أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - أوزجان يشار - قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح














المزيد.....

قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 21:32
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


ليست الإسكافي رواية عن حرفةٍ منقرضة، بل عن كينونةٍ مستمرّة في التواري خلف مهنة. إنها قصة الرجل الذي يرمّم آثار الآخرين ويترك جراحه مكشوفة، يحشو النعال بالمسامير، ويترك قلبه يتآكل بصمت.

في هذه الرواية، الصادرة عن الكاتبة جيني حسين علي عن دار مقام عام 2023، لا نجد حبكةً تقليدية تُساق نحو ذروة، بل نجد مسارًا دائريًا كالحياة ذاتها، يتكرر فيه الصباح والعتمة، ويتبدّل الزبائن ولا يتغير الرجل.

الرجل، الذي لا يملك من العالم سوى رائحة الجلد، وخيوطًا قديمة، ومطرقة تعيد إيقاع الزمن كل يوم.
“كنت أسمع صرير الحياة في كل مسمار أدقّه في النعل… وأحيانًا كنت أشعر أني أخيط صدري لا الحذاء.”
ليست هذه جملة رمزية فحسب، بل بيان وجودي: الإنسان الذي تحوّل إلى أداة، وأداة إصلاحه الوحيدة هي مواصلة الفعل ذاته الذي أنهكه.

الرواية تفتح بابًا على عالم سفلي، ليس لأنه مظلم، بل لأنه يقع تحت القدم، في مستوى النعال والأرض والعرق. الرجل الذي يطأ الناس على بابه، ثم يمرّون دون أن يروه، صار هو نفسه مرآة لهم. حذاء بعد آخر، أثر بعد آخر، كأن دكّانه ليس ورشة بل أرشيف لأقدام الحياة.

“كل حذاء مرّ عليّ، فيه قصة… بعضهم كان يسألني إن كان يمكن ترقيع الروح أيضًا، فأضحك وأقول: أنا لا أصلح الأرواح، فقط أخيط آثارها.”

بهذه العبارة، تضع الكاتبة القارئ أمام أسئلة وجودية: هل نحن نعيش لنُصلح، أم لننحني في صمت؟ هل نستطيع ترقيع ذواتنا، أم أننا نكتفي بتلميع ما يخصّ الآخرين؟
الرجل لا يعاني من الفقر وحده، بل من غياب الحاجة إلى اسمه. إنه الحاضر الغائب، الذي لا يُنتبه لوجوده إلا عندما يتعطّل سير الأحذية. وعندما ينتهي عمله، يُعاد إلى الظلّ، حيث لا أحد يصفّق للصامت.

الرواية تنقل نبض الشارع، رائحة الحيّ الشعبي، صوت السوق، لكنها لا تفعل ذلك كديكور بل كوشم على وجه البطل. لا أحد في الرواية يملك صوتًا واضحًا غيره، رغم أنه بالكاد يتكلم. لكن صمته يدوّي، وتكراره يحمل احتجاجًا دفينًا ضد العالم الذي لا يسمع إلا من يصرخ.

في أحد أكثر المقاطع كثافةً يقول:
“الأيام عندي كلها يوم واحد طويل… يتغير لون الضوء، لكن الوجع لا يتغير.”
هنا تصل الرواية إلى ذروتها الفلسفية: الزمن ليس تتابعًا، بل هو صدى داخلي للملل، للمقاومة الباردة، للبقاء بلا معنى سوى التكرار. ليس في النص ما يدل على الحلم، أو حتى على الأمل. لكنه ليس نصًا عدميًا. بل هو نصّ يقف على تخوم اليأس دون أن يسقط فيه، لأن البطل، رغم كل شيء، يُكمل.

لا يطلب تعاطفًا، لا يروي مأساته، بل يعيشها كنظام داخلي.
الرواية تُصوّر الكرامة لا كقيمة أخلاقية، بل كأداة بقاء. ليست كرامة البطل في رفضه للذل، بل في رفضه للتخلّي عن دوره. عن خيطه. عن رقعته.

وفي لحظة ختام الرواية، حين يقول:
“لو سقطت الدنيا كلها، سأبقى أخيط آخر حذاء… وربما يكون حذائي أنا.”
لا يُعلن عن مقاومة بطولية، بل عن نوع خاص من القبول المُضيء. ليس استسلامًا، بل اعترافًا بقدر الإنسان المحدود في عالمٍ لا يعترف بالضعف إلا إذا صاح.



إن الإسكافي ليست رواية عن شخص، بل عن طبقة كاملة من الناس الذين يحملون هذا العالم على أكتافهم دون أن تُذكر أسماؤهم في نشرة الأخبار. الكاتبة لم تكتب عملًا عن الحذاء، بل عن من يدقّه، من يُنزل رأسه كل يوم، ليس تواضعًا، بل لأن الحياة لا تترك له رفاهية الوقوف منتصبًا.

في زمنٍ يتبارى الجميع فيه بالصوت العالي، كتبت جيني حسين علي رواية الصمت. رواية عن النبل غير المسموع. عن بطولة تهمس. عن رجل، حين يُسأل عن اسمه، يكتفي بأن يقول:
أنا الإسكافي. لا أكثر، ولا أقل.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشخصية الجدلية: بين الجاذبية والتنافر
- القيادة بين التحذير والتجاهل: دروسٌ من الكارثة
- مصر وتاريخ الهويات: من يوسف وموسى إلى رمسيس وأحمس، ومن النوب ...
- من السيارة إلى الإنسان: شرائح ذكية تحرس الحياة وتعيد تعريف ا ...
- كيف تتغلب على المتلاعبين؟ قراءة تأملية في كتاب جاستن تايلور
- في حضرة مهاويرا: رحلة إلى الجينية، الديانة التي تمشي حافية ف ...
- ومضات من حياة هنري ميلر
- قبّعات التفكير الستّ: حين يصبح العقل غرفةً ذات نوافذ ملوّنة
- الديانة الإبراهيمية: بين الخديعة الرمزية ومخطط تجميل إسرائيل ...
- قراءة جادة في مسار الإنقاذ الإداري
- من نحن… ومن يمكن أن نكون؟
- قيادة السيارة إنعكاس للشخصية: بين السلوك المتحضر والمتهور
- حين يُزهر الوعي: بين النور الداخلي وعتمة الانفصال
- المدينة بين الاختناق والنجاة: حين يتحوّل الإسمنت إلى مرآة لل ...
- من يطفئ العالم… ويشعل أرباحه؟ الكارثة كأداة تحكم، والخداع كا ...
- السلوك جوهر الدين: قصة النفاق الديني عبر الثقافات
- أنا في المقصورة الأخيرة: بين حرية الأبناء وألم تراجع مكانة ا ...
- العقول التي تُحدث الفرق: في فلسفة التأثير وأوهام الاستغناء
- فن الإدارة الصعبة: حين يصبح الإبداع سيفًا، والكرامة المهنية ...
- التنين يمد جناحيه: حين تتجاوز الصين ميزان القوى


المزيد.....




- كريم الوقاية من أشعة الشمس.. المستحضر الأكثر أهمية والغالبية ...
- كسب قلوب السكان.. -فيل بحر- يجد طريقه إلى ضواحي كيب تاون ويو ...
- الدفاع الروسية: استهداف المنشآت العسكرية الأوكرانية بـ5 ضربا ...
- مصادر لـRT: مقتل قائد ميداني بارز في قوات الدعم السريع
- ما هي بنود وقف إطلاق النار المحتمل في غزة؟
- قبل ليلة الحسم.. إنتر يبحث عن المجد وباريس يحلم بأول لقب!
- -لماذا لا تقطع مصر علاقتها بإسرائيل؟-.. أبو الغيط يكشف سر اح ...
- لغز جثة شابة عارية في خزان مياه بفندق أمريكي!
- إقليم كندي يعلن حالة الطوارئ بسبب حرائق الغابات (فيديو)
- جيجي وبيلا حديد تكشفان سرا عائليا!


المزيد.....

- نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و ... / زهير الخويلدي
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - أوزجان يشار - قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح