أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - التطبيع مسرحيا مع إسرائيل














المزيد.....

التطبيع مسرحيا مع إسرائيل


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 08:58
المحور: قضايا ثقافية
    


ليست الطاعة اليوم فعلاً صريحًا، بل هي ما يمكن تسميته ـ استعارة من ميشيل فوكو ـ "بالطاعة الباردة": انصياع بلا انفعال، قبول بلا تبرير، إذعان لا تصنعه الهيمنة القسرية بل الرغبة في البقاء ضمن "شبكة السلطة" بأقل تكلفة ممكنة. وفي هذا السياق، تتجلى إحدى المفارقات الأخلاقية المقلقة في أوساط النخب الثقافية والأكاديمية، لاسيما أولئك المنخرطين في الحقول الجمالية والفنية، الذين اختاروا الصمت لا كاحتجاج سلبي، بل كأداة تكيّف ذكي، محكوم بمنطق الحذر من الوقوع خارج دفتر الدعوات أو التمويلات.

إنَّ ما يُعرَف بـ"الصمت الاستراتيجي" ليس مجرد تقشف لغوي أو حياد أخلاقي، بل هو، في تمثيله المعاصر، موقف مشفَّر، منتجٌ ضمن بنية السلطة الرمزية، كما وصفها بيير بورديو. هو فعل محسوب، لا يُقال بل يُفترض، لا يُكتب بل يُتواطأ عليه ضمن شبكة من الأعراف غير المكتوبة التي تحدد ما يمكن التفكير فيه، وما يُمنَع التلفّظ به. وهكذا، يغدو الصمت مشهدًا مسرحيًا كاملاً، لكنه بلا حركة ولا خطاب، بل بتجميد المعنى في مواضع الالتباس.

وفي ظلِّ تصاعد المهرجانات الثقافية والمسرحية المدعومة من مؤسسات دولية أو عربية تتبنى، علنًا أو ضمنًا، سردية التطبيع، تلوذ بعض الأصوات الأكاديمية في العراق بالصمت، مخافة أن تُساء قراءة موقفها، أو أن تُحجب عنها الامتيازات الرمزية: السفر، التمويل، الاعتراف. لا بيانات تُصدَر، ولا مقاطعات تُعلَن، ولا حتى إشارات خافتة تُلوّح بالاعتراض. فالموكب، كما بات مفهومًا، لا ينتظر المنسحبين، ولا يلتفت إلى المترددين.

المفارقة الكبرى، أن هذا الصمت لا يصدر عن فراغ، بل عن رغبة حقيقية في النجاة من تعقيد العالم، عبر الاحتماء ببساطة مزيَّفة: أن تكون "بلا موقف"، حتى لا تُساء قراءتك. وهنا تتقاطع هذه الطاعة الباردة مع ما أسماه فوكو بـ"إنتاج الطاعة عبر الخطابات"؛ حيث يُعاد تشكيل الحقل الأكاديمي كمنظومة خطابية تطبع السلوك، وتنتج نموذجًا للمثقف لا يعارض، لا لأنَّه يؤمن بالوضع القائم، بل لأنَّه يخشى من خسارة موقعه ضمنه.

لكن، في مواجهة هذه البرودة الأخلاقية، تبرز مفارقة أخرى لا تقل تعقيدًا: مفارقة اللامؤمن الذي، حين تُسحق الكرامة البشرية، يتحول إلى مناضل بلا عقيدة، لكنه مشبع بإحساس أخلاقي أكثر رسوخًا من كل سرديات النجاة اللاهوتية. فلا صلاة تُرفَع، ولا وعود بالخلاص، بل مجرَّد رفض لا يطلب مقابلاً، وموقف لا يُقاس على مقاييس الطوائف، بل على مبدأ بسيط: أن لا يُطبَّع القبح، وأن لا يُقبَل الاحتلال.

بل إن هذا اللامؤمن، لو جاءه يهودي تبرأ من آلة القتل التي ترتدي نجمة، لمدّ له يده، لا باسم العهد الإبراهيمي، بل باسم الكرامة المجردة، تلك التي لا تحتاج إلى وسيط سماوي كي تُفعَّل. إنَّه لا يرفض الاحتلال لأنه عربي أو مسلم أو ملتزم، بل لأنه إنسان، يرى في كل تطبيعٍ جريمة إضافية في سجلّ لا يزال يُسطَّر.

وفي المقابل، يواصل حُرّاس المؤسسات الأكاديمية ممارسة سياسة التريّث: لا تنديد، لا تأييد، لا حتى إشاحة وجه. خشيتهم لا تنبع من ضمير مرتبك بل من عقلٍ يُحسن الحسابات: كيف لا تُفهم خطوتك خطأ؟ كيف لا تُسحب دعوتك؟ كيف تُبقي الباب مواربًا نحو مستقبل مموّل؟ إنها حسابات تدخل ضمن منظومة ما بعد أخلاقية، حيث لا قيمة للمبدأ إلا إذا كان قابلاً للتسويق، ولا وزن للموقف إن لم يُترجَم إلى إنفوغراف جذاب.

العالم، في صيغته الجديدة، لم يعد يحتمل التعقيد الأخلاقي. إنَّه يفضل الجمل الجاهزة، المواقف القابلة للتداول، التصريحات التي تُكتب في ثلاث لغات، وتُراجَع في قسم العلاقات العامة. أما المواقف التي تنبع من أرق وجودي، أو التباسٍ ضميري، فهي مواقف غير قابلة للبرمجة، وبالتالي غير مرحَّب بها.

هكذا تُستبدل الكرامة ببدل رسمية أنيقة، ويُستعاض عن الرفض بتذكرة سفر. ويُعاد إنتاج الثقافة بوصفها ملحقًا دبلوماسيًا ناعمًا، لا تصدر عنها إلا أصوات محسوبة، ولا يُسمَح فيها للصراخ أن يتسرَّب من بين الكلمات. فالفن، هنا، لا يعود مقاومة، بل يصبح أداة تزيين سياسي، مشروطة بمدى قُدرته على إخفاء النزيف.

ولأن التاريخ ـ كما نعلم من والتر بنيامين ـ يُكتَب دائمًا من جهة المنتصر، فإن أولئك الذين صمتوا لن يكونوا حتى مادة للسرد. سيُطوى وجودهم كما تُطوى الهوامش عند إعادة طباعة كتاب لم يرغب أحد في قراءة تعليقاته. وحدهم الذين نطقوا، ولو بحروف مرتجفة، هم من يُستعاد صوتهم في هوامش المستقبل.

إننا لا نطالب الأكاديمي بأن يحمل سلاحًا، ولا أن يعتلي منبرًا، بل فقط أن لا يُسلّف صمته للسلطة. أن يفكّر ـ كما يقول إدوارد سعيد ـ كمثقف لا كممثل علاقات عامة. أن يتحدث حين يكون الصمتُ خيانة رمزية، لا ليربح، بل لئلا ينهار.

في زمن الطاعة الباردة، يصبح المسرح الحقيقي خارج الخشبة، والموقف الأخلاقي خارج المنصة، والصوت الصادق هو الذي لا يُبرمج. أما أولئك الذين يضعون مواقفهم في قوالب قابلة للترجمة، فهم لا يمارسون الفن، بل يديرون فرعًا فرعيًا من إدارة الأزمة.

ولذلك، فإن السؤال الحقيقي لم يعد: "ما موقفك؟" بل: "لماذا لا تقول شيئًا، بينما تُقتَل الكرامة على شاشة مهرجانك؟"



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملحوظات هامشية :الجملة ككائن ميتافيزيقي
- كتاب الحجر الرابع: تعاويذ المادة الأولى
- أنا تمثالٌ بزيٍّ غريب
- تأملات في البنية الكلية
- سيرة أدونيس تمثال من دخان، أو كيف تُصنع أسطورة من ورق الجرائ ...
- الرواقية
- العُري السماوي
- حاشية ثانية على جزيرة اليوم السابق
- الجسد المؤنث كفضاء للسلطة والمقاومة: في تشكيل الهوية الجنسية ...
- بيان مسرحي
- نظام الوحدات وتشكيل السلطة: في هندسة المسرح الكلاسيكي
- في عيون الأرنب الشمسي ويبدأ القارئ بالصراخ
- شذرات من مسرح لا أتذكّر اسمه
- طفل الخشبة /شذرات ضد الأب-المعلّم
- عَتَبة اللّامفاتيح: مُحرِّكُ الأصواتِ اليتيمةِ في هندسةِ الت ...
- الفراغُ يعشقُ الخُلد الأعمى
- القرد الأخير يحاول فهم نزيف ساعةٍ وظله يُعلق ذاته بحبل من أس ...
- تشريح الدرس الأكاديمي
- دليلُ الماعزِ الأعمى إلى علاماتِ الترقيمِ المقدّسةِ
- الركح في متاهة المرايا: عن استيهام الموضة وتيه الهوية في الم ...


المزيد.....




- أزمة مياه خانقة تحاصر 60% من أحياء الخرطوم منذ عامين
- متخذًا قرارات جديدة.. ماكرون: على فرنسا أن تتحرك بمزيد من ال ...
- شبكات تجسس ومسيّرات.. كيف تستعد تركيا للحرب مع إسرائيل؟
- الأزمة الإنسانية في غزة تتفاقم وسط انقسام دولي حاد
- ترامب يعلن تبرعه براتبه لتمويل تجديدات البيت الأبيض: -ربما أ ...
- ترامب يقول إن لقاء ويتكوف مع بوتين كان -مثمرًا للغاية-
- مجددًا الدعوة لنزع السلاح من الخرطوم.. قائد الجيش السوداني ي ...
- هل يتجنّب الجيش الإسرائيلي قتل المدنيين؟ إحصاء يظهر أرقاماً ...
- في اتّصال مع القادة الأوروبيين.. ترامب يكشف عن خطة للقاء بوت ...
- سموتريتش لا يهمه سكان غزة ويريد خنقها وتدمير حماس لتحقيق الن ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - التطبيع مسرحيا مع إسرائيل