لماذا يجد الناس أن قرع الطبول أسهل من التفكير؟

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)

الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 00:59
المحور: قضايا ثقافية
    

في عالم اليوم المعقد، غالبًا ما نجد أنفسنا أمام مفارقة غريبة: يميل الكثيرون إلى الانجذاب نحو الحلول السهلة والصراخ المباشر، أو "قرع الطبول"، بدلًا من الانخراط في التفكير النقدي والتحليل المعمق. هذه الظاهرة ليست مقتصرة على مجال واحد، بل تتجلى في الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتشكل تحديًا كبيرًا أمام تقدم المجتمعات. فلماذا يجد الناس أن قرع الطبول أسهل من التفكير؟

الجانب السياسي: بساطة الشعارات مقابل تعقيد الحلول

في الساحة السياسية، غالبًا ما يفضل البعض الشعارات الرنانة والخطاب الديماغوجي الذي يلعب على العواطف، بدلًا من مناقشة البرامج السياسية المعقدة والمتطلبات الاقتصادية الواقعية. هذا التفضيل يعود لعدة أسباب:

السعي للوضوح في عالم مضطرب: يميل البشر بطبيعتهم إلى البحث عن إجابات بسيطة ومباشرة، خاصة في الأوقات التي تتسم بعدم اليقين. القادة الذين يقدمون حلولًا "سحرية" أو يحددون "أعداء" واضحين غالبًا ما يلقون قبولًا أوسع، حتى لو كانت هذه الحلول غير واقعية أو معادية للحقيقة.

تجنب المسؤولية: التفكير النقدي يتطلب جهدًا ذهنيًا ومسؤولية لاتخاذ قرارات صعبة قد لا تحظى بشعبية. في المقابل، الانضمام إلى "قرع الطبول" الجماعي يتيح للفرد الاندماج في حشد، مما يقلل من الشعور بالمسؤولية الفردية ويقدم وهمًا بالقوة والتأثير.

الاستقطاب والتضخيم: تستغل بعض الأطراف السياسية هذا الميل لتبسيط القضايا عن طريق تعزيز الاستقطاب وتضخيم الخلافات. يصبح الهدف هو شيطنة الخصم بدلًا من تقديم حجج منطقية، مما يغذي دائرة من ردود الأفعال العاطفية التي تحجب الرؤية وتمنع الحوار البناء.

الجانب الاجتماعي: ضغط القطيع وراحة الانتماء

على الصعيد الاجتماعي، يمكن ملاحظة أن التفكير النقدي يتطلب غالبًا الخروج عن السرب أو تحدي الأعراف السائدة، وهو أمر قد يكون صعبًا ومرهقًا:

الراحة في الاتفاق: الانتماء إلى مجموعة تشاركك نفس الأفكار يمنح شعورًا بالراحة والأمان. التعبير عن رأي مخالف أو التفكير بشكل مختلف قد يؤدي إلى العزلة أو حتى النبذ الاجتماعي، مما يجعل الكثيرين يفضلون الانسجام مع "قرع الطبول" الجماعي حتى لو كانوا غير مقتنعين تمامًا.

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي: ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في تفاقم هذه الظاهرة. فخوارزمياتها تميل إلى تعزيز المحتوى الذي يتوافق مع آراء المستخدمين الحالية، مما يؤدي إلى "غرف الصدى" حيث يتعرض الأفراد فقط للمعلومات التي تؤكد معتقداتهم، ويصبح النقاش الهادئ أقل شيوعًا لصالح تبادل الهتافات أو "قرع الطبول" المتواصل.

الخوف من المجهول: التفكير النقدي غالبًا ما يدفع الأفراد إلى التشكيك في المسلمات والبحث عن إجابات جديدة، وهذا قد يؤدي إلى الشعور بعدم الأمان أو الخوف من المجهول. في المقابل، الالتزام بالخطاب السائد يمنح شعورًا بالاستقرار والثبات.

الجانب الاقتصادي: الربح السريع مقابل التخطيط طويل الأجل

حتى في المجال الاقتصادي، يتجلى هذا التفضيل للسهولة على التفكير العميق:

مغريات الربح السريع: يميل الكثيرون إلى البحث عن حلول اقتصادية سريعة ومبسطة، مثل الاندفاع نحو فقاعات استثمارية أو اتباع نصائح مالية غير مدروسة، بدلًا من الانخراط في تحليل اقتصادي عميق يتطلب الصبر والمثابرة. الوعد بالربح السريع غالبًا ما يكون جذابًا أكثر من بناء استراتيجيات اقتصادية مستدامة.

تبسيط المشكلات المعقدة: يتم أحيانًا تبسيط المشكلات الاقتصادية المعقدة إلى شعارات بسيطة يمكن للجماهير فهمها، حتى لو كان هذا التبسيط يفتقر إلى الدقة أو يحجب الحلول الحقيقية. على سبيل المثال، قد يتم إلقاء اللوم على فئة معينة أو سياسة واحدة لمشكلة اقتصادية متعددة الأوجه.

الاستهلاك السريع للمعلومات: في العصر الرقمي، أصبح المستهلكون يفضلون المعلومات السريعة والمختصرة. وهذا ينطبق أيضًا على المعلومات الاقتصادية. قراءة تحليل اقتصادي معمق يتطلب وقتًا وجهدًا، بينما يمكن استيعاب "مانشيت" سريع أو مقطع فيديو قصير بشكل فوري، حتى لو كان يقدم صورة غير مكتملة أو مضللة.

في الختام، يجد الناس أن قرع الطبول أسهل من التفكير لأنه يتطلب جهدًا أقل، ويمنح شعورًا فوريًا بالانتماء، ويتجنب المسؤولية، ويقدم إجابات مبسطة في عالم معقد. ومع ذلك، فإن هذا التفضيل يؤدي إلى تداعيات خطيرة على جميع المستويات، حيث يعيق التقدم ويجعل المجتمعات أكثر عرضة للتلاعب والاستقطاب. إن التغلب على هذه الظاهرة يتطلب تعزيز ثقافة التفكير النقدي، وتشجيع الحوار البناء، والبحث عن الحقائق المعقدة بدلًا من الشعارات المبسطة. فهل نحن مستعدون لتحدي أنفسنا والتفكير بعمق، حتى لو كان ذلك أصعب من مجرد قرع الطبول؟

#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل