أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الفوضى: هندسة الوجود بين العلم والسياسة والفن














المزيد.....

الفوضى: هندسة الوجود بين العلم والسياسة والفن


أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8376 - 2025 / 6 / 17 - 09:23
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في عالم يسعى بكل طاقته نحو النظام، تبدو الفوضى كأنها العدو الذي يجب استئصاله. لكنها في الحقيقة ليست ذلك الغريب الذي يهدد استقرارنا، بل هي رفيق خفي، تسكن في أصل الوجود، وتتحرك في تفاصيل حياتنا اليومية، وتعيد تشكيل الفكر والسياسة والفن على نحو لا ندركه إلا متأخرين. الفوضى ليست دومًا نقيض النظام، بل هي أحيانًا رحم النظام نفسه، اللحظة التي تنكسر فيها التقاليد ليولد منها شيء جديد.

في البدء كانت الفوضى. قبل أن ينبض الزمن، كان الكون في حالة من اللاشكل، اللاحد، واللاتوازن. الميثولوجيا الإغريقية تحدثت عن “الفوضى” كأصل لكل شيء، حالة بدائية سبقت تكوّن السماء والأرض. لكن هذه ليست مجرد أسطورة، بل تأكيد على أن الفوضى سبقت كل نظام. حتى العلم الحديث يعترف بهذه البداية. يقول ستيفن هوكينغ إن الكون وُلد من نقطة متناهية الصغر، بلا قانون ولا ترتيب، ثم انفجر ليخلق الزمن والمكان. القرآن الكريم يشير إلى ذات اللحظة حين وصف الكون في حالة من الالتصاق والرتق قبل أن يُفتق ويتشكل. كل ولادة في الكون، سواء كانت نجمة أو فكرة أو حضارة، تبدأ من فوضى.

في أعماق العلوم، لم يعد يُنظر إلى الفوضى كعطب أو خلل. اكتشف العلماء أن الأنظمة التي تبدو عشوائية تحكمها قوانين خفية لكنها بالغة الحساسية. من أبسط الأمثلة، تأثير الفراشة الذي كشف عنه إدوارد لورينتز، حيث يمكن لحركة صغيرة في طرف من العالم أن تصنع إعصارًا في طرف آخر. ليست هذه مبالغة شاعرية، بل وصف دقيق لأنظمة معقدة مثل الطقس والأسواق المالية وحتى القلب البشري. انهيار الاقتصاد العالمي عام 2008، مثلًا، بدأ من خلل بسيط في سوق القروض العقارية ثم تمدد ليُسقط بنوكًا ودولًا. التفاصيل الصغيرة تصنع الأعاصير. الفوضى في العلوم ليست غياب القوانين، بل وجود قوانين لا نملك مفاتيحها بالكامل. حتى نبضات القلب تخضع لنمط فوضوي، وحين يخرج الإيقاع عن توازنه يُنذر بالخطر. الفوضى إذًا تحذير، وليست دائمًا كارثة.

أما الفلسفة فقد وجدت في الفوضى مساحة للتأمل أكثر من كونها مصدر تهديد. نيتشه رأى أن من يحمل في قلبه فوضى كافية يستطيع أن يُنجب نجمًا راقصًا. الفوضى شرط للإبداع، وحاجز من لا يستطيع تحمله هو خوفه من أن يهتز يقينه. القلق الوجودي عند هايدغر، تلك الحالة من فوضى الأسئلة، هو ما يدفع الإنسان للبحث عن معنى حقيقي للحياة. أما جان بودريار فذهب إلى أن العالم المعاصر يُنتج فوضى مصطنعة، يُغرقنا في زيف الصور والإعلانات حتى يغيب عنا الواقع. الفوضى ليست خللًا هنا، بل باب لفهم الذات وتحرير الوعي من قوالب كاذبة.

في السياسة، تتحول الفوضى إلى هندسة متعمدة. مصطلح “الفوضى الخلاقة” الذي تبنته كونداليزا رايس لم يكن توصيفًا لحالة عارضة، بل كان عنوانًا لاستراتيجية طويلة الأمد. تُفتَت الدول وتُزرَع النزاعات العرقية والطائفية ويُستثمر التطرف كأداة لتمرير مشاريع إعادة تشكيل الخرائط. ما حدث في العراق بعد 2003 ليس إلا نتيجة لإطلاق فوضى مدروسة، كان إسقاط النظام بداية لعقود من الدم لا لتحقيق الديمقراطية. سوريا أيضًا تحولت إلى مسرح للفوضى الخلاقة، حيث تم تذكية الصراع ليصبح نقطة تقاطع لمصالح قوى دولية. الفوضى في السياسة ليست دائمًا انفجارًا خارج السيطرة، بل كثيرًا ما تكون لعبة شطرنج يديرها من يملكون أوراق القوة. الجماعات المتطرفة التي تظن أنها تقاتل لنظام جديد قد تكون مجرد أدوات في لعبة أعقد مما تتخيل.

وحين ننتقل إلى عالم الفن، نكتشف أن الفوضى ليست نقيض الجمال بل روحه المتمردة. بعد الحرب العالمية الأولى، برزت المدرسة الدادية التي احتفت بالفوضى كصرخة ضد عبثية الحرب. مارسيل دوشامب قلب مفهوم الفن حين عرض أشياء عادية كأعمال فنية في حد ذاتها، ليؤكد أن الفوضى قادرة على هدم المفاهيم القديمة. جاكسون بولوك في الرسم، استغنى عن الفرشاة وسكب الطلاء بعشوائية على القماش ليخلق لوحات تنبض بحياة لا يمكن تفسيرها لكنها تأسر العين والقلب. موسيقى الجاز كذلك احتفت بالفوضى، إذ أعطت العازفين حرية ارتجال كاملة، كأن كل آلة تعزف قصتها الخاصة لكنها في النهاية تصنع سيمفونية منسجمة. الفوضى هنا ليست سقوطًا بل تحرر. كما قال مارك روثكو: أعظم الفن ينبع من فوضى النفس.

نحن غالبًا نخاف الفوضى لأننا نراها كتهديد، لكن الفوضى ليست دائمًا عدوًا. هي قد تكون البوابة التي نعبر من خلالها إلى اكتشاف أنفسنا. حين تتشظى قناعاتنا، حين تضطرب مشاعرنا، حين نرتبك أمام قراراتنا، تلك ليست نهايات بل بدايات. التغيير الحقيقي لا يبدأ من حالة السكون، بل ينبت من قلب الفوضى.
الفوضى ليست دائمًا خارجة عنا. أحيانًا تسكن في داخلنا: في ارتباك قراراتنا، في تصدع قناعاتنا، في اضطراب مشاعرنا.
لكن الهروب من الفوضى ليس هو الحل. لأن النظام الذي لا يولد من الفوضى يكون مجرد قيد جديد.
كما قال نيتشه: “عليك أن تحمل في نفسك فوضى كافية لتولد نجمك الراقص.”

الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والتغيير في جوهره رحلة عبر فوضى الذات قبل أن يطال العالم من حولنا. ربما نحتاج إلى أن نحتضن الفوضى كمرحلة ضرورية في مسار الحياة، كشرارة تنبئ بتحولات قادمة، لا كعدو يجب استئصاله. لأن النظام الذي لا يولد من رحم الفوضى هو مجرد قيد جديد قد نرتديه بأيدينا.

ربما نحتاج أن نتصالح مع الفوضى كمرحلة لا مفر منها، كأداة لفهم أنفسنا، كطريق لاكتشاف نظام أعمق، لا كعدو يجب اجتثاثه.

الفوضى ليست النهاية. الفوضى قد تكون بداية الطريق.



المصادر:
• Chaos: Making a New Science by James Gleick
• A Brief History of Time by Stephen Hawking
• Thus Spoke Zarathustra by Friedrich Nietzsche
• The Open Society and Its Enemies by Karl Popper
• Simulacra and Simulation by Jean Baudrillard
• The Grand Chessboard by Zbigniew Brzezinski
• Confessions of an Economic Hitman by John Perkins
• The Post-Cold War -orderby Michael Cox



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ومضات في حياة البروفيسور شريف الصفتي: ما بين الحقيقة والتهوي ...
- “الحمار الذهبي”: رحلة التحول بين الجسد والمعرفة
- السلاح النووي: قنبلة معلقة فوق رقبة البشرية
- هل حان الوقت لبناء ملاجئ بدلًا من أوهام السلام؟
- “رحيل”.. حين تهمس الروح بالحياة وتختبر الحب كفناء
- الجسر لا السيف: في مدارات الجدل الإنساني الراقي
- فيليس ويتلي: حين كتبت العبدة قصائد الحرية
- درهمٌ في مؤخرة الحافلة: حين يصطدم جنون الثروة بجنون السلطة
- المتعة لحظة… والسعادة قرار: من فخ اللذة إلى جسر الحكمة
- تغيير التفكير… بوابة لتغيير المصير
- قوة التفكير الإيجابي: قراءة في كتاب جيسون وولبرز
- فلسطين أولاً: تفكيك أسطورة “إسرائيل” في النصوص الدينية والتا ...
- قراءة نقدية في رواية الإسكافي: حين يُخاط الجلدُ الروح
- الشخصية الجدلية: بين الجاذبية والتنافر
- القيادة بين التحذير والتجاهل: دروسٌ من الكارثة
- مصر وتاريخ الهويات: من يوسف وموسى إلى رمسيس وأحمس، ومن النوب ...
- من السيارة إلى الإنسان: شرائح ذكية تحرس الحياة وتعيد تعريف ا ...
- كيف تتغلب على المتلاعبين؟ قراءة تأملية في كتاب جاستن تايلور
- في حضرة مهاويرا: رحلة إلى الجينية، الديانة التي تمشي حافية ف ...
- ومضات من حياة هنري ميلر


المزيد.....




- -تنمر وخيانة-.. المتحدث باسم خارجية إيران عن الضربات الأمريك ...
- من فوردو إلى أصفهان.. إليكم تسلسل هجوم أمريكا الزمني على منش ...
- الصواريخ الإيرانية تخرق القبة الحديدية.. دمار كبير يصيب عدة ...
- هل -انتهى- البرنامج النووي الإيراني بالفعل كما أعلن ترامب؟
- هل تم استهداف محطة بوشهر النووية جنوب إيران؟
- مؤتمر صحفي لوزير الدفاع الأمريكي : -دمّرنا البرنامج النووي ا ...
- ضربات إيرانية متواصلة على إسرائيل تحدث اضرارا بمواقع مختلفة ...
- مضغ العلكة قبل الأكل.. حيلة غذائية أم فخ للجهاز الهضمي؟
- ما القصة وراء تسريب 16 مليار كلمة مرور؟
- إيران تمتص أثر الضربة الأميركية وتخفي طبيعة ردها القادم


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الفوضى: هندسة الوجود بين العلم والسياسة والفن