أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -وصار جلده رسالة-














المزيد.....

-وصار جلده رسالة-


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 16:47
المحور: قضايا ثقافية
    


كان الليل في دمشق لا يُشبه سواه، وكان النور يأتيها على هيئة شيوخٍ عظام، تعرج أرواحهم إلى السماء دون أن يغادروا الأرض، لأنهم خُلقوا من صلابة الكلمات، ومن اتّساع ضمائرهم. في زواياها المتواضعة كان صوت الحقّ يُتلى بلا تكلّف، وكان الإمام أبو بكر النابلسي لا يطيل في خطبته أكثر مما يحتمل الناس، لكنّ الحقيقة عنده كانت لا تؤجل، ولا تتزيّن، ولا تتخفّى بثياب الخوف.لم يكن شيخاً عادياً، كان يحمل على ظهره أمانةً تهشّمت من كثرة ما طُعنت، وكانت عمامته من نور، وصدره محراباً تهوي إليه أفئدة الباحثين عن الحقّ. حين دخل الفاطميّون الشام، لم يدخلوا كفاتحين، بل ككابوس ثقيل تسلّل من جوف التاريخ المعتم، فحوّل المنابر إلى مذابح للصدق، والصلوات إلى استعراضات للحقد. كان يُطلب من الخطباء أن يلعنوا أصحاب النبي... فهل يُمكن لمَن حمل النور أن يلعن مشاعله؟
هرب الإمام... لا لأنه يخشى الموت، بل لأنه يعلم أن النور لا يُحاصر، بل ينتظر ساعةً ليشتعل من جديد في الأرض المباركة. من الرملة إلى دمشق، كان يحمل في قلبه القرآن، وفي يمينه دعاءً، وفي يساره يقينًا. لم يكن فقيه سياسة، لكنه كان يعرف جيداً كيف تشتعل الفتنة حين تُقص جناحاها: العلم والعدالة.وحين قال كلمته التي خلدها التاريخ على شرفاته العالية:"لو كان لي عشرة سهام، لرميتكم بها جميعًا، إلا واحداً فإني أرمي به الروم..."لم يكن يتحدث عن طغيانٍ عابر، بل عن انحرافٍ مريع جعل الدين مطيّة، والعقيدة قناعًا. قالها، ولم يعلم أن آخر سهامه سيكون صدره، وأن آخر معاركه ستخاض بين الجلد والعظم.قُبض عليه، كأنهم يخشون أن تبقى كلماته طليقة. سُجن في قفص خشب... رجلٌ بعظمة الجبال يُحبس في قفص كما تحبس الطيور. كان رمضان، لكن لا إفطار في سجنه سوى صوت الله في صدره، ولا تسحّر سوى الدعاء المبلل بالدمع.ثم جاءوا به... من دمشق إلى مصر، والريح كانت تنقل أنينه إلى أعمدة السماء. ووقف أمام قائدهم، وقيل له:
"أأنت من قلت؟..."فقال:"بل قلت أشدّ، وأعمق، وأصدق..."لم يتراجع، لم يرتجف، لم يساوم.
فقرروا أن يكون دمه كتابًا جديدًا يقرأه الضعفاء، وتقرؤه الأجيال، ويقرأه الله في عليائه.
في اليوم الأول، أخرجوه كما يُخرجون العار أمام الناس، ولم يكن فيه من العار شيء، إلا أن الحقّ صار في ذلك الزمن عورة.وفي اليوم الثاني، جلدوه حتى تشقّقت السماء، وضربوا فيه الحياء والوجدان، وظنّوا أن الصمت سيشتري منهم كلمة تراجع، لكن النابلسي لم يكن يملك سوى السكون المضيء، والجبين المرفوع.
وفي اليوم الثالث، جاءه اليهودي الجزار، فقد رفض المسلمون أن يكونوا سكاكين في مذبحة علم، رفضوا أن يحملوا أداة خزي تقطع بها الحنجرة التي كانت تقرأ حديث المصطفى.
وسُلخ... سُلخ الإمام، ولم يُسلخ الجسد فقط، بل كانت كل طبقة من جلده تحكي للعالم:
"هذا ما يفعله من يخاف الله، بمن لا يخاف إلا الله."وبينما السكين تشقّ الصدر، كان لسانه لا يزال يلهج بالله... لم يصرخ، لم ينهار، لم يطلب الرحمة من بشر. وعندما بلغ السكين قلبه، رقّ له اليهودي، فطعنه فيه لينهي هذا العذاب النبيل.
ومات الإمام، واحتُشي جلده تبناً، وصُلب، ليكون جسده ساريةً على مدخل التاريخ... تمامًا كما كان حيًا، سارية حقّ في مدينة الصمت.
ولم تبكِ عليه السيوف، بل بكت عليه الكتب، والمآذن، والليالي التي كانت تستأنس بعلمه. ولم يبكِه الناس لأنهم لم يعرفوا ما جرى، لكن بكاه الزمان حين أدرك أن جلود العلماء قد تُسلخ ولا يتوقف التاريخ!مات النابلسي، لكنه حيّ في كُلِّ صوت يرفض الظلم، في كل آية تُتلى بضمير، في كل طفلٍ سيكبر ليحمل سيف الحرف. وها هو التاريخ يسير... يمرّ على القصور الفاطمية المهجورة، فلا يجد فيها إلا الصمت والعفن، بينما قفص الإمام الذي صُلب فيه صار منارة في قلب كل من يهمس سرّاً:"اللهم لا تجعل للباطل على الحقّ سبيلاً."هذا ليس رثاءً يا سيدي، بل درسٌ محفورٌ بدمك.سلامٌ عليك حين وُلدت عالماً، وحين قاتلت بصمت، وحين سلخوا الجسد ولم يستطيعوا سلخ الحقيقة.
سلامٌ عليك في سجل الشهداء، وفي دفتر الخلود.

المصادر..
1. سير أعلام النبلاء – الذهبي
2. البداية والنهاية – ابن كثير
3. النجوم الزاهرة – ابن تغري بردي
4. الوافي بالوفيات – الصفدي
5. الخطط المقريزية – المقريزي
6. العبر في خبر من غبر – ابن خلدون.
7. الدولة الفاطمية – علي الصلابي



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سقراط والديمقراطية العراقية: حين يُعدَم الوعي باسم الحرية
- قيامة الفجر... حين سقطت الجمهورية إلى حضن الغياب.
- من فيصل إلى فوضى.. ومن أتاتورك إلى أتاتوركية!
- -حكاية الحنفيش ومجزرة الذاكرة الانتقائية-
- -حينَ صارَ العيدُ مأتماً في الحويجة-
- دمعةُ الغبار
- -الهلال الملوث: كيف صدّرت إيران ثورتها من خيوط العمامة إلى ج ...
- حين مزّق كسرى الرسالة: سُقوطُ العرشِ وتوريثُ الحقد — من تمزي ...
- -من الرقص على التكتك إلى السقوط من رفوف الوعي-
- لماذا بنو أميّة تحديدًا.
- -ديمقراطية على ضوء القمامة.. وحبر الانتخاب في يد السنونو!-
- -منفى الرمق الأخير-
- هاتف الثلج.. الناطق بلسان وطن لا بلسان سلطان.
- -ضباب لم يأتِ-
- السرير الكَمّي: بين وهج الوعد الكوني وسكون الحقيقة العلمية-
- -الجيب العراقي... الحبل السري لاقتصاد طهران-
- العيد الذي غادرني
- بهرز… حين يصير النسيم تاريخًا ناطقًا بحضارة الألف عمر.
- كردستان... حيث يولد السلام من رحم الجمال
- حين تبتلع الأرض أبناءها... دجل الوطن وضياع القضايا-


المزيد.....




- مصادر إسرائيلية وأمريكية تكشف لـCNN -المدة التقريبية- للعملي ...
- أول تعليق من عبدالملك الحوثي على الضربة الإسرائيلية بإيران و ...
- إيران تضرب إسرائيل بصواريخ -الحاج قاسم-.. ماذا نعلم عنه؟
- -فارس-: بعض الصواريخ التي قصفت تل أبيب فجر اليوم مزودة برؤوس ...
- محاكاة ثورية تكشف إمكانية -خلق- الضوء من العدم
- تكتيك هجين سلاح واشنطن ضد الصين
- خبير يكشف الأهمية الاستراتيجية لتطوير البحرية الروسية
- الهجوم الروسي الصيفي، بدأ!
- صراع الجبابرة في أمريكا
- -يسرائيل هيوم-: فرق الطوارئ تقيم مركزا لاستيعاب القتلى في من ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - -وصار جلده رسالة-