أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضات من حياة هنري ميلر














المزيد.....

ومضات من حياة هنري ميلر


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 09:47
المحور: الادب والفن
    


“أنا لا أكتب كي أغيّر العالم، بل كي لا يتغيّر داخلي أنا.”
— هنري ميلر

من بين رماد القرون السابقة، ومن قلب القرن العشرين المثقل بالحروب والفتن والثورات، خرج هنري ميلر كأنه نبيّ بلا ديانة، وعاشق بلا حبيبة، وكاتب بلا حدود. لم يكتب ليعلّم الناس، بل ليصرخ باسمهم. لم يكن يسعى إلى النجاة، بل إلى الحقيقة، حتى وإن كانت حادة كحد السكين.

ميلر لم يكن كاتبًا تقليديًا يقتفي أثر العبارة الأنيقة، بل كان كمن يمزّق حروفه من قلبه وهو يضحك ويبكي في الوقت ذاته. كان كمن يفتح جسده للقرّاء ويقول لهم: “ادخلوا، هذه حياتي كما هي… وهذه جراحي، لا تخافوا من الدم.”

في كتاباته، تنقلب الكلمات إلى عواصف، والجُمل إلى غُرفٍ مليئة بالعُري والحقيقة والشك والدهشة. في رواياته ورسائله وتأملاته، يتجاور الشبق مع الروح، كما يتجاور الجمال مع القبح، والحكمة مع الجنون.

الطفولة بين الضجيج والخواء

وُلد هنري ميلر في بروكلين عام 1891، في حي فقير يعجّ بالمهاجرين. كانت طفولته خليطًا من الصمت والضجيج، من التوق إلى الطيران والخوف من السقوط. لم يكن الابن المطيع، ولا التلميذ المتفوق، بل كان مشغولًا بشيء لا يعرف كيف يسميه: كان يريد أن يرى العالم من الزاوية التي لا يراها الآخرون. التهم الكتب كما يلتهم الجائع الخبز، لكنه كان يرى المدرسة جريمة منظمة ضد الخيال.

بدأ حياته العملية مبكرًا، عامل تلغراف، سائق، موظف بريد، وحتى عامل غسيل صحون. كان يحمل جسدًا منهكًا وروحًا تفيض بألف كتاب. لكنه لم يكن يريد النجاح، بل كان يريد الحرية. الحرية من الوظيفة، من العائلة، من الأخلاق المستوردة، من قواعد الكتابة نفسها.



باريس… المدينة التي ولدت فيها كلماته

في أوائل الثلاثينيات، هرب من نيويورك إلى باريس. هناك، عاش كمتشرد بوهيمي، بلا مال، بلا استقرار، بلا وطن. ولكنه وجد وطنه الحقيقي: الكتابة. في الغرف الرطبة، وفي مقاهي الحي اللاتيني، وبين صرخات الحانات وضحكات البغايا، كتب مدار السرطان. رواية حُرِّمت من التداول في أميركا وبريطانيا لأكثر من ثلاثين عامًا، لكنها فتحت بابًا لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه: أدب الحقيقة العارية.

قال عنها النقاد إنها عمل فاحش، وقال عنها العشّاق إنها أشبه بسيرة جسد وروح في مرآة الزمن. كتبها ميلر كما يكتب الجائع مذكراته الأخيرة، وكما يكتب المُدان قبل تنفيذ الحكم.



الحبّ حين يتحوّل إلى أدب

هناك في باريس أيضًا، التقى “أناييس نن”، الكاتبة التي كانت تبحث عن ظلّها في الآخرين. كان لقاؤهما نارًا على نار، لقاء روحين تتصارعان بالكتابة وبالقبلات. كانت رسائلهما أشبه بروايات مضغوطة، فيها الفلسفة، والجنس، والخيبة، والدهشة.

كتب لها:

“للمرة الأولى في حياتي، أنا منغمس تمامًا في كائن آخر… فيكِ.”

وكتبت له:

“ثمة فرق حاد بين ‘أنثى’ و’امرأة’… الأولى جسد، والثانية عقل مكهرب بالعاطفة.”

كانا عاشقين لا يريدان الخلاص، يكتبان ليبقيا في دوامة الوجع الجميل. لم يكن حبًا رومانسيًا، بل حبًا وجوديًا، يقول فيه ميلر: “أحبك رغم خيانتي، وأكتبك رغم صمتي، وأفكر بك حين أعتقد أنني تخلصت منك.”



العودة إلى أميركا… وصراع آخر

عاد ميلر إلى نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية، ليس ككاتب عادي، بل ككاتب خطير. هناك بدأت الرقابة تطارده، وتمنع كتبه، وتشهّر به. لكنه لم يتراجع. كتب مدار الجدي، ثم ربيع أسود، ثم الهواء الطلق… وكل كتاب كان بمثابة قنبلة أدبية.

كان يؤمن أن الكتابة يجب أن تكون “قاسية كالحقيقة، وعارية كالطفولة”. لم يكن يؤمن بالمجاملات، ولا بالمحرّمات، بل فقط بصوت الداخل حين يُقال كما هو.



سنوات الحكمة والمرح

في الستين، قال ميلر إنه بدأ يشعر بالشباب. وفي الثمانين، كتب ما يشبه مرآته الروحية. كتب عن التقدّم في العمر كما لم يكتب أحد. لا بنظرة الحزن، بل بنظرة الفهم.

“إن كنت قد بلغت الثمانين وما زلت تستمتع بالأزهار، وتنام دون حبوب منوّمة، فاشكر الحياة. لقد نجوت.”

ومع كل هذا، لم يفقد ميلر حسّ الفكاهة. كتب عن التكنولوجيا قائلاً:

“لقد ضجرتُ من هذا العصر يا أناييس… بكبسة زر واحدة تفتح مكتبة بحجم السماء. كم هذا مرعب!”

وكتب عن الإنسان قائلاً:

“نحارب الشر، لكننا لا نستطيع أن نحارب الغباء. البشر يتصرفون بطريقة تجعل الحيوانات تشعر بالخجل.”

لم يطلب من العالم أن يتغيّر، بل من نفسه أن يتقبّل. قال:

“كنت أخًا لكل إنسان، وخائناً لنفسي… وقد اكتشفت أن التضحيات أحيانًا بلا فائدة.”



ميلر كما يراه من عرفه

وصفه النقاد بأنه خليط من دوستويفسكي ونيتشه وماركيز، لكنه كان أكثر توحشًا وصدقًا. كان يرى نفسه خارج الزمن، خارج التصنيفات، خارج الأعراف.

قال عنه أحد أصدقائه: “هنري ميلر كان يعيش كما يكتب… فوضويًّا، محبًّا، صاخبًا، ومتصالحًا مع نفسه كما هي.”

وكان شعاره الأخير:

“امرح دائمًا… وتألق.”
وهو الشعار الذي يليق بكل من قرأ هنري ميلر، وخرج منه كما يخرج من عاصفة… مبتلًا، مذهولًا، وحيويًّا.

———

في زماننا هذا، حين باتت الكتابة تُقاس بعدد المتابعين، والكتب تُروّج كما تُروّج الحلوى، يبقى هنري ميلر علامة فارقة لا تشبه أحدًا. لم يكن نبيًا، لكنه آمن بالدهشة كأنها ديانة. لم يكن قديسًا، لكنه أحبّ كأن قلبه لا حدود له. لم يكن مثاليًا، بل كان حرًا، والحريّة أعظم من المثاليات.

“ليتني أستطيع أن أعيش كما تسبح السمكة… دون إيديولوجيا، دون عقيدة، دون أية لافتة. فقط أسبح… وأتوه… وأندهش.”
– هنري ميلر



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قبّعات التفكير الستّ: حين يصبح العقل غرفةً ذات نوافذ ملوّنة
- الديانة الإبراهيمية: بين الخديعة الرمزية ومخطط تجميل إسرائيل ...
- قراءة جادة في مسار الإنقاذ الإداري
- من نحن… ومن يمكن أن نكون؟
- قيادة السيارة إنعكاس للشخصية: بين السلوك المتحضر والمتهور
- حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال
- المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة لل ...
- من يطفئ العالم… ويشعل أرباحه؟ الكارثة كأداة تحكم، والخداع كا ...
- السلوك جوهر الدين: قصة النفاق الديني عبر الثقافات
- أنا في المقصورة الأخيرة: بين حرية الأبناء وألم تراجع مكانة ا ...
- العقول التي تُحدث الفرق: في فلسفة التأثير وأوهام الاستغناء
- فن الإدارة الصعبة: حين يصبح الإبداع سيفًا، والكرامة المهنية ...
- التنين يمد جناحيه: حين تتجاوز الصين ميزان القوى
- ترامب والكوكلس كلان الجديد: بين فاشية القرن الحادي والعشرين ...
- من هو المسيح الدجال؟ تأملات في زمن الذكاء المصطنع والضمير ال ...
- البروباغاندا: تغييب الوعي وصناعة مجتمعات القطيع
- الصليب في البيت الأبيض: حين تتسلّل الأيديولوجيا الدينية إلى ...
- العقل قبل الجينات
- دونالد ترامب وظلّ القناع الأبيض: هل يقود أمريكا إلى لحظة غور ...
- احتلال فرنسا للجزائر: الأسباب، التوابع، والرفض المستمر للاعت ...


المزيد.....




- زوجات الفنانين العرب يفرضن حضورهن في عالم الموضة
- صور عن جمال الحياة البرية ستذهلك
- فاس المغربية تستضيف مهرجان الموسيقى العالمية العريقة في دورت ...
- الرئيس المصري يطمئن على الفنان عبدالرحمن أبو زهرة بمكالمة ها ...
- المجلس الثقافي البريطاني يعلن عن 5 مشاريع إبداعية حاصلة على ...
- نزالات عالمية في بطولة -971- للفنون القتالية المختلطة بدبي
- في الذكرى الـ77 للنكبة.. الثقافة الفلسطينية بين البقاء والمق ...
- الغاوون: قصيدة عامبة مصرية بعنوان(اهات وتنهيده)الشاعر ايمن ب ...
- الغاوون:قصيدة عامية مصرية بعنوان( أمى)الشاعر أيمن بطيخ.مصر.
- مصر.. السيسي يتصل بفنان شهير للاطمئنان عن صحته بعد إشاعة وفا ...


المزيد.....

- اقنعة / خيرالله قاسم المالكي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أوزجان يشار - ومضات من حياة هنري ميلر