أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أوزجان يشار - الجسر لا السيف: في مدارات الجدل الإنساني الراقي















المزيد.....

الجسر لا السيف: في مدارات الجدل الإنساني الراقي


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8369 - 2025 / 6 / 10 - 14:57
المحور: قضايا ثقافية
    




في زمنٍ باتت فيه النقاشات الإستعراضية أكثر حضورًا من التأمل الواعي، والآراء أسرع من الإصغاء، يُطرح سؤال جوهري لا يغيب عن الساحة النفسية والاجتماعية: كيف يمكن للإنسان أن يكسب جدالًا دون أن يخسر إنسانًا؟

يظن البعض أن الجدل ساحة حرب، وأن الانتصار فيه لا يكتمل إلا بإسكات الطرف الآخر أو إحراجه. لكن هذا التصور، وإن بدا قويًا ظاهريًا، يفتقد لأبسط معايير الذكاء العاطفي والاجتماعي. فالحوار الحقيقي لا يكون بغرض الغلبة، بل بقصد الفهم والتقارب. والأذكى ليس من يقنع، بل من يترك في الطرف الآخر رغبة في الاقتناع.

في كل جدال، هناك فرصة للعبور إلى ضفة الآخر، لا لمجاراته، بل لفهم منبعه. حين تسأل: “ما الذي دفعك لهذا الرأي؟” فأنت لا تتنازل عن موقفك، بل تعلن نضجك. ذلك أن أقوى الحجج لا تكون في الرفض السريع، بل في استدعاء الأسئلة التي تكشف الأساس الهش لأي موقف متسرع. وقد أشار المفكر الاجتماعي نيكولاس كريستاكيس إلى أن “الانخراط في جدال صحي يتطلب فن الإصغاء بقدر ما يتطلب قوة التعبير.”

لابد أن ندرك بأنا نعيش في زمنٍ طغى فيه إيقاع الآراء السريعة على أنفاس التفكير العميق، بات النقاش أشبه بساحة اختبار يومي، لا للمعرفة، بل للهيمنة. كثيرون لا يسألون: ما الحقيقة؟ بل: من الرابح؟ والحقيقة أن من يربح الجدل باللسان قد يخسر القلب، وقد يخسر الإنسان نفسه.

ليس الهدف من كل نقاش أن نُثبت أننا على صواب، بل أن نظل في منأى عن الكِبر، وفي منأى عن تحويل الحوار إلى مذبحة معنوية. الذكاء الاجتماعي لا يُقاس بكم حجة نملك، بل بكيفية تقديمها دون أن نُشعر الطرف الآخر بأنه محاصر. فالسؤال الذكي أكثر اختراقًا من الاعتراض العنيف، والتعاطف في لحظة نقاش أبلغ من مئة حجة.

حين نسأل بدلاً من أن نهاجم، وحين نترك للآخر مساحة ليُعيد ترتيب أفكاره، فإننا نمارس نوعًا من الحوار النبيل، حيث تُصبح الكلمات مراكب للعبور، لا سكاكين للقطع.

وكم من جدال بدا محتدمًا، ثم خمد فقط لأن أحد الطرفين اختار أن يسأل بدل أن يرد، أو أن يبتسم بدل أن يهاجم. إن الوقار الذي يحمله صوت هادئ وسط ضجيج الأصوات، هو ما يجعل الآخر يعيد حساباته لا شعوريًا. فالنبرة الهادئة لا تعني الضعف، بل ترمز إلى الثقة، وتُشعِر الطرف الآخر بالأمان الكافي ليُراجع ذاته.

من الجوانب النفسية العميقة في النقاش، أن البشر لا يحبون أن يُقال لهم “أنت مخطئ” حتى وإن كانوا كذلك. لكن حين تُقدّم حجتك على شكل سؤال، أو تترك له مساحة لإعادة التقييم، فإنك تزرع بذرة المراجعة دون أن تهدم كرامته. وهذا ما وصفه دانيال كانيمان، الحائز على نوبل، حين تحدث عن “انحياز التوكيد”، حيث يرى الناس ما يعزز آراءهم، ويتجاهلون ما يهدمها، إلا إذا قدّمت البديل بطريقة لا تُهدد الهوية.

وقد نَبَّهَ القرآن الكريم إلى هذا المسار، فجاء قوله تعالى:
﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]
ليُعلي من قيمة الجدل الأخلاقي القائم على الرحمة والمنطق، لا على السخرية أو الاستخفاف. ولئن كان “الحوار” فريضة عقلية، فإن “الجدال الحسن” هو ضميرها.

ونقرأ في القرآن حوارات عظيمة: بين نبي الله إبراهيم والملك النمرود، وبين موسى وفرعون، حتى بين الإنسان والملائكة. كلها حوارات تحمل مساحة للتساؤل، وتؤكد أن الحق لا يخاف من السؤال.

وفي العهد الجديد، كان المسيح عليه السلام يتلقى الأسئلة الخبيثة بالهدوء والأمثال، ويحول فخ الجدل إلى فرصة للفهم. كما تقول كلمات إنجيل متى:
“طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض.”
إنها دعوة إلى الكلمة الطيبة، لا الكلمة القاطعة.

أما في التوراة، فنقرأ مناجاة أيوب وشكواه إلى الله، في نموذج لجدال إنساني روحي، لا تُلغيه القداسة بل تؤكده.

وفي التعاليم البوذية، يعلو مبدأ “الحديث الصحيح” ضمن الطريق النبيل الثُماني، حيث يُمنع استخدام الحديث كأداة للعدوان، ويُشجع على الصمت متى غاب اللطف.

أما “الباغافاد غيتا” الهندوسية، فتمثل خلاصة جدل داخلي عميق بين أرجونا وكريشنا، حيث يُطرح الشك بصراحة، ويُستدعى الإيمان بالحوار، لا بالفرض.

وإذا عدنا إلى الحياة اليومية، سنجد أن الجدل الراقي لا يكون في الكلمة، بل في الطريقة: أن تقول “هل ترى أن هذا ممكن؟” بدل “أنت مخطئ”، أن تسأل “كيف توصّلت إلى هذا الرأي؟” بدل أن تقول “هذا كلام غير منطقي”.

فالسؤال يبني، أما الجملة القاطعة، فتُغلق النوافذ.

في علم النفس، هناك ما يُعرف بـ”انحياز التوكيد”؛ إذ يبحث الناس لا عمّا ينقض آراءهم، بل عمّا يُعزّزها. ولهذا فإن طريقة تقديم الفكرة أهم من الفكرة ذاتها أحيانًا. فأنت حين تعرض رأيك كاحتمال، لا كيقين مطلق، تُريح عقل الآخر من المقاومة، وتفتح له الباب ليرى الأمور من زاويتك.

والأمثلة اليومية أكثر مما تحصى: موظفٌ يسأل مديره بلطف عن “مقياس النجاح في المشروع” بدل أن يعترض على خطة لا يراها منطقية؛ صديق يهمس لصديقه “هل خطر ببالك أن ننظر للأمر من زاوية مختلفة؟” بدل أن يقول له “أنت لا تفهم.” كم تغيّر موقف، وتبدّل مسار، بفضل لغة غير هجومية، وعبارات محفوفة بالاحترام.

وعلى عكس ما قد يُخيّل للبعض، فإن التمهل في الرد ليس تراجعًا، بل تأكيد على أنك تفكر، لا تنفعل. والمفارقة النفسية الجميلة أن الطرف الذي تمنحه حق الكلام، سيمنحك لاحقًا رغبة في الإنصات. فكل جدال عادل يُبنى على تبادل حقيقي، لا على تبادل الاتهامات.

لا يحتاج الإنسان في كل نقاش إلى الانتصار، بل إلى أن يُحترم. فربما لا تقتنع فكريًا، لكنك تخرج من الحوار وأنت تُقدّر الطرف الآخر، وهذا ربح لا يُقاس.

أما المنتصر في الظاهر، وهو الذي يسخر أو يُحاصر، فربما كسب الجولة، لكنه خسر المسار.

لست بحاجة إلى حُجج تُبهر بقدر ما تحتاج إلى أسلوب يُطمئن. الحجج القوية تُقنع العقل، لكن الأسلوب الحسن يُقنع القلب، وما اجتمع العقل والقلب إلا وخرجت الحقيقة في أبهى صورها.

إن الجدل فنٌّ لا يُتقنه إلا من فهم أن “الصوت الهادئ أقوى من العاصفة”، وأن من أراد أن يُغيّر رأيًا، عليه أولًا أن يحترم مشاعر صاحبه. فالفكرة تُهزم عندما تُهاجَم بعنف، لكنها تنتصر عندما تُزرع بلطف في أرض خصبة من التفاهم.

فليكن هدفك في أي نقاش أن تفتح نافذة، لا أن تغلق بابًا. أن تحرّك الفكرة في ذهن الآخر، لا أن تُسكتها. ولعلّ أجمل ما في الجدل أنه يعيد ترتيب الأفكار، لا الفِرَق. أما الفوز الحقيقي، فهو أن تخرج من النقاش مرفوع الرأس، ومرفوع الخُلق، لذلك، اجعل جدالك حبلًا يصل لا سيفًا يقطع، واجعل كلماتك جسرًا لا حاجزًا. وإن لم تُقنع خصمك، على الأقل اجعله يخرج وهو يقول: “اختلفنا… لكنني احترمته.”



المصادر:
• القرآن الكريم – سورة النحل، آية 125
• الإنجيل – إنجيل متى، الإصحاح الخامس
• التوراة – سفر أيوب
• الباغافاد غيتا – الحوار بين كريشنا وأرجونا
• دانيال كانيمان – Thinking, Fast and Slow
• نيكولاس كريستاكيس – Connected
• صيد الفوائد – “أصول الحوار”
• فِلة جليس – “كيف تكسب جدالاً دون خلق عداوة”
• لمى فياض – 1000 حيلة في التلاعب النفسي



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فيليس ويتلي: حين كتبت العبدة قصائد الحرية
- درهمٌ في مؤخرة الحافلة: حين يصطدم جنون الثروة بجنون السلطة
- المتعة لحظة… والسعادة قرار: من فخ اللذة إلى جسر الحكمة
- تغيير التفكير… بوابة لتغيير المصير
- قوة التفكير الإيجابي: قراءة في كتاب جيسون وولبرز
- فلسطين أولاً: تفكيك أسطورة “إسرائيل” في النصوص الدينية والتا ...
- قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح
- الشخصية الجدلية: بين الجاذبية والتنافر
- القيادة بين التحذير والتجاهل: دروسٌ من الكارثة
- مصر وتاريخ الهويات: من يوسف وموسى إلى رمسيس وأحمس، ومن النوب ...
- من السيارة إلى الإنسان: شرائح ذكية تحرس الحياة وتعيد تعريف ا ...
- كيف تتغلب على المتلاعبين؟ قراءة تأملية في كتاب جاستن تايلور
- في حضرة مهاويرا: رحلة إلى الجينية، الديانة التي تمشي حافية ف ...
- ومضات من حياة هنري ميلر
- قبّعات التفكير الستّ: حين يصبح العقل غرفةً ذات نوافذ ملوّنة
- الديانة الإبراهيمية: بين الخديعة الرمزية ومخطط تجميل إسرائيل ...
- قراءة جادة في مسار الإنقاذ الإداري
- من نحن… ومن يمكن أن نكون؟
- قيادة السيارة إنعكاس للشخصية: بين السلوك المتحضر والمتهور
- حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال


المزيد.....




- فستان زفاف ثانٍ لأمينة خليل في اليونان..هل تفوّق على الأول؟ ...
- -حيوانات ترفع أعلامًا أجنبية-.. شاهد ما قاله ترامب عن -مثيري ...
- إيران تهدد باستهداف جميع القواعد الأمريكية في حال فرض الحرب ...
- -الدوما-: لا طرق قانونية لتمديد ولاية زيلينسكي
- الجيش الإسرائيلي ينشر نتائج تحقيقه حول أحداث 7 أكتوبر في موش ...
- الأحزاب المعارضة تصوت على حل الكنيسيت الإسرائيلي اليوم.. كيف ...
- لوس أنجلوس.. ترامب يبعث الحياة في -قانون الانتفاضة- بعد أكثر ...
- -التحالف الدولي- يبحث مخاطر -داعش- في سوريا
- إسرائيل تبدأ تجنيد جيش من الحريديم مطلع يوليو
- نتنياهو يسابق الزمن لإنقاذ حكومته وسط تهديدات بحل الكنيست بس ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أوزجان يشار - الجسر لا السيف: في مدارات الجدل الإنساني الراقي