أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الثقة الحذرة: فن بناء الجسور مع الآخر دون الوقوع في فخ المظاهر














المزيد.....

الثقة الحذرة: فن بناء الجسور مع الآخر دون الوقوع في فخ المظاهر


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 00:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الثقة الحذرة: معركة العقل والقلب في زمن الأقنعة

نحن لا نعيش مجرد عصر السرعة، بل نعيش عصر "المظاهر المُنتَجة"، حيث تُصنع الصور لتُصدّق، وتُركّب الخطابات لتُباع. في هذا العالم الحديدي، تتحول الثقة إلى ميدان معركة خفيّة: من نُصدّق؟ من نفتح له أبوابنا؟ من نعبر معه الجسر ونحن واثقون ألا يهوي بنا؟

الثقة اليوم لم تعد قرارًا عفويًا كما كانت، بل أصبحت فنًا معقّدًا يتطلب حذرًا يُبقي العقل مستيقظًا. فمن جهة، نحن بحاجة إلى بناء الجسور مع الآخر المختلف لننجو من غربة الأفكار وتقوقع الذات، ومن جهة أخرى، نحن بحاجة إلى أن نشك، لأن المشهد الأول قد يكون خدعة، وقد تكون الابتسامة الجميلة قناعًا مُتقنًا.

في عالم يُسوّق المشاعر، ويُصدّر المظاهر، أصبح الإيمان الساذج عملة خاسرة. نحن مطالبون اليوم أن نُمارس "الثقة الحذرة"، أن نُصدّق بلا أن نغلق أعيننا، أن نمدّ اليد مع الاحتفاظ بمساحة للتراجع، أن نحب لكن مع عقلٍ مُتيقظ.

هذه ليست دعوة للعداء، لكنها دعوة للاستفاقة. الثقة الحذرة ليست جدارًا يفصلنا عن الآخر، بل جسر يبنيه الوعي ولا تسرقه العاطفة.

أن تبني جسورًا مع المختلف هو فعل إنساني نبيل، لكنه لا يعني أن نُلغي شكّنا. الثقة العمياء ليست فضيلة بل سقوط. وكما قال رينيه ديكارت: “لكي تصل إلى الحقيقة، يجب مرة واحدة في حياتك أن تشك بقدر الإمكان في كل الأشياء.” إننا مطالبون أن نتعلم الثقة دون أن نستسلم لها، وأن نمارس التشكك دون أن نتحول إلى سجون مغلقة

العصر الحديدي للثقة: بين الوهم واليقظة

نعيش في زمنٍ تتحول فيه العلاقات الإنسانية إلى ساحة معركة خفية بين المظاهر والجوهر، حيث تُباع الحقائق المزيفة كسلعة رائجة، ويُختزل التواصل في صورٍ سريعة وزائفة. في هذا المشهد، يصبح بناء الجسور مع "الآخر المختلف" تحدياً وجودياً: كيف نثق دون أن نُخدع؟ وكيف نشك دون أن ننغلق؟

الثقة ليست استسلاماً ساذجاً، كما أن الشك ليس انعزالاً عدائياً. إنها "اتزانٌ" دقيق بين القلب والعقل، بين الانفتاح والحيطة. وكما قال رينيه ديكارت: "الشك هو البوابة الأولى للحكمة"، لكنه شكٌ يُفتح على الفهم، لا على الخوف.

المظهر والخداع: عندما تتحول الوجوه إلى أقنعة

كم من مرة انجرفنا خلف خطابٍ مؤثر أو ابتسامةٍ دافئة، لنجد لاحقاً أنها كانت مجرد واجهة لِنوايا مغايرة؟ المشكلة ليست في الاختلاف ذاته، بل في قبولنا السطحي لما يبدو عليه الآخر دون اختبار عمقه. العاطفة غير المسيَّجة بالعقل تُعطّل "جهاز المناعة الفكري" الذي يحمينا من التلاعب.

- اليقين الساذج: الثقة العمياء في المظاهر تُسقطنا في فخ "الطيبة السلبية"، حيث نُصدّق كل شيء لأننا نريد أن نؤمن، لا لأن الأدلة تقودنا لذلك.
- الشك المُفرط: التحوّط الدائم يجعلنا نعيش في قلعة منعزلة، نخسر فيها فرص التقارب الحقيقي.

كما كتب رالف والدو إمرسون: "الشك حكمة، لكن اليقين الساذج بداية السقوط".

اتزان العقل والقلب: الهندسة الآمنة للجسور

لننتبه إلى هذه المفارقة: أعمق الجسور تُبنى بقدرٍ من الشك، وأقوى الثقات تُختبر بالتساؤل. الثقة الحقيقية ليست حدثاً لحظياً، بل عملية تراكمية من:

1. التفكيك النقدي: لا تقبل أي خطابٍ أو فعلٍ كحقيقة مطلقة. اطرح الأسئلة: ما الدوافع الخفية؟ هل هناك تناقض بين القول والفعل؟
2. المراقبة الهادئة: كما يقول المثل الصيني: "لا تحكم على النهر من جرّة واحدة شربتها منه". أعطِ العلاقات وقتاً كي تظهر حقيقتها.
3. حدود واضحة: الثقة لا تعني إلغاء الحواجز. ضع شروطاً للتواصل تحفظ كرامتك دون أن تقتل فرص التقارب.

هنا يبرز دور فرانسيس بيكون الذي ذكّرنا: "من يبدأ باليقين ينتهي بالشك، ومن يبدأ بالشك ينتهي باليقين".

كيف لا تُخدع؟ أدوات للثقة الواعية

1. اقرأ ما بين السطور: اللغة الجسدية، التناقضات في الروايات، التغيير المفاجئ في السلوك... كلها إشارات تحذيرية.
2. اختبر بالوقت: الثقة العاجلة كالبناء على رمال متحركة. كما يذكر لاري نورمان في كتابه "كيف تبني ثقة لا تتزعزع": "الثقة الناضجة تحتاج إلى خطوات متأنية".
3. احتفظ بمسافة للتراجع: حتى في ذروة التقارب، ابقَ قادراً على إعادة تقييم العلاقة إذا تغيرت المعطيات.

الثقة كفنّ للبقاء: لا تنم على الجسر

الحياة ليست معادلة رياضية تنتهي بيقين، ولا علاقة إنسانية تُقاس بلغة واحدة. العالم نسيجه الرمادي يتقاطع فيه الصدق مع التمثيل، والنوايا مع الأقنعة. من ينجو هو من يفهم أن بناء الجسور مع الآخر لا يعني أن يُلقي بنفسه في النهر، ولا يعني أن يبني جدارًا عازلًا يمنع عبور أحد.

الحكمة الحقيقية ليست في أن نثق بكل من يبتسم لنا، ولا أن نرتاب من كل يد ممدودة. الحكمة في أن نُتقن ذلك الاتزان النادر: أن نمنح الثقة بخطوات واعية، أن نُبقي الشك كصديق، لا كعدو، أن نحب بجرأة لكن بعينين مفتوحتين.

كما أن الجسور الحقيقية لا تُبنى لتكون فخًا، ولا لتكون سجنًا، بل لتكون معبرًا آمِنًا يحملنا نحن أيضًا بكرامتنا، بحريتنا، بقدرتنا على الانسحاب حين نكتشف أن الوجه الآخر قد تغيّر.

"الحكيم لا يخاف الشك، بل يخاف أن يثق بغير تفكير."

لا تخف من أن تشك، فالشك ليس عدوًا… العدو هو أن تسلّم نفسك بلا وعي، بلا قراءة، بلا اختبارات. ابنِ جسورك، لكن لا تنم عليها… ابقَ يقظًا، لأن أجمل ما في الثقة أنها تتجدد حين يحرسها العقل، لا حين تغتالها العاطفة.

---

المصادر:

- How to Build Unshakable Confidence by Larry Norman
- René Descartes – Meditations on First Philosophy
- Ralph Waldo Emerson – Selected Essays
- Francis Bacon – The Advancement of Learning



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يُصاب الضمير العام بالشلل: الفساد الأخلاقي والإعلام بوصف ...
- الديمقراطية المعلّبة: أمريكا تُصدّر الحروب… وترامب يدخل المع ...
- الفوضى: هندسة الوجود بين العلم والسياسة والفن
- ومضات في حياة البروفيسور شريف الصفتي: ما بين الحقيقة والتهوي ...
- “الحمار الذهبي”: رحلة التحول بين الجسد والمعرفة
- السلاح النووي: قنبلة معلقة فوق رقبة البشرية
- هل حان الوقت لبناء ملاجئ بدلًا من أوهام السلام؟
- “رحيل”.. حين تهمس الروح بالحياة وتختبر الحب كفناء
- الجسر لا السيف: في مدارات الجدل الإنساني الراقي
- فيليس ويتلي: حين كتبت العبدة قصائد الحرية
- درهمٌ في مؤخرة الحافلة: حين يصطدم جنون الثروة بجنون السلطة
- المتعة لحظة… والسعادة قرار: من فخ اللذة إلى جسر الحكمة
- تغيير التفكير… بوابة لتغيير المصير
- قوة التفكير الإيجابي: قراءة في كتاب جيسون وولبرز
- فلسطين أولاً: تفكيك أسطورة “إسرائيل” في النصوص الدينية والتا ...
- قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح
- الشخصية الجدلية: بين الجاذبية والتنافر
- القيادة بين التحذير والتجاهل: دروسٌ من الكارثة
- مصر وتاريخ الهويات: من يوسف وموسى إلى رمسيس وأحمس، ومن النوب ...
- من السيارة إلى الإنسان: شرائح ذكية تحرس الحياة وتعيد تعريف ا ...


المزيد.....




- الضربات الأمريكية على إيران تثير مخاوف في دول الخليج من الان ...
- الولايات المتحدة غيّرت مسار المواجهة - كيف سترد إيران؟
- خاص يورونيوز: إسرائيل ترفض تقرير الاتحاد الأوروبي حول غزة وت ...
- خبير إسرائيلي: تل أبيب لا تريد التصعيد والكرة في الملعب الإي ...
- هل فشلت -أم القنابل- في تدمير -درة تاج- برنامج إيران النووي؟ ...
- أحداث تاريخية هزت العالم بالأسبوع الرابع من يونيو
- الرأسمالية نظام -غير ديمقراطي- يستنزف جنوب العالم ليرفّه عن ...
- هل يطلب المرشد الإيراني وقف إطلاق النار مع إسرائيل؟
- كيف نُفذت الضربة الأميركية على إيران؟ وما الأسلحة المستخدمة؟ ...
- كيف يرد الحوثيون بعد هجمات واشنطن على إيران؟


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الثقة الحذرة: فن بناء الجسور مع الآخر دون الوقوع في فخ المظاهر