أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - في التَّاريخ الذي كُتب بالذهب والدم: نقد المركزيَّة الأوروبيَّة














المزيد.....

في التَّاريخ الذي كُتب بالذهب والدم: نقد المركزيَّة الأوروبيَّة


محمد عادل زكى

الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 04:50
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ليست الهيمنة الأوروبيَّة على العالم، منذ نهضتها الحديثة، مجرد تفوُّق تقنيٍّ أو عسكريٍّ أو اقتصاديٍّ، بل هي في الأساس هيمنة رمزيَّة، ومعرفيَّة، وتاريخيَّة، ولغويَّة، أي هيمنة على الإنسان من حيث هو كائن تاريخيّ/ ثقافيّ فالحضارة الأوروبيَّة لم تكتفِ بالانتصار، بل احتكرت معناه، ومحت من الوجود التَّاريخي كل ما، ومَن، لا ينتمي إليها أو يمر عبرها. إنها حضارة استبطنت التَّفوُّق لا كواقع ماديٍّ فحسب، بل كـحقٍّ معرفي يجعل منها المرجع الوحيد الممكن لقياس الإنسانيَّة. لقد أنتجت أوروبا "علمها" الحديث، لا من خلال حوار معرفيّ جدليّ مع الحضارات الأخرى، وإنما عبر فصل معرفيّ قسري بين ما يُسمى "العقل الأوروبي" و"الشرق الأسطوري". فتاريخ العلم يبدأ في السردية الأوروبيَّة باليونان، ولكن ليس باليونان الَّتي كانت ضِمن الفضاء الشرقي، الممتزج بالفكر المصري والبابلي والفينيقي، بل باليونان المبتورة عن جذورها الشرقية، والَّتي، بالتَّالي، قدّمت في إطارٍ "غربي نقي"، كأنما الفكر ولد خالصًا، عقلانيًا، ويونانيًا، وأبيض! هكذا، أعادت أوروبا تركيب الزَّمن، وجعلت من تاريخها تاريخًا عالميًّا، ومن لحظاتها الكبرى، مثل عصر الأنوار والثورة الصناعيَّة، مفاصل لتاريخ الإنسان كلّه، دون اعتبار لغيرها من التواريخ. لا بل، جعلت من تاريخ الشعوب الأخرى مجرد ظلٍّ لتاريخها، وأعادت تأريخ العالم المُستَعمَر انطلاقًا من لحظة استعمارِه، فكأن هذه الشعوب لم تكن شيئًا قبل دخولها سجلّ الهيمنة. فالهند لم تكن حضارة عريقة، بل كانت "أرض العجائب المتخلفة"، وأفريقيا لم تكن سوى "قارة بلا تاريخ"، والعرب لم يكونوا إلا بداة في صحراء حارقة، حتى أضاءت عليهم "أنوار الغرب". بهذا الشكل، أصبحت السردية الأوروبيَّة هي السرديَّة الوحيدة المسموح لها بالكلام باسم الإنسان. فهي الَّتي تعرِّف "الحداثة"، و"الدين"، و"العلم"، و"الحق"، و"الحرية"، و"الهوية"، و"المعنى". أما ما يخرج عن هذه القوالب، فهو إما فلكلور شعبيّ، أو تخلّفٌ يجب تخطِّيه. والأخطر من ذلك أن أوروبا المنتصرة لم تفرض مفاهيمها فحسب، بل أقصت وألغت حضور غيرها من الشعوب من سجلّ الذاكرة الجماعية للبشرية. فالدين لم يعد تجربة روحية متعددة المشارب، بل صار "المسيح الأبيض"، بملامحه الأوروبيَّة، يتصدَّر كل تمثُّل للإله، في حين أُقصيَ يسوع التَّاريخي، الشرقي، والفقير، والثَّائر. فاللاهوت تحوّل إلى أداة إمبريالية، تُمجِّد شعبًا مختارًا جديدًا هو الإنسان الأوروبي، وتُقصي كل ما هو غير أوروبي على أنه وثني، أو غامض، أو غبي، أو شرقي! وكذلك السياسة، فهي رواية أخرى من روايات التفوُّق المقدس. فالديمقراطية الأوروبيَّة لا تُقدَّم باعتبارها أحد النماذج الممكنة في التَّاريخ السياسي، بل كالنموذج الوحيد العقلانيّ والمتحضِّر. وكل ما عداه من نُظُم، سواء كانت ملكية شرقيَّة أو مجتمعات بلا دولة أو تنظيمات بدوية أو تقاليد شورى أو إمارات مدنيَّة أو مجالس قَبَلية، يُعتبر انحرافًا عن "الخط التقدمي للحضارة". هكذا احتكرت أوروبا صورة المستقبل، إذ لم تكتفِ باحتكار الماضي. أما اللغة فقد صارت بدورها أداة استعمار: فالإنجليزيَّة والفرنسيَّة والألمانيَّة ليست فقط لغات أوروبيَّة، بل لغات "الحداثة"، و"الجامعات"، و"العِلم"، و"الاقتصاد"، و"العقل"، بينما صارت العربيَّة والسواحيلية والفارسية والأمازيغية... مجرد لهجات، تراثية، عاطفية، لا تصلح للبحث، ولا تصلح للسياسة، ولا تصلح "للحداثة". أمَّا الثقافة، فأُعيد تعريفها أيضًا ضمن حدود القابلية الأوروبيَّة للفهم. صار الفن، مثلًا، هو اللوحة الأوروبيَّة، وصارت الموسيقى هي الأوركسترا، وصارت المسرحية هي التراجيديا الإغريقية المعاد إنتاجها على الخشبة البريطانيَّة أو الفرنسيَّة. وكأنَّ الإنسانية، كلّها، لم تُنتج شيئًا ذا قيمة إلا ما أقرَّته الأكاديميات الأوروبيَّة. أنا لا أتحدث هنا عن هيمنة عسكرية أو اقتصادية فقط، بل عن نظام رمزي متكامل يُنتج العالم ويُعيد تعريفه وفق مصالحه ومقاييسه. وهذا بالضبط ما يجعل من نقد هذه المركزية الأوروبيَّة مهمَّةً مزدوجة: فهي من جهة تفكيكٌ لأسطورة التَّفوق الأبيض، ومن جهة أخرى تحريرٌ للمعرفة من استعمارها. إبتداءً من إيمان راسخ بأن الإنسانية لا يُمكن أن تتقدَّم ما لم تُصغِ لتاريخ من نُهِبَتْ حياتهم، لا تاريخ من نهبها.



#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهيمنة بالفائدة: الرأسمالية حين تُدير العالم كخزينة خاصة
- هيمنة التداول وأزمة الاقتصاد المتخلف
- الآلهة الجديدة: الرَّأسمال، والسُّوق، والإمبرياليَّة
- رامساي (1789- 1864)
- خدعة البريكس: قراءة نقدية في وهم الاقتصاد السياسي الجديد
- استبداد السلطة في الأنظمة العربية: جدلية القمع والتخلف
- عن التخلُّف وإعادة إنتاجه
- في مواجهة الاقتصاد النفطيّ المُقدّس
- الطَّبقة الْوسطى العربيَّة: صراعات الهوية وتصدّعات الحداثة
- الطبقة المستحيلة: أزمة العامل العربيّ في اقتصاد تابع
- وليم بتي (1623–1687)
- ريتشارد كانتيون (1680–1734)
- النيوكلاسيكية: نهاية الاقتصاد السياسي وبداية وهم العلم المحا ...
- فرنسوا كينيه (1694 – 1774)
- ما بعد الاحتلال: الصراع العربي/الإسرائيلي كأزمة حضارية
- التاريخ كصيرورة: في نقد الثبات والوهم في الوعي الاجتماعي
- منابر الصمت: المدارس والجامعات بين الطاعة والمعرفة
- النيوليبرالية العربية: عن عبودية السوق واستقالة الدولة
- في مدارات التبعيّة: الاقتصاد كإعادة إنتاج للفقر
- الجامعة كآلية لإعادة إنتاج الطاعة


المزيد.....




- مظاهرات لوس أنجلوس.. كاميرا CNN ترصد ما حدث باشتباكات الشرطة ...
- وسط ضجة أوامر ترامب.. ما قد لا تعلمه عن الحرس الوطني بالجيش ...
- الدفاع الروسية: نقل الدفعة الأولى من جثث الجنود الأوكرانيين ...
- موسكو تسقط عشرات المسيّرات الأوكرانية وتوقعات بردّ روسي -غير ...
- الخارجية الروسية لـRT: أوروبا تختار المعاناة من أثر العقوبات ...
- الجيش الإسرائيلي: غارة تستهدف عنصرا في -حماس- جنوبي سوريا
- الجيش الإسرائيلي يعلن موعد انتهاء عملية -عربات جدعون- في غزة ...
- أمين كبار العلماء بالأزهر يرد على إبراهيم عيسى وحديثه عن قصة ...
- ترامب يشكر الحرس الوطني على إخماد الاضطرابات في لوس أنجلوس ( ...
- مسؤولة ألمانية: نحتاج 3 سنوات من التسلح المستمر لمواجهة -اله ...


المزيد.....

- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - في التَّاريخ الذي كُتب بالذهب والدم: نقد المركزيَّة الأوروبيَّة