أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - مصر وتاريخ الهويات: من يوسف وموسى إلى رمسيس وأحمس، ومن النوبة إلى الهكسوس















المزيد.....


مصر وتاريخ الهويات: من يوسف وموسى إلى رمسيس وأحمس، ومن النوبة إلى الهكسوس


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8352 - 2025 / 5 / 24 - 20:55
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مصر هوية لا تُختزل

لم تكن مصر يومًا بلدًا أحادي العرق، ولا وطنًا تتوارثه سلالة واحدة. فمنذ عصور ما قبل التاريخ، تعاقبت على أرضها أجناس وأمم وسلالات، فتركت كلٌ منها أثرًا في الجغرافيا والثقافة والدين. ورغم أن البعض اليوم يفاخرون بلقب “أحفاد الفراعنة”، فإن الحقيقة الجينية والتاريخية تؤكد أن المصريين المعاصرين لا ينتمون إلى أي سلالة ملكية محددة، بل هم نتاج خليط عرقي هائل ومميز وفريد، صاغته الغزوات، والهجرات، والثقافات مما جعل المصريين اكثر شعوب العالم تحملا وأكثرهم استعداداً لتحمل التحديات والصعوبات برحابة صدر.
المرحلة الأولى: الجذور الأولى للأسر المصرية القديمة وتكوين السلطة

في مطلع الألفية الرابعة قبل الميلاد، بدأت ملامح الدولة المصرية تتبلور من خلال تجمعات قبلية وزراعية حول ضفاف النيل. لم تكن مصر آنذاك وحدة سياسية، بل فسيفساء من الممالك المحلية، إلى أن جاء الملك نارمر (مينا)، ونجح في توحيد مصر العليا والسفلى حوالي عام 3200 ق.م، مؤسسًا بذلك الأسرة الأولى، التي شكلت نواة الحضارة الفرعونية الكلاسيكية.

تشير الدراسات الجينية والأثرية إلى أن هذه الأسر الأولى كانت تنتمي إلى أصول نوبية-أفريقية جنوبية، خاصة في ما يتعلق بمظهرهم، واللغة، والنقوش، والعقائد المرتبطة بالإلهة “نيت” والإله “ست”. وقد أثبتت تحاليل الحمض النووي على مومياوات بعض ملوك الأسرة الأولى والثانية أن هناك تطابقًا جينيًا جزئيًا مع سكان السودان الجنوبي والحبشة أكثر مما هو موجود مع سكان الدلتا الحاليين.

لم تكن كلمة “فرعون” قد ظهرت بعد، بل كان الحاكم يُلقب بـ”نسو” أو “حور”، وكل رمز يعكس ارتباطه الإلهي بالأرض أو بالسماء، لا بسلطة مطلقة أو ترهيب، كما سيحدث لاحقًا.



المرحلة الثانية: دخول يوسف إلى مصر وتكوين الجالية العبرانية

تبدأ الروايات التوراتية والقرآنية مع قصة يوسف عليه السلام، الذي دخل مصر بصفته عبدًا، ثم رُفّع إلى مرتبة “عزيز مصر” (وزير الخزانة) بعد تفسيره لحلم الملك. وبحسب النصوص المقدسة، دعا يوسفُ أهله من كنعان (يعقوب وأخوته وأسرهم) إلى الإقامة في مصر، واستُقر بهم في منطقة “جوشن” بشرق الدلتا، وهي أرض زراعية خصبة، قريبة من نقاط التجارة.

لكن من المهم الوقوف عند سؤال محوري: في أي عصر أو تحت أي أسرة حكم يوسف؟

لا توجد نصوص مصرية رسمية تُثبت وجود يوسف، لكن بعض الباحثين التاريخيين والدينيين يفترضون أن وجوده كان في نهاية عصر الدولة الوسطى أو في المرحلة الانتقالية الثانية، أي ما بين 1800 و1600 ق.م، وهي الفترة التي بدأت فيها مصر تفقد السيطرة المركزية، قبل أن يدخل الهكسوس البلاد.

وجود يوسف في تلك الفترة يبدو منطقيًا من زاويتين:
1. انهيار السلطة المركزية يُتيح ظهور أجانب في مناصب مهمة.
2. الدعوة التي وجّهها يوسف لأسرته للاستقرار في مصر تشير إلى فترة من الانفتاح الاقتصادي والديموغرافي.

هكذا بدأت الجالية العبرانية في مصر ليس كغزاة أو لاجئين، بل كضيوف شرف على أحد أبنائهم الذي بلغ مناصب الدولة العليا.



المرحلة الثالثة: من الضيافة إلى العبودية وخروج بني إسرائيل من مصر

بعد استقرار يعقوب وأبنائه في مصر، وتكاثر نسلهم عبر الأجيال، بدأت الجالية العبرانية تشكل كتلة سكانية لها هويتها الخاصة، مستقرة في شرق الدلتا. وتشير التقديرات إلى أن بني إسرائيل عاشوا في مصر نحو 300 إلى 400 سنة، وهي فترة امتزج فيها الموروث الكنعاني بالثقافة المصرية، دون أن يندمجوا تمامًا في الهوية الفرعونية.

ولكن، كما في كل تحولات التاريخ السياسي، تغيرت الظروف. فقد قامت أسرة جديدة لا تعرف يوسف، بحسب سفر الخروج، ويُقصد بها هنا صعود حكم الهكسوس أو بعد طردهم مباشرة، فبدأت السلطة تنظر إلى هؤلاء الغرباء (بني إسرائيل) كمصدر تهديد ديموغرافي وأمني، خاصةً بعد أن أصبحوا “أكثر عددًا وقوة”، وفق رواية التوراة.

هنا بدأت مرحلة العبودية، حيث سُخّر بنو إسرائيل للعمل في البناء، وتشييد المخازن والمدن والمعابد. وهناك إشارات متكررة إلى أنهم شاركوا في بناء مدن مثل رعمسيس وبيثوم، وهي مدن بنيت أو أعيد بناؤها في عهد رمسيس الثاني (1279–1213 ق.م)، ما يدفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن رمسيس هو “فرعون التسخير”، بينما يُرجّح أن يكون ابنه مرنبتاح هو “فرعون الخروج”.

لكن المؤكد أن بني إسرائيل تحولوا من جالية مقبولة إلى شعب مُستعبد، وأن خروجهم لاحقًا لم يكن هروبًا عشوائيًا، بل حدثًا منظّمًا بقيادة نبيهم موسى عليه السلام، الذي وُلد وتربى في بيت الفرعون ثم تمرّد على السلطة بعد أن كُلّف بالرسالة.

تشير أغلب الدراسات الدينية والتاريخية إلى أن الخروج حدث ما بين 1250 و1200 ق.م. وقد أثار هذا الحدث ذعر المؤسسة الفرعونية، لا بسبب العدد فقط، بل بسبب ما حمله من رسائل دينية وسياسية تمس جوهر شرعية الحكم ذاته.



المرحلة الرابعة: الهكسوس — صعود الغرباء وتحول “فرعون” إلى لقب سياسي

عقب مرحلة ضعف الدولة الوسطى، دخلت مصر في فوضى سياسية استغلها شعب أجنبي يُعرف باسم الهكسوس، وهم غالبًا من شعوب سامية جاءت من مناطق غرب آسيا (ربما من كنعان، أو سوريا، أو حتى أطراف الأناضول والعراق). دخل الهكسوس إلى دلتا النيل حوالي عام 1650 ق.م، واستقروا بها، وأسسوا الأسرة الخامسة عشر، التي حكمت مصر لنحو قرنٍ من الزمان.

الهكسوس لم يكن لديهم طموح حضاري شامل، لكنهم أدخلوا تقنيات عسكرية متقدمة كالعجلات الحربية، وفرضوا أنفسهم كحكام على مناطق مهمة من البلاد، بينما بقيت بعض مناطق الجنوب تحت حكم ملوك طيبة المحليين، الذين رفضوا سلطتهم.

من أبرز آثار الهكسوس في مصر:
1. إدخال مصطلح “فرعون” كلقب سياسي للملك، بدلًا من الألقاب التقليدية كـ”نسو” أو “سا رع”.
2. تعزيز الطابع العسكري للمُلك، وجعل الحكم يرتبط بالقوة الميدانية لا بالنسب المقدس فقط.
3. التعايش المؤقت مع بعض الكتل السكانية السامية الأخرى، كالعبرانيين والكنعانيين.

لكن بعد أن استعاد ملوك الجنوب (خاصة الملك سقنن رع وابنه كامس) زخمهم العسكري، جاء الملك أحمس الأول حوالي عام 1550 ق.م، فقاد حملة حاسمة لطرد الهكسوس من الدلتا إلى خارج مصر، مؤسسًا بذلك الدولة الحديثة والأسرة 18.

اللافت أن كثيرًا من التحولات السياسية في مصر بعد الهكسوس اتجهت إلى تعميق مركزية الحكم، وشيطنة كل ما هو أجنبي، وهو ما قد يُفسّر التحول في النظرة إلى بني إسرائيل لاحقًا، خاصة بعد ربطهم في الوعي السياسي بأنهم “ساميون غرباء” مثل الهكسوس.

المرحلة الخامسة: من الدولة الحديثة إلى السقوط البطلمي — الطريق إلى كليوباترا

بعد طرد الهكسوس، بدأت مصر إحدى أكثر مراحلها قوة وازدهارًا في عهد الدولة الحديثة (1550–1077 ق.م)، وخاصة في ظل الأسرتين 18 و19. كانت هذه الفترة ذروة الحكم المصري داخليًا وخارجيًا، حيث توسعت مصر حتى الفرات جنوبًا وإلى النوبة شمالًا، وتألقت أسماء مثل:
• تحتمس الثالث: القائد العسكري الفاتح.
• أخناتون: صاحب ثورة التوحيد الديني لعبادة “آتون”.
• نفرتيتي: الملكة القوية التي خلدها الفن والمعمار.
• توت عنخ آمون: الذي أعاد الدين القديم ومثّل رمزًا للطفولة الملكية الغامضة.
• رمسيس الثاني: الأشهر من بين فراعنة مصر، وقد يكون فرعون موسى، وفق بعض القراءات.

لكن بعد الأسرة 20، بدأت مصر تفقد توازنها تدريجيًا، وبدأت موجات من الاحتلال الأجنبي تتوالى:
• الليبيون (الأسرة 22).
• الكوشيون/النوبة (الأسرة 25).
• الفرس (الأسرتان 27 و31)، الذين اعتبروا مصر ولاية تابعة لهم.

ثم جاء الفتح المقدوني بقيادة الإسكندر الأكبر عام 332 ق.م، وانتهى الحكم الفارسي في مصر بلا مقاومة تذكر.



المرحلة السادسة: كليوباترا — آخر الملوك المصريين وبداية السيطرة الرومانية

بعد وفاة الإسكندر، قُسمت إمبراطوريته بين قادته، وآلت مصر إلى أحدهم، وهو بطليموس الأول، الذي أسّس السلالة البطلمية (323–30 ق.م). استمرت هذه السلالة في الحكم لثلاثة قرون، وكانت دولة يونانية الهوى، مصرية الأرض والشعب. لم يتحدث البطالمة اللغة المصرية، بل أبقوا مسافة بينهم وبين الشعب، واعتمدوا على النخب المتأغربة.

لكن مع نهاية السلالة، ظهرت كليوباترا السابعة (69–30 ق.م)، التي تميّزت عن أسلافها بأنها تعلمت اللغة المصرية القديمة، وخاطبت الشعب كمصرية. تميزت بدهائها السياسي، وحاولت عبر تحالفاتها مع يوليوس قيصر ثم مارك أنطونيوس أن تحمي استقلال مصر من أطماع روما.

لكن مواجهتها مع أوكتافيوس (أغسطس لاحقًا) انتهت بكارثة في معركة أكتيوم البحرية عام 31 ق.م. وبعد انتحار أنطونيوس ثم كليوباترا عام 30 ق.م، دخلت مصر طورًا جديدًا:
• لم تعد مصر مملكة مستقلة.
• أصبحت ولاية رومانية تمامًا تحت إمرة أوكتافيوس.
• انتهت آخر سلالة حاكمة لمصر منذ آلاف السنين.

وهكذا سقطت مصر من الحكم الذاتي إلى التبعية الكاملة، وبدأت فترة طويلة من السيطرة الرومانية ثم البيزنطية، استمرت حتى الفتح الإسلامي.

المرحلة السابعة: العصر الروماني والبيزنطي — من القهر الديني إلى بزوغ المسيحية القبطية

بعد انتحار كليوباترا السابعة في عام 30 ق.م، أصبحت مصر مستعمرة رومانية مباشرة، لا تخضع لمجلس الشيوخ في روما بل لحاكم خاص يعينه الإمبراطور، نظرًا لأهميتها الزراعية والاقتصادية (خاصةً كونها سلة قمح الإمبراطورية). بدأ الحكم مع أوكتافيوس (أغسطس)، الذي أعلن نفسه إمبراطورًا، لتدخل مصر في مرحلة من القهر الإداري والديني.

1. قمع الهوية الدينية والثقافية
• أُغلقت كثير من المعابد الفرعونية تدريجيًا، وتم تهميش الكهنة المصريين.
• فُرضت اللغة اللاتينية، وأعيد تنظيم المدن لتُدار بروح رومانية.
• لم يُسمح للمصريين بولوج المناصب العليا في الإدارة إلا نادرًا، وكانت طبقة الحكام من النخب الرومانية أو اليونانية.

2. بدايات المسيحية وانتشارها

في القرن الأول الميلادي، وصل القديس مرقس إلى الإسكندرية، وبدأ التبشير بالمسيحية في مجتمع متعدد الآلهة، مُثقل بالمظالم الاجتماعية. ومع الوقت، أصبحت المسيحية الملاذ الروحي والسياسي للفقراء والعبيد والمهمشين، وانتشرت بسرعة في الصعيد والدلتا، مشكلةً نواة الكنيسة القبطية.

لكن هذا الانتشار لم يكن بلا ثمن. فقد شهدت مصر واحدة من أعنف موجات الاضطهاد الروماني للمسيحيين، خاصة في عهد الإمبراطور دقلديانوس (284–305 م)، الذي حوّل النيل إلى نهر دماء، وأحرق الكنائس وقتل آلاف الأقباط. ولهذا السبب، يُؤرخ الأقباط تقويمهم القبطي من عام 284 م، ويُعرف بـ”تقويم الشهداء”.

3. الإمبراطورية البيزنطية: القهر باسم الدين

بعد تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية عام 395 م، أصبحت مصر تابعة لـ الإمبراطورية البيزنطية التي حكمت من القسطنطينية. كان الحكام البيزنطيون أشد قسوة في فرض العقيدة الأرثوذكسية الرسمية، ورفضوا الاعتراف بعقيدة “طبيعة واحدة للمسيح” التي تبناها الأقباط المصريون في مجمع خلقيدونية (451 م).

بدأ الصراع بين الأقباط والسلطة البيزنطية يأخذ طابعًا دينيًا-سياسيًا، ووصل الأمر إلى أن كثيرًا من الأقباط رأوا في الفتح العربي القادم خلاصًا من الاضطهاد، لا غزوًا جديدًا.

المرحلة الثامنة: الفتح العربي الإسلامي — الدخول بلا هدم ولا محو

في عام 641م، دخل القائد عمرو بن العاص مصر بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، بعد معارك محدودة مع القوات البيزنطية، التي كانت تعاني من تراجع واسع في الشرق. كان دخول العرب إلى مصر ليس بصفته غزوًا استيطانيًا أو دينيًا قهريًا، بل تحريرًا من القهر البيزنطي، كما رآه كثير من الأقباط المضطهدين آنذاك.

1. لم تُهدم كنيسة واحدة

بعكس ما يُروّج له البعض اليوم، فإن:
• جميع الكنائس الكبرى في مصر وُجدت قبل الإسلام وما زالت قائمة حتى اليوم: كـ “الكنيسة المعلقة”، و”أبو سرجة”، و”دير سانت كاترين”، وغيرها.
• لم يُحوّل أي دير إلى مسجد، ولم تُجبَر الطوائف المسيحية على تغيير عقيدتها.
• أبقى المسلمون البابا القبطي في موقعه، وعقدوا اتفاقًا رسميًا مع البابا بنيامين الأول يضمن الحماية والاحترام والحرية الدينية.

2. لم تُهدم التماثيل أو تُمحى الآثار

من الأساطير التي يرددها بعض المستشرقين أن المسلمين “حطموا تماثيل الفراعنة”، ولكن الوقائع تقول:
• الهرم الأكبر، أبو الهول، الكرنك، والأقصر، ومعابد حتشبسوت ورمسيس… كلها بَقِيَت على حالها عبر العصور الإسلامية.
• لم تكن العقيدة الإسلامية ترى في هذه الآثار تهديدًا دينيًا، بل تُركت لأنها ليست أصنامًا تُعبد، بل رموزًا من الماضي.
• تدمير بعض الآثار حصل لاحقًا في عصور متأخرة على يد جماعات متطرفة لا تمثل جوهر الإسلام الحضاري ولا سياسته التاريخية.

3. تأسيس الهوية الجديدة دون محو القديمة

العرب لم يسعوا إلى محو التاريخ المصري، بل:
• احترموا اللغة القبطية، واستُخدمت في بعض الإدارات لفترة طويلة.
• تركوا للأقباط إدارة شؤونهم الداخلية والكنسية.
• لم يغيروا أسماء المدن أو الجغرافيا، بل اعتمدوا عليها كما كانت.

بل إن الجامع الأزهر نفسه، أحد أهم معالم مصر الإسلامية، بُني في موقع لم تكن فيه كنيسة أو دير، بل في حي جديد أقيم بعد تأسيس مدينة القاهرة في العصر الفاطمي.

المرحلة التاسعة: من الفاطميين إلى العثمانيين — بين التسامح والاستثناءات

بعد استقرار الحكم الإسلامي في مصر، بدأت مراحل سياسية جديدة، تباينت فيها مستويات التسامح والتعايش بحسب الظروف السياسية، لكنها لم تصل أبدًا إلى نمط الإقصاء أو الإبادة كما حدث في تجارب تاريخية أخرى.



1. الدولة الفاطمية (969–1171م): عاصمة جديدة وتنوع ديني

دخل الفاطميون إلى مصر كحركة إسماعيلية شيعية، قادمين من شمال إفريقيا، وأسسوا مدينة القاهرة كعاصمة جديدة، وبنوا الجامع الأزهر كمنارة لنشر المذهب.

لكن المدهش أن الدولة الفاطمية، رغم طابعها المذهبي، لم تسع إلى قمع الطوائف الأخرى:
• أبقت على الكنائس القبطية، وسمحت للأقباط بمزاولة أعمالهم في الدواوين.
• استمر في عهدهم بناء الكنائس وتجديد الأديرة.
• ازدهرت الفنون والعمارة، وتعايش المسيحيون واليهود والمسلمون في الأسواق والمدارس.

ورغم بعض التوترات في عهد الحاكم بأمر الله، إلا أن هذا كان استثناءً لا قاعدة.



2. الدولة الأيوبية (1171–1250م): استعادة سنية وحماية للأقباط

تولى صلاح الدين الأيوبي الحكم بعد إسقاط الدولة الفاطمية، وأعاد المذهب السني إلى صدارة الدولة. ورغم صراعه مع الصليبيين، إلا أن:
• الأقباط لم يُعاملوا كأعداء داخليين.
• حمى الكنائس، بل واستعان ببعض المسيحيين في إدارة شؤون الدولة.
• أسس نموذجًا يُحتذى به في التمييز بين الصراع العقائدي الخارجي والتعدد الديني الداخلي.



3. المماليك (1250–1517م): قوة عسكرية وتقلبات

في عصر المماليك، وهي دولة عسكرية بالأساس، كان التعامل مع غير المسلمين يعتمد كثيرًا على الوضع السياسي:
• استُخدم بعض الأقباط في الشؤون المالية، وكانت لديهم كفاءات واضحة.
• في فترات التوتر مع أوروبا (مثل أثناء الحملات الصليبية أو الغزوات المغولية)، وقعت بعض المضايقات أو الضغوط، لكنها لم تكن سياسة ممنهجة بل حالات متفرقة.
• بقيت الكنائس في عملها، والأديرة في نشاطها، والطقوس القبطية مستمرة.



4. العثمانيون (1517–1798م): مركزية إسطنبول ولا مركزية القاهرة

دخل العثمانيون مصر بعد هزيمة المماليك في معركة مرج دابق، لكنها كانت إدارة اسمية أكثر منها فعالة، خاصة في ظل القوة المستقلة للولاة والانكشارية.
• حافظ العثمانيون على الكنائس والأوقاف القبطية.
• سُمِح بترميم الأديرة والاحتفال بالأعياد.
• لم يُفرض على الأقباط تغيير دينهم أو عقيدتهم.

لكن مصر في هذه الفترة دخلت في طور الجمود السياسي والثقافي، بفعل عوامل داخلية وخارجية.

المرحلة العاشرة: الاستعمار الأوروبي — من الحملة الفرنسية إلى الهيمنة البريطانية وصعود الوطنية

دخلت مصر مرحلة مفصلية مع بداية التدخل الأوروبي المباشر، حيث انتقلنا من الحكم العثماني اللامركزي إلى احتلال عسكري وإداري يهدف لا إلى الإدارة فقط، بل إلى إعادة تشكيل هوية مصر الثقافية والسياسية.



1. الحملة الفرنسية (1798–1801م): بين المدافع والمطبعة

قاد نابليون بونابرت حملة عسكرية على مصر بحجة تأمين طرق التجارة، لكنه أراد قطع التواصل بين بريطانيا والهند، وكان يرى في مصر قاعدة استراتيجية حيوية.
• لم تُدم الحملة سوى ثلاث سنوات، لكنها تركت أثرًا ثقافيًا ومعرفيًا عميقًا:
• أسس الفرنسيون المجمع العلمي المصري، وأدخلوا المطبعة.
• قاموا بحملة مسح شامل على الآثار المصرية القديمة، مما مهّد لاحقًا لاكتشاف حجر رشيد وفك رموز الهيروغليفية على يد شامبليون.
• أعادوا تشكيل الخطاب الغربي تجاه مصر، لكن بمنظور استشراقي متعالٍ، حيث قدموها كأرض تحتاج إلى “تمدين”.

لكنهم أيضًا:
• تعاملوا بوحشية مع ثورات المصريين، خاصة في القاهرة.
• لم يحترموا الخصوصية الدينية للشعب، رغم خطابهم التنويري.



2. الاحتلال البريطاني (1882–1956م): التغريب والسيطرة على القرار

دخلت القوات البريطانية مصر بحجة تهدئة الثورة العرابية، لكنها بقيت لعقود تُحكم البلاد فعليًا من السفارة البريطانية، رغم بقاء الخديوية كواجهة شكلية.
• فرض البريطانيون نظامًا إداريًا واقتصاديًا يخدم مصالحهم:
• ركّزوا على الزراعة التصديرية (القطن).
• عطّلوا التصنيع الوطني.
• سيطروا على التعليم والإعلام لتغريب الثقافة.

لكن هذا الاستعمار أشعل جذوة المقاومة:
• ظهرت الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كامل، ثم سعد زغلول وثورة 1919، التي شارك فيها المسلمون والأقباط جنبًا إلى جنب.
• بدأت مصر تستعيد وعيها بهويتها، لا كهوية فرعونية أو دينية فقط، بل كمزيج حضاري مقاوم للتذويب.



خاتمة تمهيدية: من يوسف إلى كليوباترا، ومن موسى إلى الأزهر… من نحن؟

بعد كل هذه المراحل، لا يمكن الادعاء أن المصريين المعاصرين ينتمون إلى سلالة واحدة:
• فهم ليسوا فراعنة بالمعنى العرقي، لأن مصطلح “فرعون” نفسه دخل على يد الهكسوس القادمين من غرب آسيا.
• وهم ليسوا فقط عربًا، رغم أن اللغة والدين العربي الإسلامي شكّل هويتهم الحديثة.
• كما أنهم ليسوا فقط أقباطًا أو يونانيين أو رومًا، رغم ترسّب كل تلك الحضارات في تفاصيلهم اليومية.

إن المصريين اليوم هم خليط جيني وثقافي لا ينتمي لأي عرق خالص، بل يشبه نهر النيل الذي مرّت فيه مياه من كل جهات الأرض، لكنه ظل مصريًا.

المرحلة الحادية عشرة: المصريون اليوم — من النيل خرجنا، لا من عرقٍ واحد

بعد آلاف السنين من الحضارات المتعاقبة، من نارمر إلى كليوباترا، ومن يوسف إلى موسى، ومن عمرو بن العاص إلى اللورد كرومر، نشأ الإنسان المصري المعاصر كنتاج نادر لامتزاج شعوب وأديان وثقافات ولغات.

لكن رغم هذه الحقيقة الواسعة، يصرّ البعض على تبنّي ادعاءات عرقية ضيقة: فهناك من يدّعي أنه “فرعوني”، وآخر “قبطي خالص”، وآخر “عربي الأصل”، بينما الحقيقة العلمية تقول شيئًا آخر تمامًا.



1. الحقيقة الجينية: المصريون لا ينتمون لسلالة واحدة

في دراسة رائدة نُشرت عام 2017 في مجلة Nature، وأجراها علماء من جامعة توبنغن الألمانية ومعهد ماكس بلانك، تم فحص الحمض النووي لمومياوات تعود للأسر 18 و19 و20، وُجد أن:
• جينات هذه المومياوات أقرب إلى شعوب شرق المتوسط القديم (شام، أناضول، إيران).
• بينما المصريون المعاصرون أظهروا تنوعًا جينيًا واسعًا يشمل:
• شمال أفريقيا.
• شرق أفريقيا.
• جنوب أوروبا.
• الجزيرة العربية.

وهذا يثبت أن المصريين الحاليين هم شعب جديد تشكّل عبر القرون، لا يمثل وراثيًا أية سلالة ملكية قديمة.



2. تفنيد فكرة “نحن أحفاد الفراعنة”

مصطلح “فرعون” نفسه، كما أثبتنا في المراحل السابقة، دخل إلى مصر مع الهكسوس — وهم غرباء عن أرض مصر — وكان مجرد لقب إداري، لا اسم عِرقي. وكل الأسر اللاحقة، سواء كانت نوبية، ليبية، فارسية، بطلمية، أو رومانية، لم تكن “فرعونية” النسب، بل استخدمت اللقب السياسي فقط.

الانتماء الحضاري شيء، والانتماء الجيني شيء آخر.



3. مصر كهوية حضارية، لا كعرق

إن مصر، منذ فجرها الأول، كانت:
• أرض عبور واستقرار.
• ملتقى التجارة والديانات.
• مختبرًا بشريًا لتجريب كل أشكال السلطة والمقاومة.

وقد نجح المصريون المعاصرون في صهر هذه العناصر في هوية فريدة:
• فيها بقايا لغة قبطية في أسماء المدن.
• وفيها مفردات عربية إسلامية تشكّل اليوم عمقهم الثقافي.
• وفيها صور فرعونية، وعناصر مسيحية، وظلال عثمانية، وروح وطنية حديثة.



الخاتمة الكبرى: مصر التي لا تُختزل

لا يمكن اختزال مصر في “هوية فرعونية” كما يروّج البعض للتمايز، ولا في “عروبة” سياسية كما يطالب آخرون، ولا في “قِبطية” دينية أو استعمارية ثقافية.

مصر ليست كيانًا منغلقًا على نسب أو دم أو عقيدة واحدة، بل هي مشروع حضاري إنساني بدأ من النيل ولم ينتهِ… ولم ولن يُختصر في شعار أو سلالة.



المصادر:

• The Oxford History of Ancient Egypt, Ian Shaw
• The Rise and Fall of Ancient Egypt, Toby Wilkinson
• Nature, Volume 548, 2017 – Max Planck Institute
• العهد القديم – سفر التكوين والخروج
• القرآن الكريم – سورة يوسف وسورة طه
• المقريزي – الخطط والآثار
• الوثائق القبطية – تاريخ البطاركة
• دراسات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية
• أرشيف الحملة الفرنسية والمراسلات البريطانية



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من السيارة إلى الإنسان: شرائح ذكية تحرس الحياة وتعيد تعريف ا ...
- كيف تتغلب على المتلاعبين؟ قراءة تأملية في كتاب جاستن تايلور
- في حضرة مهاويرا: رحلة إلى الجينية، الديانة التي تمشي حافية ف ...
- ومضات من حياة هنري ميلر
- قبّعات التفكير الستّ: حين يصبح العقل غرفةً ذات نوافذ ملوّنة
- الديانة الإبراهيمية: بين الخديعة الرمزية ومخطط تجميل إسرائيل ...
- قراءة جادة في مسار الإنقاذ الإداري
- من نحن… ومن يمكن أن نكون؟
- قيادة السيارة إنعكاس للشخصية: بين السلوك المتحضر والمتهور
- حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال
- المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة لل ...
- من يطفئ العالم… ويشعل أرباحه؟ الكارثة كأداة تحكم، والخداع كا ...
- السلوك جوهر الدين: قصة النفاق الديني عبر الثقافات
- أنا في المقصورة الأخيرة: بين حرية الأبناء وألم تراجع مكانة ا ...
- العقول التي تُحدث الفرق: في فلسفة التأثير وأوهام الاستغناء
- فن الإدارة الصعبة: حين يصبح الإبداع سيفًا، والكرامة المهنية ...
- التنين يمد جناحيه: حين تتجاوز الصين ميزان القوى
- ترامب والكوكلس كلان الجديد: بين فاشية القرن الحادي والعشرين ...
- من هو المسيح الدجال؟ تأملات في زمن الذكاء المصطنع والضمير ال ...
- البروباغاندا: تغييب الوعي وصناعة مجتمعات القطيع


المزيد.....




- هلا، كلمة في افتتاح مركز -هلا- للصحة النفسيّة
- فتحوا الباب فبدأت المغامرة.. إليكم قصة الأحفاد والإمساك بطائ ...
- علي الرواحي: العالم العربي لم يدخل -حداثته الخاصة- بعد وترام ...
- مسؤول كبير في إدارة ترامب يلتقي الرئيس السوري بعد قرارات أمر ...
- المبعوث الأمريكي إلى سوريا يثني على الشرع لاتخاذه خطوات جادة ...
- السعودية تؤكد ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتأسيس دولة فل ...
- مصر.. حبس مسؤول وفني في كارثة حفل قصر البارون الأثري
- وزير الخارجية السعودي يصل إلى مدريد للمشاركة في الاجتماع الم ...
- إحالة المشتبه بطعنها أشخاصا في هامبورغ إلى مستشفى للأمراض ال ...
- قصة انتظار تنتهي بدموع الفرح ومقاضاة الحكومة.. طفلة خُطفت قب ...


المزيد.....

- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - مصر وتاريخ الهويات: من يوسف وموسى إلى رمسيس وأحمس، ومن النوبة إلى الهكسوس