ميشيل الرائي
الحوار المتمدن-العدد: 8382 - 2025 / 6 / 23 - 01:10
المحور:
قضايا ثقافية
تتموضع الحداثة الغربية، في معظم قراءاتها السائدة، كنموذج فريد للتقدم والعقلانية، لكنها في جوهرها ليست سوى سردية معقدة ومتعددة الأبعاد، حيث تتشابك السلطة والمعرفة في شبكة محكمة من الخطابات التي تسعى لإعادة إنتاج الهيمنة الثقافية والسياسية تحت مظلة التنوير والعلمانية. من هنا، يتضح أن الحداثة لم تكن قطيعة حقيقية مع الماضي اللاهوتي كما تزعم، بل هي إعادة ترميز لأسس ميتافيزيقية قديمة، عادت لتُدار بواسطة مؤسسات جديدة تحمل أسماء حديثة كالأسواق المالية، القضاء الدولي، والتكنولوجيا الرقمية، التي تؤدي في النهاية نفس دور الكنيسة القديمة في تحديد ما هو مشروع وما هو مرفوض، وتخليق أنظمة للمعنى تُكرّس الهيمنة بصيغ أكثر تعقيدًا وتخفيًا. هذا ما تبيّنه الدراسات النقدية، لا سيما تلك المتأثرة بفكر ميشيل فوكو الذي يُظهر كيف أن السلطة الحديثة، رغم ادعائها العلمانية، تستمر في ممارسة "السلطة الانضباطية" التي تتحكم بالأجساد والأرواح عبر آليات غير مرئية، تمتزج فيها المعرفة بالقوة، وتصبح التكنولوجيات أدوات مراقبة لا تقل عن المحراب والقداس أهمية في تشكيل السلوك.
في هذا السياق، يُعزل الشرق، وخصوصًا في بُنيته الدينية والثقافية، ويُوصم بالظلامية والتخلّف، بينما يُعاد إنتاج الدين الغربي ضمن إطار التراث المحترم والحداثي، في نموذج إقصائي يتوافق مع ما وصفه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، حيث صيغت صورة "الآخر" الشرقي ككائن بدائي وغير عقلاني، وهذه الصورة لم تكن سوى أداة لتبرير الهيمنة الاستعمارية والسياسية الغربية. فحين ينطق الشرق باسم الإله يُنتقص من شرعيته، لكن حين يُداس "القدس" بأحذية المستعمرين، يُطرح ذلك على أنه تاريخ مقدّس يُعاش في إطار التنوير والحداثة. هذه التناقضات ليست عرضية بل نابعة من آليات إنتاج المعرفة التي تشكلت عبر الزمن لتخدم مصالح الغرب وتُضعف الآخر.
أما إسرائيل، فإنها تمثل حالة فريدة من "الدولة الدينية" التي تعيد إنتاج النصوص المقدسة للعهد القديم كأدوات شرعية لإرساء دولة قومية تسير على خطوط دم وخرائط أكثر من نبوءات روحية، فتُحول هذه الدولة النص الديني إلى سياسة احتلال ومشروع توسع، فتغدو بمثابة "كنيسة سياسية" تُعيد إنتاج اللاهوت بوجه جديد يبرر العنف والهيمنة تحت ستار القداسة التاريخية. وفي هذا الصدد، تلعب السلطة القضائية والمؤسسات السياسية دور الكهنة الذين يقدسون هذا التأسيس، ويعيدون انتاجه في كل لحظة، بما يجعل من هذا المشروع حالة استثنائية في التاريخ السياسي الحديث، تجمع بين الدين والسياسة في وحدة عضوية تُعيد جدلية القوة والقداسة.
في الوقت ذاته، تُظهر تجارب أمريكا اللاتينية كيف يمكن للكنيسة أن تتحول من جهاز للهيمنة إلى منبر مقاومة اجتماعية وسياسية، حيث استعاد بعض القساوسة دورهم في التنظير للنضال ضد الاستعمار والرأسمالية، مذكرين بأن المسيح كان ثائراً ضد تجارة الهيكل، وليس مصرفيًا محترفًا. هذا التناقض في وظيفة الكنيسة بين الغرب وأمريكا اللاتينية يعكس بوضوح كيف يمكن للمؤسسات الدينية أن تتماهى مع نظم السلطة أو تعارضها، حسب مصلحة السلطة السياسية القائمة، وهو دليل إضافي على أن الدين في العصر الحديث ليس قضية إيمان فقط، بل مسألة علاقات قوة ومعرفة.
كما أن ظاهرة العلمنة الغربية ليست نزعًا حقيقيًا للدين، بل تحوّلاً شكليًا تقنياً يتمثل في إعادة إنتاج الدين في هيئة جديدة؛ فشركات التكنولوجيا الكبرى صارت بمثابة "أناجيل جديدة"، ومنصات التواصل الاجتماعي صارت "مجامع عقائدية"، أما الخوارزميات فهي "محاكم تفتيش رقمية" تتحكم في سلوك الأفراد وممارساتهم، فتؤسس نظامًا رقابيًا يمارس قمعًا مهيمنًا على نطاق واسع عبر شبكة معقدة من العلاقات التقنية والسياسية. بذلك يصبح الدين المعاصر، في صورته الرقمية، أكثر قوة وأسرع انتشارًا من أي كنيسة تقليدية، وهو ما يؤكد على أن الحداثة لم تقتلع الدين من العمق الإنساني، بل أعادته بوجه أكثر هيمنةً وتسلطًا.
إن التبعية المعرفية والثقافية التي يعاني منها العالم العربي تجعله رهينًا لهذه السرديات الغربية، حيث يُطلب من شعوبها أن تسير "كالعميان" خلف هذا الموكب الحداثي، دون القدرة على إنتاج سرديات معارضة قادرة على استعادة الذات الثقافية والمعرفية. يُفسر هذا الضعف بالمركزية الغربية في إنتاج المعرفة، وباللغة التي تُنتج بها، وبالبنى السياسية والاقتصادية التي تتحكم في آليات التعليم والبحث العلمي، وهو ما عبر عنه المفكر سامي شكري تحت مسمى "الاستعمار المعرفي"، إذ لا يقل استعمار المعرفة عن الاستعمار الجغرافي في آثاره على حرية الفكر والإبداع.
ختامًا، لا يمكن النظر إلى الحداثة الغربية بوصفها مشروعًا محايدًا أو مجرد تقدم منطقي، فهي صليب جديد يُلبس أمتنا، ولكن هذه المرة ليس خشبًا وإنما شبكة من أسلاك الإنترنت، ومساطر ديون البنك الدولي، وأغلال السيطرة التقنية والسياسية التي تُقيّد خيارات الشعوب وتُقيّم حريتها عبر مؤشرات السوق والرأسمالية. فالحداثة التي يبشر بها الغرب ليست تحررًا، بل استمرار لقوى السيطرة والهيمنة التي تتخذ أشكالاً أكثر تعقيدًا وتمويهًا، وتستدعي منا وعيًا نقديًا متجددًا، قادرًا على تفكيك النصوص والسياسات، وإعادة بناء سردياتنا الخاصة التي تستعيد إنسانيتنا وتحررنا من قيود "أناجيل الحداثة الكاذبة".
تُضاف إلى ذلك أن الهيمنة المعرفية ليست مجرد فرض خارجي بل عملية داخلية تتم من خلال ما يسميه إيكو "الإيقاعات السردية" التي تغرسها المؤسسات التعليمية والإعلامية والبحثية، فتصبح اللغة والمعايير المعرفية الغربية مقياسًا وحيدًا لشرعية الفكر، ما يحول العقل العربي إلى حالة من العجز عن إنتاج بدائل حقيقية. فالحداثة الغربية إذن ليست محايدة، بل هي شبكة علاقات سلطوية متشابكة تمتد من مركز القرار الاقتصادي والسياسي إلى أبسط أنماط التفاعل الثقافي، وتستخدم تقنيات متعددة لإعادة إنتاج نفسها باستمرار عبر نصوص متجددة تتكيف مع ظروف العصر.
تستدعي هذه الديناميكية ضرورة نقد متجدد لا يكتفي بتشخيص المشاكل بل يسعى إلى تفكيك الأنساق النصية والثقافية التي تشكلها، مستفيدًا من أدوات السيمياء الاجتماعية والتأويل التفكيكي التي طورها إيكو، حيث النص هو حلبة للصراع بين قوى متعارضة حول إنتاج المعنى وتوزيع السلطة. بهذه الرؤية يصبح فهم النصوص الدينية والسياسية الغربية، وكذلك الخطابات الثقافية، مشروعًا لا يمكن فصله عن السياق السياسي والاجتماعي، بل يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار كجزء من بناء منظومة واسعة من السلطة والمعرفة.
علاوة على ذلك، يتطلب الأمر تجاوز الفهم السطحي للعلمنة باعتبارها نزعًا للدين من الحياة العامة، نحو إدراك أن العلمنة في الغرب تعني إعادة تقديم الدين في أشكال متقنعة تلتف حول المؤسسات التقنية والاقتصادية التي تفرض سيطرتها بأساليب لا تقل قسوة عن الأساليب الدينية التقليدية، لكنها أكثر فاعلية لأنها تخاطب العقل الحديث بلغة العلوم والتكنولوجيا. من هنا يمكن القول إن الحداثة الغربية تمثل تداخلاً معقدًا بين العلمانية والدين، حيث يظل الدين حاضرًا ولكن في هيئة علمانية، تستعمل كل الوسائل الممكنة لضمان الاستمرارية الهيمنية.
في ضوء هذه الرؤية، يصبح مفهوم "أناجيل الحداثة الكاذبة" ملائمًا للغاية، إذ يشير إلى أن الحداثة ليست مشروع تحرير كما يُروج له، بل هي مشروع سيطرة معرفية جديدة تحل محل القديم ولا تلغيه، وتطلب من الشعوب العربية أن تتخلى عن ذاتها في سبيل تبني نموذج حداثي مفروض لا يناسب خصوصياتها الثقافية والتاريخية، بل يُصمّم كقناع على جسدها الثقافي ليخفي فقرها في الإنتاج الذاتي للمعرفة. إن هذا القناع هو الذي يجعل من الانتقاد أو المشروع البديل في العالم العربي يبدو غريبًا أو رجعيًا أمام نموذج الحداثة الغربية المهيمن.
ختامًا، يتطلب التحدي الذي يفرضه هذا الواقع موقفًا نقديًا قويًا ومستمرًا يستفيد من المنهج الإيكوي في قراءة النصوص الثقافية والسياسية، وتحليلها داخل أطرها الاجتماعية، لإعادة إنتاج سرديات مغايرة تُمكّن المجتمعات من استعادة قرارها الثقافي والسياسي بعيدًا عن وصاية المعرفة الغربية، وبذلك تتحول المعرفة من أداة تبعية إلى أداة تحرر وإبداع. وبهذا يتحقق شرط أساسي لفهم وتجاوز "أناجيل الحداثة الكاذبة"، وتحقيق حوار حقيقي بين الحضارات، لا يستند إلى فرضيات مسبقة بل إلى احترام التنوع الثقافي والروحي.
#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟