًا."
التفتت إليّ، عيناها الواسعتان تُحدّقان فيّ بفضول.
"لقد غيرتِ رحلتي يا لانا. من أمريكا إلى دمشق. من عالم الأرقام إلى عالم المشاعر. وأنا... أنا لا أريد أن أعود إلى حياتي القديمة كما كانت."
صمتتْ لانا، ثم ابتسمتْ بخجل. "وماذا تريد يا آدم؟"
"أريد أن أبقى. أريد أن أُساعدكِ في بناء مكتبتكِ. أريد أن أتعلم منكِ المزيد عن هذه المدينة، عن هذا العالم. أريد أن أكون جزءًا من هذه الحياة، هنا."
عيناها اتسعتا دهشة، ثم لمعتا بفرحة خفية. "ولكن... مشروعك؟ حياتك هناك؟"
"مشروعي يمكن أن ينتظر. أو يمكنني أن أجد طريقة لمواصلته من هنا. أما حياتي... فقد اكتشفتُ أنها كانت ينقصها الكثير. ينقصها هذا العمق، هذه الإنسانية، هذا الشغف الذي أراه في عينيكِ."
تمددتْ يدها ببطء، ولمستْ يدي. "أنتَ... أنتَ مجنون يا آدم." قالت، لكن صوتها كان يفيض حنانًا.
"ربما. لكنني مجنون سعيد الآن."
في تلك اللحظة، لم يكن هناك ماضٍ أو مستقبل. لم تكن هناك أمريكا أو دمشق. كان هناك فقط آدم ولانا، ونور الحب الذي بدأ يتوهج بينهما. حب ولد من مكالمة هاتفية غريبة، قادته وصية أم مجهولة، وتغذى على قصص دمشق العتيقة. حب لم يكن مخططًا له، لم يكن محسوبًا، لكنه كان صادقًا وجميلًا.
تركتُ عملي في أمريكا مؤقتًا. بدأتُ في التخطيط لمشروع المكتبة مع لانا. كانت أيامنا مليئة بالعمل، بالتخطيط، بالأمل. تعلمنا كيف نعمل سويًا، كيف نتجاوز الصعاب، وكيف نُبني شيئًا جميلًا من لا شيء. لم تكن الحياة سهلة، لكنها كانت مليئة بالمعنى.
وفي أحد الأيام، بينما كنا نجلس في مقهى صغير في سوق الحميدية، أخرجتُ الصندوق الخشبي الذي جلبته معي. أخرجتُ منه الرسالة والصورة.
"يوسف..." قالت لانا، وهي تنظر إلى الصورة. "هل تعتقد أن أمك كانت لتُفرح بهذه النهاية؟"
ابتسمتُ. "أعتقد أنها كانت ستُفرح جدًا يا لانا. لقد طلبت مني ألا أدع الحياة تمنعني من الحب. وها أنا ذا."
امسكَتْ لانا بيدي. كانت الشمس الذهبية تُرسم لوحة جميلة على وجوهنا. لم تكن قصتنا رواية شرقية تقليدية، ولا حكاية أمريكية عن النجاح المادي. كانت قصة فريدة، بدأت بهاتف غيّر رحلة، وانتهت بقلبين وجدا بعضهما البعض في مكان لم يكن متوقعًا، في مدينة علمتني أن أجمل الأشياء تأتي حين لا نخطط لها، وأن الحب الحقيقي يمكن أن يُزهر حتى في وسط الحطام.
لم تكن مجرد قصة حب، بل كانت قصة اكتشاف، قصة تغيير، قصة رحلة قادتني إلى مكان لم أكن أعلم أنني أنتمي إليه. بفضل هاتفها، غيّرَتْ لانا كل شيء. ومنحَتْني حياة لم أكن أحلم بها، حياة مليئة بالحب والمعنى في دمشق.



#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحب ليس رواية شرقية: رسالة أسمى تتجاوز القيود
- تحديد دور الولايات المتحدة في الربيع العربي
- المثالية والبراغماتية في الشرق الأوسط
- كيف حارب تشرشل وروزفلت وستالين هتلر – ثم حاربوا بعضهم البعض
- الأراضي المتصدعة: حكاية عالم عربي مفكك
- من مصباح علاء الدين إلى عوالم الذكاء الاصطناعي: سحر يتجدد وت ...
- تأهيل المتطرفين دينياً ودمجهم: مقاربات من علم النفس التربوي، ...
- حلقة من حلقات الحرب
- أوكرانيا والغرب: تحالف بالوكالة
- أسطورة صغيرة عن الرقص
- الجمهورية الإسلامية على الحبال
- أغاني الغجر
- سحر الغجر
- كيف يمكن لحلف شمال الأطلسي الدفاع عن الأطلسي
- أسرار المخابرات البريطانية وإيران عام 1953
- عندما جاء الساموراي إلى أمريكا
- اعرف عدوك
- الحياة الخفية لنساء الساموراي
- العيون الخمس للمخابرات
- التحالف الأمريكي الياباني - ماضيه وحاضره ومستقبله الغامض


المزيد.....




- قبل شن ضربة قطر.. ترامب يشعل تفاعلا بكشف اتصال إيراني وما قا ...
- ترامب يشيد بالضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية ...
- ترامب ينتقد محاكمة نتانياهو ويصفها بـ-الاضطهاد- ويشيد بدوره ...
- تقرير: إسرائيل توقف إدخال المساعدات لغزة انتظارا لخطة الجيش ...
- البيت الأبيض: يورانيوم إيران المخصب -تحت الأنقاض-
- حزب الله: إيران حقّقت نصرا مؤزرا
- كيف تطيل عمر مناشف الميكروفايبر وتحافظ على فعاليتها؟
- 16 قتيلا في احتجاجات بكينيا
- اعتمد على المباغتة.. الجزيرة تحصل على تفاصيل كمين خان يونس
- الموساد يشيد بعملائه داخل إيران وبدعم الـ-سي آي إيه- للهجوم ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - هاتفها الذي غيّر رحلتي من أمريكا إلى دمشق