أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - السلفية المعولمة حين يتخذ التنوير شكل فتوى / نقد الحداثة














المزيد.....

السلفية المعولمة حين يتخذ التنوير شكل فتوى / نقد الحداثة


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 20:33
المحور: قضايا ثقافية
    


إن تُمنح جائزة غربية لمبدع عربي فغالبًا ما لا يكون ذلك احتفاءً محضًا بالإبداع بل هو طقس ضمن شعائر المركزية الغربية يُطلب فيه من المكرم أن يسلم مفاتيح عقله على بوابة الأكاديمية وأن ينقح روحه على مقاس الذوق الغربي

في تلك اللحظة لا يعود القبول تكريمًا بل تعميدًا في ماء الحداثة الذي جف منذ عقود يُطلب من العربي أن يصدق بأن الشرق صورة باهتة لا يُرى فيها سوى ما يعكسه الغرب يُعلق العقل كما يُعلق الرداء الطائفي في خزائن اللاهوت القديم خذ ولا تناقش كرر ولا تبتكر

وهكذا يصبح التنويري العربي سلفيًا جديدًا لا يسجد لرموز الأولين بل للأنساق البنيوية الغربية متبتلًا في معابد نهاية التاريخ وموت المؤلف وما الحداثة في هذا السياق إلا نسخة علمانية من التقليد الأعمى يلبسها البعض كأنها ثوب نجاة لكنها مشدودة بخيوط استعمار ناعم يشتغل لا بالسيف بل بالتصفيق

الفرق الوحيد أن السلفي الديني يقدس فضلات الأوائل بينما السلفي الحداثي يبارك قمامة الغرب باسم العقل وكلاهما يعطلان إمكانية النظر النقدي ويكتفيان بالتكرار آمنا واتبعنا

والمفارقة أن هذا التقديس المعكوس لا يخلق مثقفًا بقدر ما يخلق مترجمًا دائمًا، لا ترجمات لنصوص وإنما لسلطة، سلطة لا تُفكك بل تُعاد صياغتها بلهجة محلية. فبينما كان المثقف التنويري يحلم يوماً بأن يكون بروميثيوس يسرق نار العقل من آلهة الغرب، أصبح اليوم مجرد كاهن صغير في معبد التنوير المتأخر، يضبط البخور، يحفظ الصلوات، ويخشى أن يخطئ في قواعد النحو الما بعد استعماري.

ليس الأمر هنا تمردًا ضد العقل، بل ضد احتكاره. فالعقل، كما علمنا التاريخ، ليس أوروبيًا ولا عربيًا ولا لاتينيًا، بل هو مشروع مفتوح، غير مكتمل، لا يحتمل الكهنوت. لكننا حين نُبدّل فقه الظواهر بفقه العلامات، ونستبدل النبيَّ بالمنظّر، نكون قد انتقلنا من صحراء الوحي إلى صحراء المرجعيات، وكلاهما يُنتج العطش ذاته: عطشًا إلى الحرية، إلى التفكير، إلى الحيرة المحرّمة.

ولعلّ السؤال الأهم ليس لماذا يُكرَّم العربي حين يكتب بلغة الغرب أو على إيقاعه، بل لماذا لا يُسمح له بأن يكتب بلغة لا تُترجم؟ لغةٍ تُربك حتى خيال الغرب، كما أربكته الهرطقة يوم كانت الفتنة طريقًا لاكتشاف المعنى.

فما أسماه الغرب "عالمًا ثالثًا"، صنع منه التنويريون العرب مرآة للتقديس، لا ليتحدوه بل ليعيدوا إنتاج عقدة التفوّق، بوجه جديد، ببدلة مفصلة في باريس.

وهكذا... في زمن السلفية المعولمة، يصبح النشاز فضيلة، والمطابقة خلاصًا، وتغدو كل جائزة ختمًا على شهادة حسن السيرة في مدرسة امبراطورية الذوق. لكن من سيجرؤ على كسر الإيقاع دون أن يُتّهم بالضجيج؟ من يكتب دون أن يُكافَأ؟ من يرفض البرقع الأكاديمي ليقف عاريًا أمام السؤال؟ من يصرخ: لا، حتى ولو قالها بلحنٍ خارج السلم الغربي؟

لكن لعلّ الجائزة، في أحد وجوهها، ليست أكثر من شكل من أشكال الفقد: فقد الأصالة، فقد القدرة على الإبهام، على التأتأة الوجودية التي تصاحب كل فكر لم يكتمل بعد. إن الكتابة الحقيقية لا تقبل التلخيص، لا تدخل في بيان لجنة، ولا تستوي على كرسي التكريم. الكتابة، كما تشبه المتاهة لا لأنها تقود إلى الضياع، بل لأنها تمنحنا وهم الوصول فقط لنكتشف أن الهدف كان هو التيه ذاته. أما الجائزة، فهي تشييد مؤقت لمخرج طارئ، لباب نجاتك من المتاهة، لكنها في الحقيقة باب خلفي إلى الزنزانة ذاتها.

إن من يقبل الجائزة دون أن يرتجف، دون أن يسأل: لماذا أنا؟ كيف تمت صياغتي؟ ومن كتبني بغير علمي؟، هو ذاته من يقبل أن يُعاد إنتاجه كنص قابل للقراءة، لا للكتابة. وها نحن نرى نصوصًا تُكتب لا لتُحدث أثرًا، بل لتنال رضى قارئ مُتخيل في الشمال العالمي، قارئ لا نعرف شكله، لكنه يتحكم بطريقة الجلوس، وبنبرة الصوت، وبطول الجملة.

لم يعد سؤال "من يكتب؟" هو المهم، بل "لمن نُكتب؟"، و"كيف نُقرأ؟"، و"وفق أي مقاييس يُوزَن الجمر؟"، بل الأخطر: من اختار هذه المقاييس ومن أودعها فينا؟ حين يتكلم العربي اليوم عن الحداثة، فإنه غالبًا ما يفعل ذلك بلسان مُستعار، يكتب عن العقل بلغة من عُلّم أن العقل ليس له، يكتب عن الحرية بلغة من قيّدت حريته وتركته يُدافع عنها كمترجمٍ غريب في ساحة محكمة غربية.

لكن هناك ما لا تُدركه الجوائز، وما لا تُسيطر عليه الأوسمة: ذلك الصمت الذي يتلو الكتابة، الصمت الذي لا تقدر على تسويقه دور النشر ولا يُفك شفرته نقاد البرادايم. هناك مناطق في النص العربي لا تُترجم، ليست لأنها عصيّة على اللغة، بل لأنها تمقت الفهم السريع، وترتجف من الإضاءة، تلك المناطق التي فيها الشعر يشبه الهذيان، والمسرح يتحول إلى طقس طرد الأرواح، والرواية تسيل من بين الأصابع مثل حلمٍ في منتصف يقظة.

إن الكلمة الحقيقية، حين تُقال في هذا الزمن، لا تحتاج جائزة بل تحتاج ملجأ. تحتاج قارئًا يشك، لا قارئًا يُصفق. تحتاج من يحترق بها لا من يُبرمجها. إنها ضد الترجمة، ضد التقييم، ضد التصنيف. هي أثر، لا صنف. لعنة، لا مجد.

من يدرك هذا لن يرفض الجائزة لأن في رفضها بطولة، ولا يقبلها لأن في قبولها نجاة، بل لأنه ببساطة لا يعود مهتمًا بالبقاء داخل النص القابل للقياس. فهو من أولئك الذين حين يكتبون، يكتبون كي لا يُفهموا، كي لا يُستوعبوا، بل كي يُستيقَظ بهم، ولو بعد قرون.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطائر الأسود لا يظهر إلا حين يكون البياض خانقًا
- الحداثة كصليب جديد /نقد الحداثة
- الحاشية السفليّة
- التطبيع مسرحيا مع إسرائيل
- ملحوظات هامشية :الجملة ككائن ميتافيزيقي
- كتاب الحجر الرابع: تعاويذ المادة الأولى
- أنا تمثالٌ بزيٍّ غريب
- تأملات في البنية الكلية
- سيرة أدونيس تمثال من دخان، أو كيف تُصنع أسطورة من ورق الجرائ ...
- الرواقية
- العُري السماوي
- حاشية ثانية على جزيرة اليوم السابق
- الجسد المؤنث كفضاء للسلطة والمقاومة: في تشكيل الهوية الجنسية ...
- بيان مسرحي
- نظام الوحدات وتشكيل السلطة: في هندسة المسرح الكلاسيكي
- في عيون الأرنب الشمسي ويبدأ القارئ بالصراخ
- شذرات من مسرح لا أتذكّر اسمه
- طفل الخشبة /شذرات ضد الأب-المعلّم
- عَتَبة اللّامفاتيح: مُحرِّكُ الأصواتِ اليتيمةِ في هندسةِ الت ...
- الفراغُ يعشقُ الخُلد الأعمى


المزيد.....




- السلحفاة المعمّرة بروتوس رافقت المشاهير.. وتعيش في منتجع فاخ ...
- صاعقة تتسبب بكرة لهب في طريق بكارولينا الجنوبية.. شاهد ما أح ...
- الفستان الأسود القصير: صيحة عمرها أكثر من 70 عامًا والنجمات ...
- في عيد ميلاد ابنها.. مادونا تناشد البابا لزيارة غزة وفتح ممر ...
- موجة حر استثنائية تضرب فرنسا والسلطات تعزز الإجراءات الوقائي ...
- جيل كامل من طلاب غزة بين الركام والجوع بعد دمار المؤسسات الت ...
- -إكس- يعلق حساب -غروك- بسبب تصريحاته عن حرب غزة
- سياحة الموت.. عندما تصبح المساعدة على الانتحار خدمة طبية
- محللان: نتنياهو يعيد تشكيل الجيش للهيمنة على غزة
- عائلات غزة تكافح للبقاء وسط الحصار والتجويع والحرب الإسرائيل ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - السلفية المعولمة حين يتخذ التنوير شكل فتوى / نقد الحداثة