أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال














المزيد.....

حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8337 - 2025 / 5 / 9 - 16:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قد لا يُعلن الوعي عن نفسه بضجيج، ولا يطرق أبوابنا بصوت عالٍ، بل يتسلّل كنسمة هادئة إلى أعماقنا، فيوقظ فينا حواسًا خمدت، ويمدّنا ببصيرة ترى خلف الكلام، وتتجاوز سطح الأحداث. الوعي العالي لا يعني الوصول إلى قمة روحية معزولة، بل هو حالة داخلية دقيقة، تنضج في القلب وتترجم في السلوك، فتجعل من الإنسان مرآة صافية للعالم من حوله.

غالبًا ما تبدأ هذه المرحلة بسلسلة من التحولات: قلة الحديث، زيادة التأمل، تراجع الحاجة لإثبات الذات، ازدياد الميل إلى البساطة، والتعلق باللحظة. ليس من باب الكسل أو اللامبالاة، بل لأنها علامات على أن الإنسان بدأ يرى الحياة من زاوية أعمق. فكما قال الفيلسوف الصوفي جلال الدين الرومي: “الكلمات لا يمكن أن تشرح ما نشعر به بصدق، ولهذا نصمت حين نصل إلى عمق الحقيقة.”

لكن هذه المرحلة ليست دائمًا مريحة، بل قد تُربك النفس أحيانًا. من يرتفع وعيه فجأة، قد يشعر وكأنه غريب بين من يعرفهم، وقد تضطرب علاقاته المعتادة، ويبدأ بالتساؤل: “هل أنا على الطريق الصحيح، أم أنني أنفصل عن هذا العالم؟” وهنا تبدأ المفارقة النفسية: فكلما زاد الإنسان نورًا داخليًا، قد يشعر مؤقتًا بظلمة الانفصال. هذه الحالة تشبه إلى حد بعيد ما وصفه كارل يونغ حين تحدث عن “ظلال النفس”، إذ لا يرتقي الوعي إلا بمصالحة الجوانب المظلمة والمضيئة في داخلنا.

الوعي العالي يمنح صاحبه سلامًا داخليًا عميقًا، لكنه قد يحرمه من سهولة التواصل العاطفي السطحي، ما لم يُدرِك أن الحكمة ليست في الانسحاب، بل في البقاء بانتباه. على المرء أن يتعلّم كيف يعيش في العالم دون أن يغرق فيه. أن يُعطي دون أن يتوقع، أن يُحب دون أن يتملك، وأن يُصغي دون أن يُرهق نفسه بالشرح.

لقد التقيت بامرأة مسنة في أحد معابد الهند، كانت تجلس بصمت على سجادة من القش، وبينما يدور العالم حولها بصخب، كانت نظرتها عميقة، خالية من التعلق، لكنها مليئة بالرحمة. حين سألتها عن سر هدوئها، قالت: “حين عرفت نفسي، لم أعد بحاجة لإثباتها. تعلمت أن أستمع أكثر، أن أعيش الآن، وأن أكتفي بما يمنحني الكون من علامات صغيرة.” هكذا يفعل الوعي حين ينضج: لا يجعلنا أفضل من الآخرين، بل أقرب إلى أنفسنا.

الإيجابية الحقيقية في هذه المرحلة لا تأتي من العزلة، بل من الانخراط الهادئ والواعي في الحياة. من يحتضن وعيه دون أن يُقصي العالم، يُصبح بذاته نقطة نور، يتغير به محيطه دون أن يسعى لتغييره. فكلما أحبّ الإنسان الطبيعة، وانجذب إلى الجمال، وتحرّر من ثقل التوقعات، أصبح أكثر حكمة وبصيرة.

يُخطئ من يظن أن الوعي معناه الكمال، بل هو، كما قال المفكر ديفيد هاوكينز: “رحلة مستمرة في إزالة ما هو غير حقيقي.” فالوعي لا يعلو إلا إذا صار الإنسان أكثر إنسانية، لا أكثر انعزالاً.

ولذلك، من المهم أن يعي من يعيش هذه المرحلة أن لا يسقط في بئر الانفصال. أن يبقى منفتحًا على الثقافات، متقبلاً للآخر، صادقًا مع مشاعره، ومحبًا للعطاء بلا شروط. فارتفاع الوعي لا يجب أن يُترجم على أنه نفي للحياة، بل فهم أعمق لها. أن تزرع زهرة في حديقة مهجورة، أن تصغي لصوت طفل، أو تعين شخصًا دون أن يعرف، كل هذا من علامات وعيك، أكثر من صمتك أو بعدك.

باختصار، الوعي ليس سكونًا ميتًا، بل حركة داخلية تفيض بالحياة. هو طمأنينة هادئة، لا تخلو من ألم النضج، لكنه ألم يُنبت زهر الحكمة. وكلما زاد وعيك، زادت مسؤوليتك في أن تُبقي جذورك في الأرض، وإن علت أغصانك إلى السماء.

وإذا كان لا بد من خلاصة، فهي أن الإنسان الواعي لا يبحث عن نجاته الخاصة، بل يُصبح هو نفسه جسراً خفياً لعبور الآخرين نحو وعيهم. إنه يعرف أن السلام لا يُهدى، بل يُبثّ، وأن الحكمة لا تُصرخ، بل تُعاش. فلا حاجة للشرح، ولا للدفاع، ولا حتى للإقناع. إن النور الحقيقي لا يُجادل، بل فقط يُضيء.

كما قال لاو تسي: “من يعرف لا يتكلم، ومن يتكلم لا يعرف. أَغلق فمك، أَغلق بوابات الإدراك، وأَصغِ بقلبك. فالحقيقة تنمو في الصمت.”

لكن هذا الصمت لا يعني الابتعاد، بل يعني الإنصات للكون والعمل بصمت، مثل الأشجار التي لا تصرخ حين تزهر، لكنها تغيّر الهواء من حولها.

إنها دعوة لكل من بدأ رحلته في طريق الوعي ألا يخاف من التغيير، وألا يظن أن العزلة هي الثمن. فالحياة لا تطلب منك أن تنسحب، بل أن تُضيء حيثما وُضعت. ولعل أولى علامات الوعي العالي، ليست قدرتك على التأمل، بل شجاعتك على أن تحب رغم الألم، وأن تبقى رغم كل ما يدعوك للرحيل.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة لل ...
- من يطفئ العالم… ويشعل أرباحه؟ الكارثة كأداة تحكم، والخداع كا ...
- السلوك جوهر الدين: قصة النفاق الديني عبر الثقافات
- أنا في المقصورة الأخيرة: بين حرية الأبناء وألم تراجع مكانة ا ...
- العقول التي تُحدث الفرق: في فلسفة التأثير وأوهام الاستغناء
- فن الإدارة الصعبة: حين يصبح الإبداع سيفًا، والكرامة المهنية ...
- التنين يمد جناحيه: حين تتجاوز الصين ميزان القوى
- ترامب والكوكلس كلان الجديد: بين فاشية القرن الحادي والعشرين ...
- من هو المسيح الدجال؟ تأملات في زمن الذكاء المصطنع والضمير ال ...
- البروباغاندا: تغييب الوعي وصناعة مجتمعات القطيع
- الصليب في البيت الأبيض: حين تتسلّل الأيديولوجيا الدينية إلى ...
- العقل قبل الجينات
- دونالد ترامب وظلّ القناع الأبيض: هل يقود أمريكا إلى لحظة غور ...
- احتلال فرنسا للجزائر: الأسباب، التوابع، والرفض المستمر للاعت ...
- مهرجان من أمنيات مؤجلة
- العائلات الثرية وفرضية “المليار الذهبي”: رؤية تحليلية شاملة
- تداعيات الرسوم الجمركية على الاقتصاد الأمريكي
- سلوك العمل الجماعي: بين الإبداع والاندفاع
- “برامج رامز: عبثية المحتوى وهدر المال.. متى ينتهي هذا الإسفا ...
- جماعة “الجمجمة والعظام” والرقم 322: سر النخبة الخفية


المزيد.....




- مصدر: مبعوث ترامب يزور عُمان الأحد لجولة مفاوضات رابعة مع إي ...
- -كتائب القسام- تبث مشاهد من كمين مركب استهدف القوات الإسرائي ...
- إسرائيل تتوعد بـ-الرد بقوة- على إطلاق الحوثيين صاروخا باليست ...
- خبير أمريكي: كان من المفروض مشاركة قوة أمريكية في عرض النصر ...
- الجيش الإسرائيلي يغتال قائد كتيبة جنين نور البيطاوي ومرافقه ...
- الرئاسة المصرية تكشف تفاصيل مباحثات السيسي وبوتين في موسكو
- بذكرى النصر على النازية.. البطولات تتحدث
- بوتين يشكر السيسي بالعربية
- شاهد.. مسيرة أوكرانية تهاجم مبنى حكومة مقاطعة بيلغورود
- كيف استفاد العرب من النصر على النازية؟


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال