أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - أوزجان يشار - القيادة بين التحذير والتجاهل: دروسٌ من الكارثة














المزيد.....

القيادة بين التحذير والتجاهل: دروسٌ من الكارثة


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 14:13
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


في لحظة فارقة من التاريخ، انفجر مكوك الفضاء الأمريكي “تشالنجر” في السماء بعد 73 ثانية فقط من إطلاقه، صباح الثامن والعشرين من يناير عام 1986، على مرأى من العالم كله، منهياً حياة سبعة من خيرة روّاد الفضاء. لكن ما انفجر لم يكن فقط المكوك، بل أيضًا أحد أكبر أوهام القيادة المؤسسية: وهم السيطرة دون استماع، والقرار دون إنصات، والتخطيط دون واقعية ميدانية.

لقد سبق الكارثة تحذير واضح ومكتوب من أحد المهندسين الرئيسيين في المشروع، “روجر بواجلوي” من شركة “مورتون ثيوكول”، الذي نبّه إدارة “ناسا” إلى أن درجة الحرارة المنخفضة في صباح يوم الإطلاق قد تؤثر على الحلقات المطاطية (O-rings) في معززات الوقود الصلب، مما قد يؤدي إلى فشل كارثي. قالها حرفيًا: “قد نخسر الأرواح.” لكن صوته خُنق، وتحذيره أُهمل تحت ضغط الجداول الزمنية والطموحات السياسية. والنتيجة؟ كارثة بشرية وتاريخية لا تزال تُدرّس حتى اليوم، لا باعتبارها فشلًا تقنيًا، بل فشلًا قياديًا بامتياز.

هذه الحادثة لم تكن مجرد فصل مأساوي في سجل رحلات الفضاء، بل مرآة لما يحدث في كثير من المؤسسات حول العالم. فالتحذيرات غالبًا ما تأتي من الميدان، من الفنيين الذين يتعاملون مع التفاصيل، من أولئك الذين يرون التشققات قبل أن تنهار الجدران. لكن الأصوات القادمة من الخطوط الأمامية كثيرًا ما تُقابَل بالتقليل، أو التجاهل، أو التأجيل. لأن من يجلسون في المكاتب المغلقة يرون العالم عبر الجداول والتقارير، لا عبر العيون التي تواجه الواقع كل يوم.

في بيئات العمل، كثيرًا ما نجد من يُحذّر من استنزاف الموارد، أو من الإرهاق الجماعي، أو من النزيف الصامت في الكفاءات. هناك من يصرخ بأن “السفينة تتسرب”، لكن صوته يُردّ عليه بعباراتٍ جاهزة من قبيل: “هكذا سار العمل دائمًا”، أو “غيرنا أسوأ حالًا”، أو “اصبروا… وسننجو”. إلا أن هذا النوع من التجاهل لا يُنتج الصمود، بل يُراكم الخلل، ويُعمّق الفجوة بين الخطط الورقية وما يجري على الأرض.

القيادة الحقيقية لا تقوم على التشدّق بالشعارات، ولا على تقليص النفقات على حساب الروح البشرية، بل على الإنصات الصادق، والتكيّف المسؤول، والشجاعة في اتخاذ قرارات قد تكون غير شعبية، لكنها منقذة. إنها القدرة على الإصغاء لمن يملك المعرفة لا المنصب، وعلى احترام من يلمس العطب قبل أن يراه الجميع متأخرين.

من بين دروس القيادة الحديثة التي يمكن استخلاصها من مثل هذه الكوارث، يتصدرها ضرورة الإصغاء للخبراء وأصحاب التخصص، خاصة أولئك الذين يتعاملون يوميًا مع التحديات الفنية والميدانية، فهم الأقرب إلى الخطر، والأصدق في تشخيصه. كما أن تجاهل التحذيرات، أو تأجيلها، لا يدرأ الخطر بل يؤجله، إلى لحظة يكون فيها الثمن أكبر من أن يُحتمل.

القيادة الناجحة هي التي تحقّق توازنًا حقيقيًا بين الأهداف والوسائل، بين الطموحات الواقعية ومتطلبات السلامة. الضغط من أجل إنجاز ما، أو تحقيق مكسب سريع، لا يجب أن يكون على حساب الجودة أو الأرواح أو الضمير المهني. بل إنّ جوهر القيادة في قدرتها على تمييز الإيقاع الصحيح للمؤسسة دون الانقياد لضجيج الخارج.

ومن أسس القيادة المتقدمة كذلك، ترسيخ ثقافة إنصات لا شكلية، ثقافة تحترم الصوت الميداني كما تحترم الرؤية العليا. يجب أن يكون الباب مفتوحًا دائمًا أمام الرأي والنصيحة، لا أن يظل مُغلقًا بأقفال الهيبة أو البيروقراطية. القادة الجديرون لا يخشون التراجع حين يُكتشف الخطأ، ولا يُكابرون حين يُوجَّه إليهم النصح، بل يرون في كل تحذير فرصة للإصلاح، وفي كل ملاحظة مدخلًا للتطوير.

وشجاعة الاعتراف بالعيوب الصغيرة قبل أن تتحوّل إلى كوارث كبيرة، هي علامة نضج لا ضعف. فالحكيم من يعالج الخلل حين يُرى بالإبرة، لا حين يتحول إلى نزيف لا يُوقف.

من الأمثلة الحديثة أيضًا، ما حدث أثناء انهيار بعض المشاريع الهندسية الكبرى، أو فشل الشركات الناشئة، حين تجاهلت إداراتها تحذيرات مبكرة من موظفيها بشأن سوء التقدير أو ضعف الجاهزية، فقط لأن “الأرقام تبدو جيدة” أو لأن “المستثمرين لا يملكون صبرًا”. وهكذا، انتصر الوهم على الواقع، وسقطت الكيانات تحت عبء المكابرة.

وفي المستشفيات، كم من ممرضة لفتت النظر إلى صرف دواء خاطئ، أو إلى تغيّر طارئ في حالة مريض، لكن لم يُؤخذ كلامها على محمل الجد، فقط لأنها لا تحمل لقب “دكتورة”؟ وكم من موظف في شركة اكتشف ثغرة في نظام إلكتروني، لكن لم يُصغ إليه أحد حتى وقع الاختراق بالفعل؟

إن الحقيقة واضحة: التحذيرات الصادقة لا تأتي غالبًا من الأعلى، بل من أولئك الذين تلامس أيديهم التفاصيل، وتدرك أعينهم الكارثة وهي تتهيأ. هؤلاء لا يملكون سلطة القرار، لكنهم يحملون بوصلة النجاة.

إن أكبر ما يُهدد الكيانات ليس الأعطال ولا الأزمات، بل ثقافة الصمت، وتراكم التجاهل، وادعاء السلامة وسط أصوات التحذير. فالتحذير المهني الصادق ليس تمردًا، بل هو ضمير المؤسسة حين ينطق. والقيادة التي تُصمّ أذنيها عن ذلك، لا تستحق أن تمسك الدفّة. فالسفينة التي تُخرس من يرى الثقب، ستغرق بالجميع… حتى القبطان.

حين تُمنع الأصوات من التحذير، وتصمّ القيادة أذنيها عن الفهم،
لا يبقى للنجاة معنى،
وتغرق السفينة بالطاقم والقبطان معًا.



المراجع:
• Space Shuttle Challenger disaster – NASA Archives
• Roger Boisjoly and the Challenger Disaster – The Novum Journal
• NASA Was Warned – All That’s Interesting
• “Voices Ignored” – Harvard Business Review, 2012



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصر وتاريخ الهويات: من يوسف وموسى إلى رمسيس وأحمس، ومن النوب ...
- من السيارة إلى الإنسان: شرائح ذكية تحرس الحياة وتعيد تعريف ا ...
- كيف تتغلب على المتلاعبين؟ قراءة تأملية في كتاب جاستن تايلور
- في حضرة مهاويرا: رحلة إلى الجينية، الديانة التي تمشي حافية ف ...
- ومضات من حياة هنري ميلر
- قبّعات التفكير الستّ: حين يصبح العقل غرفةً ذات نوافذ ملوّنة
- الديانة الإبراهيمية: بين الخديعة الرمزية ومخطط تجميل إسرائيل ...
- قراءة جادة في مسار الإنقاذ الإداري
- من نحن… ومن يمكن أن نكون؟
- قيادة السيارة إنعكاس للشخصية: بين السلوك المتحضر والمتهور
- حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال
- المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة لل ...
- من يطفئ العالم… ويشعل أرباحه؟ الكارثة كأداة تحكم، والخداع كا ...
- السلوك جوهر الدين: قصة النفاق الديني عبر الثقافات
- أنا في المقصورة الأخيرة: بين حرية الأبناء وألم تراجع مكانة ا ...
- العقول التي تُحدث الفرق: في فلسفة التأثير وأوهام الاستغناء
- فن الإدارة الصعبة: حين يصبح الإبداع سيفًا، والكرامة المهنية ...
- التنين يمد جناحيه: حين تتجاوز الصين ميزان القوى
- ترامب والكوكلس كلان الجديد: بين فاشية القرن الحادي والعشرين ...
- من هو المسيح الدجال؟ تأملات في زمن الذكاء المصطنع والضمير ال ...


المزيد.....




- هاتف الشباب وحش الفئة الاقتصادية بديل الأيفون مواصفات وسعر ه ...
- السعودية.. إنقاذ حاج إيراني من الموت بالتدخل خلال -الساعة ال ...
- وزير الاقتصاد والصناعة: تريليون دولار لبناء سوريا الجديدة
- البنك المركزي: نظام التوزيع النقدي للدولار في العراق الأمثل ...
- -طاقة اصدامها تفوق مليون مرة قنبلة هيروشيما-.. كويكبات قاتل ...
- ألمانيا ستساعد أوكرانيا في إنتاج صواريخ -بعيدة المدى- .. ومو ...
- رئيس نيجيريا يطلب قرضا يفوق 21 مليار دولار لدعم النمو الاقتص ...
- الاتحاد الأوروبي يرفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا
- ميناء طرطوس السوري يستقبل أول سفينة قمح منذ سقوط الأسد
- أسباب تباطؤ النمو السكاني بتونس وتداعياته الاقتصادية والاجتم ...


المزيد.....

- دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر / إلهامي الميرغني
- الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل / دجاسم الفارس
- الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل / د. جاسم الفارس
- الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل / دجاسم الفارس
- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - أوزجان يشار - القيادة بين التحذير والتجاهل: دروسٌ من الكارثة