أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - أوزجان يشار - في حضرة مهاويرا: رحلة إلى الجينية، الديانة التي تمشي حافية فوق ماء الحياة















المزيد.....

في حضرة مهاويرا: رحلة إلى الجينية، الديانة التي تمشي حافية فوق ماء الحياة


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 22:14
المحور: السياحة والرحلات
    


في فبراير من عام 2009، وبينما كنت أجوب أزقّة مدينة بومباي خلال رحلة روحية إلى الهند، استوقفتني قبة رخامية بيضاء ونقوش دقيقة تزين بوابة معبد صغير يخص أتباع ديانة لم أكن أعرف عنها سوى القليل. كان ذلك معبدًا للديانة الجينية، أحد أقدم المذاهب الدينية في شبه القارة الهندية، وأكثرها زهدًا وغرابة في آن.

تقدّمت نحوه بخطى مترددة، لأفاجأ بلافتة موضوعة عند المدخل، تحمل قائمة بالوصايا التي يجب على الزائر أو الزائرة الالتزام بها:
أولها، خلع الحذاء قبل الدخول، وثانيها، منع النساء في فترة الحيض من دخول المعبد. أما الثالثة، فهي عدم إعطاء الظهر للرموز المقدسة المنتشرة داخل القاعة، والأخيرة: عدم لمس أي تمثال إلا بعد أخذ صحن صغير من أحد الخدم، يحتوي على أوراق ورد مطحونة. كان الطقس كله يُؤدى برقة مهيبة، وكأنك لا تلمس الحجر، بل تمرّ عبره إلى فكرة أعمق عن الطهارة والنية.

عند دخول المعبد، شدني مشهد رجل واقف بثوب أبيض بسيط يشبه الإحرام الإسلامي، رافعًا يديه نحو أحد الرموز كما لو كان يتضرّع في المسجد الحرام. لم يركع، لم يسجد، فقط وقف في تأمل عميق وصمت غامر. شعرت في تلك اللحظة بأن الحدود بين العقائد أرقّ مما نعتقد، وأن الروح الإنسانية حين تتجرّد من تفاصيلها الظاهرة، تبدو متشابهة في شوقها إلى الطهر والسلام والخلاص.

لكن زيارة هذا المعبد لم تكن مجرد تجربة شخصية، بل كانت مدخلًا حيًا لاكتشاف ديانة كاملة، متجذّرة في عمق التاريخ الهندي.



الجينية: ثورة صامتة على الطبقات والآلهة

ظهرت الديانة الجينية في القرن السادس قبل الميلاد، مع الزعيم الروحي مهاويرا، الذي وُلد أميرًا في طبقة الكاشتر (طبقة الملوك والمحاربين)، ثم خلع ثيابه الفاخرة، وحلق شعره، وخرج هائمًا في البلاد عاريًا يبحث عن الخلاص الحقيقي، بعيدًا عن مظاهر السلطة والرغبة والطبقات.

كان مهاويرا الجيني الرابع والعشرين، وقد سبقه الثالث والعشرون بارسواناث، لكن مهاويرا هو من أرسى دعائم العقيدة الجينية في صورتها النهائية، بعد أن بلغ الأربعين من عمره، وكرّس حياته بالكامل للتقشف والتأمل.

أساس الجينية هو التحرر من دورة التناسخ المتكررة، حيث يُعتقد أن الروح أسيرة لمادة تُدعى الكارما، وهي عندهم كيان مادي يلتصق بالروح، ويحول دون نجاتها. والطريق الوحيد للتخلص من هذه الكارما هو من خلال أقسى درجات الزهد، والحرمان، وقهر الشهوات والعواطف.

ولهذا فإن الجينية ترفض عبادة الآلهة الهندوسية الكبرى (براهما، فشنو، وسيفا)، وترى أن الخلاص لا يأتي عبر كائن خارق، بل عبر انتصار الروح على جسدها، وعبر التخلّص من كل رغبة دنيوية.



فلسفة الطهارة والانفصال عن الحياة

يرى الجينيون أن النجاة تعني التحرر التام من الولادة والموت، والدخول في حالة خالدة من السكينة المطلقة. ولتحقيق هذا، لا بد من اتباع ثلاثة مسارات:
1. الإيمان الصحيح بالجينيين الأربعة والعشرين.
2. المعرفة الصحيحة بطبيعة الكون والروح والمادة.
3. السلوك الصحيح بالتخلي عن العنف، والعيش في طهارة وتقشف.

وتكمن أبرز طقوس الجينية في:
• تقديس كل كائن حي، مهما كان صغيرًا، حتى الهوام الدقيقة في الهواء. لذا يحمل الرهبان مكانس صغيرة يكنسون بها طريقهم خشية الدوس على حشرة، ويرتدون أقنعة على أفواههم كي لا يستنشقوا كائنًا حيًا دون قصد.
• رفض القتل تمامًا، فهم نباتيون لا يأكلون اللحوم ولا يشتغلون بالزراعة كي لا يؤذوا مخلوقات الأرض، ولا يشاركون في أي قتال.
• قهر العواطف: على الجيني أن يتحرر من مشاعر الحزن والفرح، الحب والكره، الحرارة والبرودة، حتى يصل إلى حالة من “الجمود الطاهر” الذي يسبق النجاة.
• العري التام: لدى فرقة “الديجامبرا”، ويمثل قمة التحرر من مفاهيم العيب والحياء، وهو نوع من قمع الأنا والشعور بالذات.
• الانتحار البطيء أو ما يُعرف بطقس الساليخان، حيث يمتنع الرهبان عن الطعام تدريجيًا حتى الموت، بوصفه ذروة الخلاص الروحي من الجسد الفاني.



الفرق الجينية الكبرى

بعد وفاة مهاويرا، انقسمت الجينية إلى فرقتين:
• الديجامبرا (العراء): وهم الرهبان المتقشفون الذين يعيشون بلا ملابس، رافضين كل مظاهر الحياة، ويعتبرون العري أسمى درجات الطهر.
• السويتامبرا (ذوو الزي الأبيض): وهم الأكثر اعتدالًا، يلبسون ملابس بيضاء، ويطبقون التعاليم الجينية ضمن حياة منظمة تحترم الطهارة دون العزلة المطلقة.



النصوص المقدسة والجحيم والمعبد

الخطب التي ألقاها مهاويرا قبل وفاته (55 خطبة و36 سؤالًا) أصبحت النصوص التأسيسية للديانة الجينية، وقد دُوّنت بعد وفاته بقرون، في مجمع عقد بمدينة ويلابهي في القرن الخامس الميلادي.

تؤمن الجينية بجحيم مكوّن من سبع طبقات، تختلف في درجات العذاب والظلام، وتتولى آلهة الرعب – وعددها خمسة عشر – تعذيب الأرواح الشريرة هناك، عبر وسائل متنوعة كالرماح، والخوازيق، والحرق، والتمزيق.

أما المعبد، فهو بالنسبة للجينيين جزء من طقوس الطهارة الجماعية، وتعميره يُعد من الأعمال الفاضلة. وتنتشر معابدهم المزخرفة في الهند، خاصة في كلكتا ودلوارا وكهف هاتي كنبا الشهير المنحوت في الصخر، الذي يُعد من عجائب العمارة الدينية.



الحضور التاريخي والثقافي

لم تخرج الجينية من حدود الهند، لكنها حافظت على وجودها عبر العصور، حتى أيام الحكم الإسلامي، حيث حظيت بالاحترام، بل إن الإمبراطور المغولي أكبر (1556–1605م) تأثر بها واحتضن أحد معلميها، مانحًا إياه لقب معلم الدنيا.

ويبلغ عدد أتباع الجينية اليوم قرابة مليون نسمة، معظمهم من الأغنياء العاملين في التجارة والتمويل، ويملكون مطابع ومؤسسات ثقافية تدعم نشر الفكر الجيني وتوثيقه.



الخاتمة: دهشة عابرة أم إشراق عميق؟

حين غادرت معبد الجينية في بومباي، لم أغادر مجرد بناء، بل خرجت من تجربة أوقفتني أمام أسئلة لم أطرحها من قبل:
ما معنى النجاة؟ هل تُنال بالمحبة أم بالمحو؟ وهل الانفصال عن العالم هو خلاص أم عزلة؟

لم أكن في تلك الرحلة باحثًا عن يقين، بل عن دهشة، ووجدتني أمام عقيدة تُقدّس الصمت، وترى في قهر الرغبة بوابة إلى الخلود.

ربما لا أتفق مع كل تعاليمها، لكنها بالتأكيد جعلتني أنظر إلى الإنسان من زاوية أخرى، زاوية تذكّرني دومًا بأن الطريق إلى الروح له وجوه كثيرة، بعضها لا نراه إلا حين نمشي حفاةً، كما مشى مهاويرا.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ومضات من حياة هنري ميلر
- قبّعات التفكير الستّ: حين يصبح العقل غرفةً ذات نوافذ ملوّنة
- الديانة الإبراهيمية: بين الخديعة الرمزية ومخطط تجميل إسرائيل ...
- قراءة جادة في مسار الإنقاذ الإداري
- من نحن… ومن يمكن أن نكون؟
- قيادة السيارة إنعكاس للشخصية: بين السلوك المتحضر والمتهور
- حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال
- المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة لل ...
- من يطفئ العالم… ويشعل أرباحه؟ الكارثة كأداة تحكم، والخداع كا ...
- السلوك جوهر الدين: قصة النفاق الديني عبر الثقافات
- أنا في المقصورة الأخيرة: بين حرية الأبناء وألم تراجع مكانة ا ...
- العقول التي تُحدث الفرق: في فلسفة التأثير وأوهام الاستغناء
- فن الإدارة الصعبة: حين يصبح الإبداع سيفًا، والكرامة المهنية ...
- التنين يمد جناحيه: حين تتجاوز الصين ميزان القوى
- ترامب والكوكلس كلان الجديد: بين فاشية القرن الحادي والعشرين ...
- من هو المسيح الدجال؟ تأملات في زمن الذكاء المصطنع والضمير ال ...
- البروباغاندا: تغييب الوعي وصناعة مجتمعات القطيع
- الصليب في البيت الأبيض: حين تتسلّل الأيديولوجيا الدينية إلى ...
- العقل قبل الجينات
- دونالد ترامب وظلّ القناع الأبيض: هل يقود أمريكا إلى لحظة غور ...


المزيد.....




- دوروف يعلن استعداده للإدلاء بشهادته بشأن التدخل الأجنبي في ا ...
- رئيس الأركان الإسرائيلي يهدد بتوسيع العملية البرية في غزة وي ...
- نائبة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط: نزع سلاح حزب الله يجب أ ...
- ليبيا.. مجلس النواب يحدد الاثنين المقبل جلسة استدعاء لمرشحي ...
- اجتماع بلديات غرب ليبيا يدعو لتغيير الحكومة ويطالب المجلس ال ...
- الدفاع الروسية: إسقاط 15 طائرة مسيرة أوكرانية
- ترامب ردا على زيلينسكي: الرئيس الأمريكي وحده المخول باتخاذ ق ...
- شاهد.. فلسطيني يبصق في وجه ضابطة في الجيش الإسرائيلي.. والشر ...
- 8 أسئلة تشرح تفاصيل ما دار في اتصال ترامب وبوتين
- كوت ديفوار تستعد لاحتضان منشأة أميركية لتشغيل المسيّرات


المزيد.....

- قلعة الكهف / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياحة والرحلات - أوزجان يشار - في حضرة مهاويرا: رحلة إلى الجينية، الديانة التي تمشي حافية فوق ماء الحياة