أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الفنُّ... رسائلُ الخلود في حضارة الرافدين














المزيد.....

الفنُّ... رسائلُ الخلود في حضارة الرافدين


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8385 - 2025 / 6 / 26 - 19:55
المحور: قضايا ثقافية
    


في زاويةٍ ما من التاريخ، حيثُ يتشابكُ الضوء بالأسطورة، وتُدوَّنُ الذاكرةُ على ألواحِ الطين، نهضَ الفنُّ العراقيُّ لا بوصفه زينةً للحياة، بل بوصفهِ الحياةَ ذاتها. لم يكن الفنُّ في الحضارة العراقية القديمة تابعًا لترفٍ بصري أو زخرفٍ يلوِّن جدران القصور، بل كان لسانَ الدولة، وسجلَ الشعب، وذاكرةَ الزمن. وإذا كانت الحضاراتُ تُقاسُ بما تُخلفه من إرثٍ ماديّ، فإنَّ العراق تركَ لنا فناً ناطقًا، يصرخُ من أعماقِ الزمن: "هنا وُلدت الكتابة، وهنا نُحتَتِ الآلهة، وهنا رقصَ الطينُ على أنغامِ الوجود.منذُ أن خطَّ السومريون أولَ حرفٍ على اللوح، والفنُّ في العراق لم يكن منفصلًا عن الكلمة، بل كان امتدادًا لها. لقد جسّد النحاتُ العراقي القديم الميثولوجيا التي آمن بها، فجاءت تماثيل إنانا وجلجامش وأسد بابل لا بوصفها مجرّد كائنات جامدة، بل كائناتٍ تنبضُ برؤية العالم آنذاك. تمثالٌ واحدٌ في متحف بغداد يمكن أن يخبرنا عن ألف عامٍ مضى، ويمكن لزخرفةٍ صغيرةٍ على رقيمٍ فخاري أن تُعرّي فلسفةَ السلطة، وشغفَ الناس، ورهبةَ الموت.وليس من المبالغة القول إنَّ معظمَ ما نعرفه عن الحضارات القديمة جاءنا عبرَ الفن. لا كتبَ مؤرخةً وصلتْ، ولا مذكرات ملوك، بل جداريةٌ محفورة، أو تمثالٌ نصفيّ، أو ختمٌ أسطوانيّ، أو رسمٌ جداري. الفنُّ هو من أنقذَ الحضارات من النسيان، وهو من منحها لسانًا أبديًا ينطقُ في المتاحفِ والمعارضِ والأذهان. من يستطيع أن يتجاهل أن تمثال حمورابي، وهو واقفٌ بكبرياءٍ أمام إله العدالة، ليس مجرد قطعة أثرية، بل هو وثيقةٌ قانونية، وفلسفةٌ حكم، ورؤيةُ مجتمعٍ بأكمله؟.من بوابة عشتار، وهي تتوّجُ أرضَ بابل، إلى الأختام الطينية السومرية التي حفرت تفاصيل الحياة اليومية، كان الفنُّ هو الناقل الأول والأبقى لكل ملامح الرافدين. لقد مثّلَ الفن العراقي سردًا شعبيًا وروحيًا، ونقلَ إلينا مشهدًا متكاملًا من الدين والسياسة والحرب والزراعة والطقوس الاجتماعية، لم يكن هناك فصلٌ بين الفنان والكاهن والكاتب. الكلّ يُنقّب في ذات الأرض بحثًا عن شكلٍ لروح العراق.
حتى عندما كانت الحروبُ تندلع، والممالك تتساقطُ كأوراق الخريف، بقي الفنُّ هو الحاملُ الوحيدُ لوثيقة الخلود. لم تسقط نينوى وبابل وأور، بل تَحولَت إلى صروحٍ فنيةٍ خالدة. كلُّ حضارة تُنسى، إلا إذا رسمت نفسها، وكلُّ أمةٍ تموت، إلا إذا نحتت ظلّها على الصخر. الفنُّ هو الذي نجا، لا السيوف ولا المعارك.
ولا يخفى أنّ إهمال الفنّ اليوم يعني التخلي عن لغةٍ واحدة بقيت لنا منذ آلاف السنين. في زمنٍ يُغتالُ فيه الجمالُ على يدِ البشاعة، وتُطمسُ فيه الجداريات تحت أعذارٍ بيروقراطية، ويُهمل فيه الرسامُ والنحاتُ والخطاطُ والملوّن، نكون قد تركنا آخر ما يربطنا بجذورنا. إنَّ الشعوبَ التي لا تُكرمُ فنّها، تُعاقبُ نفسها بالفراغ، وتقصُّ جناحَها حين تريدُ أن تحلّق.علينا أن نعي أنّ الفن ليس ديكورًا ثقافيًا، بل هو عمودُ الوعي. هو المرآة التي يرى فيها الوطن وجهه الحقيقي. ومتى ما أُطفئت أناملُ الفنان، أُظلمت الذاكرة، وخفتت الأصوات التي حملت رسائل الأجداد. لا يجوز أن يُعامل الفنانُ ككائنٍ هامشي، ولا أن تُرمى الجداريةُ كأنها عبءٌ على الجدار. فربّما جداريةٌ واحدة أنقذت أمة، وربما نحتٌ واحدٌ أخبر عن الحقيقة أكثر من ألف خطاب سياسي.في العراق، حين يغني فنان، تنهض بابل من تحت الرماد، وتتمايلُ أور كأنها لم تغب عن الدنيا. وحين يرسمُ طفلٌ عراقيٌّ نخلةً أو امرأةً تبكي أو جنديًا يحملُ الوطن، فإنَّه يستكملُ ألف لوحةٍ بدأها فنانو العراق منذ فجر التاريخ. هو تسليمٌ سرّي للرسالة.ولذلك، فإن الفنّ العراقي ليس تراثًا فقط، بل مسؤولية. هو وصيّةُ الماضي ورؤيةُ المستقبل. هو الباب الذي ندخله لنفهم من نحن، ومن كنا، ومن سنكون. فلنحرسه كما نحرُس الروح، ولنمنحه الحياة، كما منحنا الخلود.
لأننا إن أهملنا الفن، خسرنا التاريخ.
وإن خسرنا التاريخ، لن يعترفَ بنا المستقبل.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفزاعة التي لبست عمامة الخلافة
- التحية الأخيرة أمام الكاميرا: عندما يذوب الانضباط في حضرة ال ...
- -سلامٌ على شفرة السكين: حين يبتسم الدخان في الشرق الأوسط-
- ياسين خضر القيسي... طائر الإبداع ووجع الثقافة في زمن التبدّد ...
- ميرفت الخزاعي... فراشة السرد التي حلّقت من شط العرب إلى سماء ...
- بين قيدٍ وركام: المسرح العربي في متاهة الإحباط والفقدان .
- إيران ومضيق هرمز... حين تتدلّى يد الغريق فوق زر الحرب
- -فوردو تحت الجبل وتحت المطرقة: الضربة التي أطاحت بظل إيران ا ...
- -حين تهاوت قم من برج الطاووس... وانكسر قرن المجوس في مرآة ال ...
- حين استيقظَ الألمُ وبكى الخواء
- حين استيقظَ الألمُ وبكى الخواء .
- رماد الفتنة
- لا أحد يسمع الوجع
- -وطنٌ للبيع... من يشتري الذل-.
- على سفح التل… تُزهِرُ الحسرة وتُكمم الحقيقة.
- -الرگيّة التي فضحت نظام الحكم!-
- -سايكس بيكو الجديدة تحت توقيع ترامب... الشرق الأوسط يتهيأ لز ...
- -السماء تكتب بلون النار: مآلات الشرق في عصر الحرب الذكية-
- في حضرة العشيرة والطائفة: حين يتوارى الوطن خلف عباءة السلطة ...
- -حين صار عيد الصحافة مأتماً: من منابر الكلمة إلى مزامير الخر ...


المزيد.....




- رغم اعتذارها.. ترامب يهدد بمقاضاة BBC وتعويض قد يصل لـ5 مليا ...
- جناح مستوحى من قصة أطفال كلاسيكية في فندق أمريكي .. كيف يبدو ...
- تقرير يكشف -أزمة- واشنطن الكبرى: لا خطة للتعامل مع إيران
- بريطانيا تجري أكبر تغيير في سياسة الهجرة واللجوء
- نتانياهو يسعى لتفويض للقوة الدولية من مجلس الأمن
- السودان: البرهان يدعو للتعبئة العامة وسط مطالب دولية بهدنة إ ...
- بريطانيا تطلق إصلاحات شاملة لسياسة اللجوء
- زيلينسكي يطالب بالمزيد من الدعم بعد استهداف روسيا شبكة السكك ...
- جنوب أفريقيا تستضيف 153 فلسطينيا من غزة حصلوا على موافقة -دو ...
- ما قصة مباراة فلسطين والباسك؟ ولماذا تفاعل معها جمهور المنصا ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - الفنُّ... رسائلُ الخلود في حضارة الرافدين