|
تأهيل المتطرفين دينياً ودمجهم: مقاربات من علم النفس التربوي، الجهادي، والسلوكي
محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8377 - 2025 / 6 / 18 - 12:10
المحور:
قضايا ثقافية
يشكل تأهيل الأفراد المتطرفين دينياً وإعادة دمجهم في مجتمعات منفتحة ومتعددة الطوائف تحدياً معقداً يتطلب فهماً عميقاً للدوافع النفسية والاجتماعية التي تقود إلى التطرف، بالإضافة إلى استراتيجيات متكاملة للتعافي والاندماج. يتقاطع في هذا المجال عدد من التخصصات النفسية، مقدمةً رؤى قيمة حول كيفية معالجة هذه الظاهرة.
1. علم النفس التربوي: بناء القيم والتفكير النقدي
يُعنى علم النفس التربوي بالعمليات التي يتعلم من خلالها الأفراد ويطورون فهمهم للعالم. في سياق التطرف، يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في الوقاية والتأهيل:
الوقاية من التطرف: يركز على غرس قيم التسامح، التعددية، والتعاطف منذ سن مبكرة. يمكن للمناهج التعليمية أن تشجع على التفكير النقدي، مما يمكن الأفراد من تحدي الأفكار المتطرفة وتمييز المعلومات المضللة. على سبيل المثال، بدلاً من تلقين المفاهيم الدينية بشكل جامد، يمكن للمؤسسات التعليمية أن تعتمد منهجاً يعزز النقاش المفتوح حول النصوص الدينية، ويفسرها في سياقات تاريخية واجتماعية أوسع، ويبرز الجوانب الإنسانية والأخلاقية المشتركة بين الأديان.
تأهيل المتطرفين: يهدف إلى إعادة بناء الأطر المعرفية والقيمية لديهم. يتضمن ذلك برامج تعليمية مكثفة تركز على:
إعادة تفسير النصوص الدينية: مساعدة الأفراد على فهم تفسيرات بديلة معتدلة للدين، ومناقشة الجوانب المتطرفة في ضوء التفسيرات المعتدلة التي تتوافق مع قيم التسامح والتعايش.
تنمية مهارات التفكير النقدي: تعليمهم كيفية تحليل المعلومات بشكل منهجي، التشكيك في المصادر، والبحث عن الأدلة، بدلاً من قبول الروايات المتطرفة بشكل أعمى.
التعليم المدني: تعريفهم بمبادئ المواطنة، حقوق الإنسان، وآليات العمل الديمقراطي في مجتمع متعدد الطوائف.
مثال: في الدنمارك، قدمت بعض البرامج التعليمية للمتطرفين السابقين منهجاً دراسياً يجمع بين التعليم الأكاديمي، بما في ذلك التاريخ والعلوم السياسية، وورش عمل حول الديمقراطية والتسامح. أظهرت هذه البرامج أن إشراك الأفراد في عملية تعلم نشطة يمكن أن يساعدهم على التشكيك في معتقداتهم السابقة وتطوير رؤية أكثر شمولية للمجتمع.
2. علم النفس الجهادي: فهم الدوافع ونقاط الضعف
يركز علم النفس الجهادي على دراسة العمليات النفسية التي تؤدي إلى الانضمام إلى الجماعات الجهادية والتطرف. يمكن أن يوفر هذا الفرع رؤى حيوية في جهود التأهيل:
فهم الدوافع: يكشف عن العوامل التي تجذب الأفراد للتطرف، مثل البحث عن الهوية، الشعور بالظلم، الحاجة للانتماء، الرغبة في الانتقام، أو التأثر بالبروباغندا. على سبيل المثال، قد يكون الشباب الذين يشعرون بالتهميش الاجتماعي أو الاقتصادي أكثر عرضة للانجذاب إلى رسائل التطرف التي تعدهم بالهدف والانتماء.
تحديد نقاط الضعف: يساعد على تحديد "نقاط الدخول" المحتملة للتطرف، مثل العزلة الاجتماعية، نقص التعليم، أو التعرض لخطاب الكراهية.
استراتيجيات التأهيل المبنية على الفهم:
معالجة المظالم المتصورة: سواء كانت حقيقية أو متخيلة، يجب معالجة هذه المظالم من خلال توفير آليات عادلة لمعالجتها أو تقديم منظورات بديلة لهذه المظالم.
بناء الهوية الإيجابية: مساعدة الأفراد على بناء هوية قوية ومستقرة لا تعتمد على التطرف، بل على الانتماء لمجتمع أوسع والانخراط في أنشطة بناءة.
التفكيك الفكري: تفنيد الحجج الدينية والأيديولوجية المستخدمة من قبل الجماعات المتطرفة بشكل منهجي، مع التركيز على تناقضاتها وأوجه قصورها.
مثال: في المملكة العربية السعودية، تركز برامج المناصحة على "الحرب الفكرية" ضد الأيديولوجيات المتطرفة، حيث يقوم علماء دين وخبراء نفسيون بمناقشة الأفراد وتفنيد حججهم الدينية المتطرفة، وتقديم تفسيرات إسلامية معتدلة تبرز قيم الرحمة والتسامح.
3. علم النفس السلوكي: تعديل السلوكيات وتغيير الاستجابات
يركز علم النفس السلوكي على كيفية تعلم السلوكيات وتغييرها من خلال التكييف والتعزيز. يمكن أن تكون مبادئه مفيدة في التأهيل من خلال:
تحديد المحفزات السلوكية: فهم الظروف البيئية أو الاجتماعية التي تثير السلوك المتطرف. على سبيل المثال، قد تكون مشاهدة مقاطع فيديو تحريضية أو التفاعل مع أفراد معينين من المحفزات.
تعديل السلوكيات غير المرغوبة:
التعزيز الإيجابي: مكافأة السلوكيات الإيجابية، مثل المشاركة في أنشطة مجتمعية، إظهار التسامح، أو التعبير عن آراء معتدلة. يمكن أن يشمل ذلك توفير فرص عمل، دعم اجتماعي، أو تقدير للمساهمات الإيجابية.
الاستعاضة عن السلوكيات: مساعدة الأفراد على استبدال السلوكيات المتطرفة بسلوكيات أكثر تكيفاً واجتماعية. مثلاً، استبدال الانخراط في النقاشات المتطرفة عبر الإنترنت بالمشاركة في مجموعات دعم أو أنشطة تطوعية.
النمذجة: توفير نماذج إيجابية لأفراد اندمجوا بنجاح في المجتمع، مما يشجع المتطرفين السابقين على محاكاتهم.
العلاج بالتعرض: في بعض الحالات، يمكن تعريض الأفراد بشكل تدريجي ومسيطر عليه للمواقف أو الأفكار التي كانت تثير ردود فعل متطرفة لديهم، لمساعدتهم على إعادة برمجة استجاباتهم.
مثال: في برنامج إعادة التأهيل في سنغافورة، يتم التركيز على دمج المتطرفين السابقين في المجتمع من خلال توفير الدعم الاجتماعي والمهني. يتم تشجيعهم على الانخراط في العمل، وبناء علاقات إيجابية مع أفراد المجتمع، والمشاركة في الأنشطة العادية. يساعد هذا النهج السلوكي على تعزيز السلوكيات المرغوبة وتقليل فرصة العودة إلى التطرف.
دمج المتطرفين في مجتمع منفتح ومتعدد الطوائف: التحديات والفرص
يتطلب دمج المتطرفين سابقاً في مجتمع منفتح ومتعدد الطوائف مقاربة شاملة تتجاوز الجوانب النفسية:
الاندماج الاجتماعي: توفير فرص للتعليم والعمل والسكن، وكسر العزلة الاجتماعية التي قد تدفعهم مرة أخرى إلى التطرف. يتطلب ذلك بناء الثقة بين المتطرفين السابقين والمجتمع، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي المستمر.
الاندماج السياسي: إتاحة الفرص للمشاركة السياسية السلمية، والتعبير عن آرائهم ضمن الأطر الديمقراطية، بدلاً من اللجوء إلى العنف. هذا يشمل توفير منصات للحوار، وتشجيعهم على الانخراط في العملية السياسية بطرق بناءة.
دور المجتمع المدني: تلعب المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدينية المعتدلة دوراً حيوياً في برامج التأهيل والدمج، من خلال بناء الجسور وتقديم الدعم العملي.
التحديات: تكمن التحديات في التغلب على الشكوك المجتمعية، ومواجهة احتمالية الانتكاس، وضمان استدامة برامج التأهيل.
الخلاصة
إن تأهيل المتطرفين دينياً ودمجهم في مجتمع منفتح ومتعدد الطوائف هو مهمة معقدة ولكنها ضرورية. من خلال تطبيق مبادئ علم النفس التربوي، الجهادي، والسلوكي، يمكننا تطوير استراتيجيات أكثر فعالية لمعالجة الدوافع الكامنة وراء التطرف، وتغيير السلوكيات، وإعادة بناء الأفراد ليصبحوا أعضاء فاعلين ومنتجين في مجتمعاتهم. يعتمد النجاح في هذا المجال على الالتزام المستمر بالبحث، وتكييف البرامج لتناسب السياقات الثقافية المختلفة، والمشاركة الشاملة للمجتمع بأسره.
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حلقة من حلقات الحرب
-
أوكرانيا والغرب: تحالف بالوكالة
-
أسطورة صغيرة عن الرقص
-
الجمهورية الإسلامية على الحبال
-
أغاني الغجر
-
سحر الغجر
-
كيف يمكن لحلف شمال الأطلسي الدفاع عن الأطلسي
-
أسرار المخابرات البريطانية وإيران عام 1953
-
عندما جاء الساموراي إلى أمريكا
-
اعرف عدوك
-
الحياة الخفية لنساء الساموراي
-
العيون الخمس للمخابرات
-
التحالف الأمريكي الياباني - ماضيه وحاضره ومستقبله الغامض
-
العميل المزدوج الذي أدخل اليابان إلى الغرب
-
عادل إمام: رائد السينما السياسية العربية
-
عندما نبعثُ نحنُ الموتى
-
لكلِّ شدةٍ... مدة
-
الفصل قبل الأخير
-
كيف يتعامل الفاتيكان مع الجغرافيا السياسية
-
جروح السيدة دلوي في الحرب
المزيد.....
-
ثوران بركان في إندونيسيا يتسبب بإلغاء عشرات الرحلات إلى بالي
...
-
-كل اللي فات إشاعات-.. محمد رمضان يعلن عن الصلح بين نجله وزم
...
-
وفاة الطاهية والشخصية التلفزيونية الشهيرة آن بوريل عن عمر 55
...
-
السعودية.. حرب بين قرود أبها والطائف!
-
ناطق باسم الجيش الإسرائيلي يرد على أنباء مقتله بفيديو: -لست
...
-
بسبب ترامب.. -الغارديان-: زيلينسكي قد يغيب عن قمة -الناتو- ا
...
-
دول الترويكا الأوروبية تعرب عن استعدادها لمواصلة المفاوضات م
...
-
غروسي: تلوث إشعاعي في منشأة -نطنز- النووية
-
كنايسل: التصعيد بين واشنطن وطهران لم يصل إلى مواجهة شاملة وا
...
-
ما هي مخاطر الإشعاع النووي على إيران ومنطقة الخليج؟
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|