أوزجان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 00:31
المحور:
الصحافة والاعلام
حين كتب ليو زيلارد أول معادلات الانشطار النووي في ثلاثينيات القرن الما ضي، لم يكن يدرك أن نظريته ستفتح أبواب الجحيم على مصراعيها. لقد كان يطمح إلى تسخير طاقة الذرة لصالح الإنسانية، لكن هذا الاكتشاف سرعان ما استُلب من يد العلم ليصبح أداة إبادة. قال زيلارد لاحقًا، وهو يتأمل في الكارثة التي ساهم في صناعتها:
“أحيانًا يُنتج العقل أعظم اختراعاته ليتحول إلى أسوأ أعداء البشر.”
إن السلاح النووي لم يكن مجرد تطور في علم الحرب، بل كان نقطة تحول سوداوية في تاريخ البشرية، حيث أصبح الدمار الكلي في متناول قرار بشري واحد.
البداية: هيروشيما وناغازاكي… لحظة السقوط الأخلاقي
في أغسطس 1945، استخدام القنبلة الذرية: قرار سياسي أم تجربة علمية؟
في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان على وشك الانهيار. قواتها تراجعت، أسطولها البحري دُمر، ومدنها تعرضت لقصف مدمر بالقنابل التقليدية التي أحرقت طوكيو وقتلت مئات الآلاف. ومع ذلك، أصرت القيادة اليابانية على مواصلة القتال، متشبثة بشروط استسلام تحفظ ماء الوجه وتضمن بقاء الإمبراطور.
في هذا السياق، جاء قرار في الرئيس الأمريكي هاري ترومان في أغسطس 1945 باستخدام القنبلة الذرية كسلاح حاسم لـ”تسريع نهاية الحرب” كما أعلن رسميًا. لكن خلف هذا القرار، كانت هناك شبكة معقدة من المصالح العلمية، السياسية، والاستراتيجية التي تجاوزت مجرد إنهاء الحرب.
هيروشيما اختيرت بعناية لعدة أسباب: كانت قاعدة عسكرية، لم تُقصف سابقًا، ما يتيح للعلماء قياس التأثير الحقيقي للقنبلة في بيئة حضرية غير مدمرة. في 6 أغسطس 1945، أُسقطت القنبلة “Little Boy” على هيروشيما، وأسفرت عن مقتل أكثر من 140,000 شخص خلال أشهر قليلة، مع آلاف آخرين ماتوا لاحقًا بسبب الإشعاعات والحروق المروعة.
وثائق عديدة، منها مذكرات العالم ليو زيلارد ومذكرات كبار العسكريين الأمريكيين مثل الجنرال دوايت أيزنهاور، تؤكد أن كثيرين في الإدارة الأمريكية كانوا يعتقدون أن إسقاط القنبلة لم يكن ضروريًا عسكريًا، بل كان “عرض قوة” موجَّه للاتحاد السوفيتي بقدر ما كان موجَّهًا لليابان.
كما تشير دراسات إلى أن بعض العلماء في مشروع مانهاتن كانوا يرون أن استخدام القنبلة الفعلية ضد البشر هو تجربة ميدانية كبرى لم يسبق لها مثيل. لقد أرادوا معرفة التأثير الحقيقي للسلاح، بعد اختباره النظري في صحراء نيومكسيكو في يوليو 1945.
و في قمة الإستهتار والجبروت جاء القرار بإلقاء القنبلة الثانية على ناغازاكي في 9 أغسطس 1945، أي بعد ثلاثة أيام فقط من هيروشيما، يُعد صدمة أخلاقية كبرى. اليابان لم تحصل حتى على فرصة كافية لاستيعاب كارثة هيروشيما ولا للرد على مطلب الاستسلام. بعض الوثائق تشير إلى أن القنبلة الثانية لم تكن “ضرورة عسكرية”، بل كانت تأكيدًا لتعدد فاعلية النماذج النووية المختلفة (القنبلة الأولى كانت تعمل باليورانيوم، والثانية بالبلوتونيوم).
وقد اعترف ضباط أمريكيون كبار لاحقًا أن إسقاط القنبلة الثانية لم يكن مبررًا، بل كان خطوة قاسية وغير ضرورية عجلت بنهاية الحرب على حساب مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء.
إسقاط القنبلتين لا يمكن فصله عن سؤال أخلاقي جوهري:
إذا كان الهدف هو إجبار اليابان على الاستسلام، فلماذا لم يتم إسقاط القنبلة في منطقة غير مأهولة كتحذير؟ ولماذا القنبلة الثانية بهذه السرعة؟
الأكاديمي الأمريكي غاري كوهين يقول: “إلقاء القنبلة الثانية هو النقطة التي انتقل فيها الاستخدام من قرار استراتيجي إلى فعل غير أخلاقي بالكامل.”
حتى داخل الولايات المتحدة، تزايدت الأصوات التي رأت أن الأمر كان إفلاسًا أخلاقيًا صارخًا. بعض العلماء مثل زيلارد نفسه حاولوا قبل التفجير إقناع الحكومة الأمريكية بعدم استخدام القنبلة على البشر، لكن دون جدوى.
نعم كان يمكن إنهاء الحرب دون قنبلة نووية أولى وثانية.
وثائق عسكرية سوفيتية وأمريكية كشفت لاحقًا أن اليابان كانت تبحث فعليًا عن وساطة للاستسلام قبل حتى إسقاط القنبلتين، بشرط وحيد: الإبقاء على العرش الإمبراطوري. وهو ما وافقت عليه الولايات المتحدة لاحقًا بعد الاستسلام، مما يعني أن الحرب ربما كانت ستنتهي بنفس النتيجة دون اللجوء إلى هذه الكارثة الإنسانية.
كان التبرير الأمريكي بأن استخدام القنبلتين كان حقًا إنقاذًا للأرواح.
كانت الحجة الأمريكية التقليدية تقول إن القنبلة أنقذت ملايين الأرواح من خلال تجنب غزو اليابان. لكن هذه الحجة فقدت الكثير من قوتها مع الكشف عن تقارير تؤكد أن اليابان كانت على وشك الاستسلام أساسًا، ومع تصاعد الأدلة التي تشير إلى أن القصف كان قرارًا مشحونًا باعتبارات سياسية ورسالة موجهة للاتحاد السوفيتي أكثر من كونه ضرورة عسكرية ضد اليابان.
⸻
إن ما حدث في هيروشيما وناغازاكي يتجاوز حدود الحرب والانتصار والهزيمة. لقد كان لحظة سقوط أخلاقي للبشرية بأكملها. السلاح النووي أثبت أن الإنسان يمتلك القدرة على تدمير ذاته، وأن قرارات مصيرية كهذه يمكن أن تُتخذ في غرف مغلقة بناءً على مصالح سياسية أو رغبات علمية عابرة، دون أدنى احترام لقيمة الحياة.
إن السؤال الذي يبقى معلقًا هو: إذا كانت القنبلة الثانية غير ضرورية، فلماذا أُلقيت؟ ربما الجواب يكمن في جملة قالها أحد قادة المشروع النووي الأمريكي لاحقًا: “لأننا كنا نريد أن نرى ماذا سيحدث.”
وهنا تكمن الكارثة الحقيقية: أن تصبح حياة البشر مجرد تجربة.
ـــــ
تشيرنوبل: عندما يتحول التقدم إلى كارثة
في 26 أبريل 1986، انفجر مفاعل تشيرنوبل النووي، في كارثة هزت العالم بأسره. الغبار الذري انتشر على امتداد أوروبا الشرقية. مدينة بريبيات أصبحت مهجورة حتى اليوم، وستظل غير صالحة للسكن لعشرات الآلاف من السنين. تشيرنوبل لم يكن مجرد حادث صناعي، بل إعلان صريح عن خطورة العبث بهذه الطاقة. العلماء يقدّرون أن بعض العناصر المشعة الناتجة عن الكارثة ستظل قاتلة لمدة قد تصل إلى 500 ألف سنة. لقد أظهرت تشيرنوبل أن خطأ واحدًا في التعامل مع الذرة كفيل بأن يجعل منطقة كاملة من كوكبنا ميتة إلى الأبد.
ــــ
فوكوشيما: الجرح الياباني يتكرر
في عام 2011، ومع زلزال اليابان المدمر، واجهت البشرية صدمة جديدة مع كارثة مفاعل فوكوشيما. المياه الملوثة بالإشعاعات تسربت إلى المحيط الهادئ، وامتدت آثارها إلى الكائنات البحرية، وانتشرت المخاوف من انتقال هذه الإشعاعات عبر السلسلة الغذائية العالمية. فوكوشيما أكدت أن الطاقة النووية، حتى مع أحدث تقنيات التأمين، تظل كالقنبلة الموقوتة التي لا يمكن التنبؤ بساعة انفجارها.
ـــــ
الغبار الذري: الموت البطيء
حين تنفجر قنبلة نووية أو يحدث تسرب إشعاعي، يتكون غبار ذري يبقى معلقًا في الغلاف الجوي لسنوات طويلة. هذا الغبار لا يلوث الهواء فحسب، بل يتغلغل في التربة والمياه ويخترق السلاسل الغذائية، ليصيب البشر بأمراض قد تظهر بعد عقود من التعرض. العناصر المشعة مثل السيزيوم-137 والسترونتيوم-90 قد تحتاج إلى ما بين 200 إلى 500 ألف سنة حتى تتحلل بالكامل. وفي حال اندلاع حرب نووية شاملة، قد يدخل العالم في شتاء نووي حيث تحجب سحب الدخان والغبار أشعة الشمس لسنوات، مما يؤدي إلى انخفاض حاد في درجات الحرارة، ويدفع البشرية إلى مجاعة كونية لا مفر منها.
شتاء نووي: سيناريو الانقراض
علماء المناخ يحذرون منذ سنوات من أن تبادل ضربات نووية بين القوى العظمى سيطلق ملايين الأطنان من الغبار والدخان إلى طبقات الجو العليا، فيحجب الشمس ويؤدي إلى ما يعرف بـ”الشتاء النووي”. هذا السيناريو يعني موت المحاصيل، انهيار النظم البيئية، وانخفاض درجة حرارة الأرض إلى مستويات قد لا تحتملها الحياة الحديثة. إعادة التوازن إلى الأرض بعد شتاء نووي كهذا قد يحتاج إلى آلاف السنين، وربما لا يتعافى كوكبنا أبدًا بنفس صورته التي نعرفها.
ـــــ
الدول النووية: خريطة الخطر
في عالم اليوم، هناك تسع دول تمتلك السلاح النووي: الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا، الهند، باكستان، كوريا الشمالية، وإسرائيل. هذه الدول مجتمعة تمتلك أكثر من 13,000 رأس نووي، أي ما يكفي لمحو الكوكب بأكمله. ورغم اتفاقيات الحد من التسلح مثل معاهدة حظر الانتشار النووي، تبقى الترسانات النووية قائمة، جاهزة للاستخدام خلال دقائق من تلقي أي تهديد.
المنظمة الدولية للطاقة الذرية: رقابة محدودة
تلعب الوكالة الدولية للطاقة الذرية دورًا رقابيًا في متابعة استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، لكنها تعاني من قيود سياسية وعسكرية، خاصة عندما تواجه دولًا تمتنع عن الكشف الكامل عن برامجها أو ترفض الالتزام بالاتفاقيات الدولية. رغم نجاحها النسبي في مراقبة بعض الدول، إلا أن الخطر الحقيقي يكمن في الأسلحة التي تُخزَّن سرًا أو في احتمالية وصول التكنولوجيا النووية إلى جماعات غير دولية.
ــــــ
وقائع حية: العراق والجزائر… تاريخ مشع
في حرب العراق 2003، استخدمت القوات الأمريكية ذخائر مخصبة باليورانيوم المنضب، وهو نوع من النفايات النووية، مما تسبب في تصاعد معدلات السرطان والتشوهات الخلقية خاصة في مدينتي البصرة والفلوجة. هذه الحوادث لا تزال آثارها الصحية والبيئية مستمرة حتى اليوم. كما قامت فرنسا بإجراء تجارب نووية في صحراء الجزائر خلال الفترة بين 1960 و1966، حيث تعاني المناطق المحيطة حتى الآن من بقايا الإشعاعات والتلوث النووي، في جريمة لا تزال الجزائر تطالب بالاعتراف بها وجبر أضرارها.
ــــــ
الردع النووي: فلسفة محفوفة بالجنون
تُسوّق الدول الكبرى لفكرة “الردع النووي” باعتبارها الضامن للسلام، لكنها في الحقيقة تجعل الكوكب رهينة لتوازن هش يمكن أن ينهار بسبب خطأ تقني أو حسابات سياسية خاطئة. هناك مئات الحوادث التي اقترب فيها العالم من حافة الحرب النووية نتيجة إنذارات كاذبة أو سوء تفسير للأنشطة العسكرية. ما يُسمى بالسلام النووي هو مجرد قنبلة على طاولة الانتظار.
لو كان ليو زيلارد، صاحب فكرة الانشطار النووي، يعلم أن فكرته ستُترجم إلى قنابل تمحو مدنًا وتلوث الأرض والسماء لقرون، لربما أوقف قلمه قبل أن يخط أول معادلة. لقد قالها بعد سنوات من ندمه: “كنا نظن أننا نخترع شيئًا عظيمًا، فإذا بنا نفتح باب الفناء.”
السلاح النووي ليس أداة ردع، بل هو لعنة معلقة فوق رؤوسنا جميعًا. كلما ظن الإنسان أنه يسيطر على هذه القوة، تكشف له الحوادث أن السيطرة وهم، وأن الانفجار قد يأتي في أي لحظة. إذا استمرت البشرية في التمسك بهذا الجنون النووي، فربما لن تجد يومًا من يكتب التاريخ بعد سقوط آخر قنبلة.
⸻
المصادر:
• كتاب: “كارثة تشيرنوبل” - أدام هيغينبوثام
• كتاب: “فوكوشيما: التاريخ غير المروي” - ديفيد لوكباوم
• كتاب: “هيروشيما” - جون هيرسي
• تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية
• تقارير الصليب الأحمر الدولي حول استخدام اليورانيوم المنضب في العراق
• تقارير بيئية حول التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر
• مذكرات ليو زيلارد
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟