أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - في أنساق التغريب البريشتي















المزيد.....

في أنساق التغريب البريشتي


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8384 - 2025 / 6 / 25 - 21:56
المحور: الادب والفن
    


إذا كانت الدراما، كما صاغها أرسطو، فعلًا لغويًا محكومًا بمقولة التطهير، فإن ما فعله برتولت بريشت هو ليس مجرد انقلاب على تلك المقولة، بل هو تفكيك راديكالي لجهاز الإيهام المسرحي الذي نَشَّأ المتلقي على تواطؤ عاطفي لا نقد فيه. في هذا المعنى، لا يمكن فهم "المسرح الملحمي" إلا بوصفه تقنية مضادة للتطهير، تندرج ضمن مشروع أوسع: تحويل المتفرج من شاهد إلى فاعل، ومن متعاطف إلى ناقد، ومن مستهلك للأثر الجمالي إلى مشارك في إنتاج دلالته.

لقد أدرك بريشت، بروح ماركسية متوقدة، أن كل فعل مسرحي يُعاد إنتاجه داخل بنية أيديولوجية، وأن ما نراه على الخشبة ليس مجرد عرض تمثيلي، بل جهاز رمزي يعمل على ترسيخ التصورات السائدة عن الإنسان والعالم. ومن هنا جاء "التغريب" (Verfremdungseffekt) بوصفه تقنية لكسر تلك البنية، لا بإلغائها، بل بإظهارها كأثر، كصنعة، كتمثيل لا يكتمل.

إن التغريب، بهذا المعنى، ليس زخرفة أسلوبية، بل هو قلب لوظيفة المسرح نفسها: لا أن يُخضع الوعي، بل أن يحرره. لا أن يُرضي العين، بل أن يُخيف العقل. فالممثل لا يلعب الدور، بل يعرضه، يُعلّقه، يشكّك فيه. إنه يؤدي وهو يتنصل، يتقمص وهو يُفكّك. يضع الشخصية بينه وبين المتفرج كمرآة مكسورة، تعكس كل شيء إلا اليقين.

والمسرح عند بريشت لا يُعنى بالمصير الفردي التراجيدي، بل بالشروط الاجتماعية التي تنتجه. لذا، فإن الحدث لا يُعرض كحتمية، بل كاحتمال: قابليته للتغير هي ما يُراد استنطاقه. ولهذا السبب بالذات، يُقسّم المسرح الملحمي إلى لوحات مستقلة، تُعلّق الحبكة، وتكسر أفق الترقب، وتُعيد تشكيل المعنى لا داخل منطق السرد، بل منطق الفكرة. المسرحية عند بريشت ليست متتالية مشاهد، بل سلسلة مواقف تُفكّر العالم من خلاله.

ولعل أكثر ما يثير التأمل هو هذا التصادم المفاهيمي بين "الدراما الأرسطية" بوصفها جهازًا للإيهام، و"المسرح الملحمي" بوصفه جهازًا للفضح. في الأولى، يتطهر المتلقي من عواطفه كي يعود إلى النظام كما هو؛ وفي الثانية، يُدفع إلى مساءلة النظام ذاته. الأولى تبني كاتارسيًا أخلاقيًا، والثانية تفكك بنيته من الداخل، لتُحوّل المسرح إلى مختبر فكري، إلى حقل جدلي يُعاد فيه تركيب العالم من جديد.

إن مسرح بريشت ليس مسرحًا سياسيًا بالمعنى المباشر، بل هو "سياسة المسرح" ذاتها. فكل جملة تُقال على الخشبة هي جملة مشروطة بواقعها، وكل إيماءة هي حفرة في نسيج الواقعية المسرحية. لذا، فإن الممثل لا يمثل "الواقع"، بل يُعرّيه؛ لا يُجسّد الإنسان، بل يُظهر الشروط التي صنعته. إنها نظرية المعرفة من خلال الأداء، حيث تتقاطع الفلسفة مع الجسد، والأيديولوجيا مع اللغة، والتاريخ مع الإيماءة.

إن بريشت لا يكتب مسرحًا، بل يُصوغ منهجًا للتفكير المسرحي. كل مشهد هو تمرين في جدل التاريخ، وكل شخصية هي صراع بين الضرورة والاحتمال. لهذا، فهو لا يثق بالعاطفة كمحرّك للتغيير، بل بالعقل بوصفه أداة مقاومة. لا يريد للجمهور أن يبكي، بل أن يفهم. لا أن يتماهى، بل أن يبتعد كي يُبصر. المسرح عنده، إذن، ليس مكانًا للتطهير، بل للحفر.

وفي هذا الحفر بالذات، يتقاطع التغريب مع ما سمّاه رولان بارت "درجة الصفر للكتابة"، فكلما ازداد المسرح وعيًا بماديته، ازداد قدرته على كشف أيديولوجيته. ومن هنا، فإن "نزع الألفة" عن المألوف، كما كتب بريشت في كتابات عن المسرح، ليس هدفًا جماليًا، بل شرطًا معرفيًا لتحرير الواقع من قوالبه التمثيلية.

---
ما فعله بريشت ليس مجرد تحديث للمسرح، بل تفجير لبنيته من الداخل. لقد أنشأ فضاءً معرفيًا جديدًا، يتجاور فيه المُمَثَّل والمُمَثِّل والمتلقي في لعبة جدلية من الأسئلة. وهذا ما يجعل من المسرح الملحمي – لا مجرد صنف درامي – بل أنثروبولوجيا نقدية، تُفكك الذات كما تُفكك العالم. وهكذا، يُمكننا القول إن بريشت لم يكن يكتب مسرحًا عن العالم، بل يكتب مسرحًا داخل العالم – وعبره، ضده.
📜 شذرات من السفر الأيقوني: على هامش الركح المنكسر" (نُسخة ميتاديالكتيكية مجهولة المصدر)

[1]
حين ارتدّت الشخصية عن جسد ممثّلها، لم تُفارقه، بل أقامت فيه كظلٍّ يسكن مرآة مشروخة.
التغريب ليس تقنيّة، بل تعويذة مضادة لمخيال التماهي؛
هو قطيعة ذات طابع سيميائي، لا تتحقّق إلا بانفصال البؤرة عن مرجعها،
وحين يحدث ذلك، يتصدّع الدالّ تحت وطأة فائض مدلوله.

[2]
المسرح، كما تراه عينا بريخت، ليس فضاءً تمثيليًا، بل جهاز كشفٍ تأويليّ،
حيث تُسلب الأشياء كينونتها لتُستردّ على هيئة علامات.
والعلامة عنده، لا تُشير لماهيّة، بل لفراغٍ مشبع بالاحتمال،
ولهذا لا يصعد الممثل فوق الخشبة، بل ينحدر منها ككائنٍ يشكّ في دوره.

[3]
الخشبة ليست مسرحًا، بل مرآة عمياء لمشهديّة المجتمع،
وهذا الإظلام البصريّ يوقظ الحواس الحبيسة في كهف الواقعية.
إنّ المُشاهِد، في نظر برشت، ليس متلقيًا، بل متورّطٌ في مؤامرة التأويل،
وعليه أن يعبر النصّ لا ليفهمه، بل ليفكّكه كما يفكّك الغنوصي نصّ العالم.

[4]
الإيهام المسرحي = شرك ميتافيزيقي.
الاندماج = تحريض عاطفي مشكوك فيه.
المُخاطرة هي في "المعقول"، لا في "المألوف"،
إذ كل مألوف يُغذّي السكون؛ وكل سكونٍ معادٍ للمادية الجدلية.

[5]
الفصل بين المشهد والحدث، ضرورة إبستمولوجية،
تمامًا كالفصل بين الذات والمتكلّم في السرد الميتا-درامي.
ما يُعرض ليس حكاية، بل جهاز تحليليّ مفتوح يشتغل على إبطال التماهي،
من خلال تمثيلٍ مضادّ للتمثيل،
حيث يصبح الإيقاع فعلاً نقديًا، لا فنيًا فقط.

[6]
فوبوس وإليوس: آليتان من زمن سحيق، تبرمج بهما الجمهور ليبكي ويخاف.
أما المسرح الملحمي، فيُبرمج العقل ليتهكّم، يتشكّك، يشكّ، يفكّر،
ثم ينسى أن يُصفّق.
لأن التصفيق هو رضوخٌ للنهاية، وبريشت لا يكتب نهايات.

[7]
في كل مشهد بريختي، خيانة مزدوجة:
خيانة للواقعة باسم رمزها، وخيانة للرمز باسم تعدّده.
وهكذا تنشطر الدراما إلى درامات،
ويتحوّل الممثل إلى وسيط غنوصي،
ينقل الرسالة، لا ليوصلها، بل ليُظهر أن الرسائل كلها قابلة للنسيان.


---

📜
يتبع



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلفية المعولمة حين يتخذ التنوير شكل فتوى / نقد الحداثة
- الطائر الأسود لا يظهر إلا حين يكون البياض خانقًا
- الحداثة كصليب جديد /نقد الحداثة
- الحاشية السفليّة
- التطبيع مسرحيا مع إسرائيل
- ملحوظات هامشية :الجملة ككائن ميتافيزيقي
- كتاب الحجر الرابع: تعاويذ المادة الأولى
- أنا تمثالٌ بزيٍّ غريب
- تأملات في البنية الكلية
- سيرة أدونيس تمثال من دخان، أو كيف تُصنع أسطورة من ورق الجرائ ...
- الرواقية
- العُري السماوي
- حاشية ثانية على جزيرة اليوم السابق
- الجسد المؤنث كفضاء للسلطة والمقاومة: في تشكيل الهوية الجنسية ...
- بيان مسرحي
- نظام الوحدات وتشكيل السلطة: في هندسة المسرح الكلاسيكي
- في عيون الأرنب الشمسي ويبدأ القارئ بالصراخ
- شذرات من مسرح لا أتذكّر اسمه
- طفل الخشبة /شذرات ضد الأب-المعلّم
- عَتَبة اللّامفاتيح: مُحرِّكُ الأصواتِ اليتيمةِ في هندسةِ الت ...


المزيد.....




- موعد نزال حمزة شيماييف ضد دو بليسيس في فنون القتال المختلطة ...
- من السجن إلى رفض جائزة الدولة… سيرة الأديب المتمرّد صنع الله ...
- مثقفون مغاربة يطلقون صرخة تضامن ضد تجويع غزة وتهجير أهاليها ...
- مركز جينوفيت يحتفل بتخريج دورة اللغة العبرية – المصطلحات الط ...
- -وقائع سنوات الجمر- الذي وثّق كفاح الجزائريين من أجل الحرية ...
- مصر.. وفاة الأديب صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عاما
- سرديّة كريمة فنان
- -وداعًا مؤرخ اللحظة الإنسانية-.. وفاة الأديب المصري صنع الله ...
- الحنين والهوية.. لماذا يعود الفيلم السعودي إلى الماضي؟
- -المتمرد- يطوي آخر صفحاته.. رحيل الكاتب صنع الله إبراهيم


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل الرائي - في أنساق التغريب البريشتي