|
مذكرات ما قبل الرحيل ج 12
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7310 - 2022 / 7 / 15 - 23:38
المحور:
الادب والفن
هزيمة العقل الديني التقليدي المأمولة بعد أن نستبين طريق الله الحقيقي، وهو طريق العلم الوجودي الذي وضع قواعده وقوانينه الله قبل أن يبرأ الوجود ويضعه على نقطة البدء، ليست عار على أحد ولا هي مس بقيمة الدين ومن قبل مسا بالله، بقدر ما هو أنتصار للحقيقية ببعدها المطلق، البعد الكوني الذي سبق الإنسان في تفكيره بالله أو محاولة فهم الرابطة التي تربطه بالوجود وسر الوجود ومحرك الوجود الأساس، الهزيمة في حقيقتها أمر حتمي لا بد منه قد يتأخر أو يتباطآ لكنه في النهاية سنشهد لحظة أنهيار الأوهام والتصورات الطفولية عما كنا نعتقده قمة العقل المثلى، الزمن لا ينتظر موعد لأن القضية محسومه في النتيجة البعيدة والقريبة، الخسارة تبقى في حساب الإنسان وعلى ما يكتسب من ما ستؤول له النهاية، والربح أيضا سيكون له وبالتأكيد لا بد من ثمن. ربما كلمة الهزيمة مرة وثقيلة على البعض وغير مستساغة في بحث فكري يبشر بعودة العقل لمساره الأفتراضي الطبيعي، لكن لا أجد بديلا عن هذه الكلمة والتي نسعى حقيقة على تحقق الأمر بالشكل الذي ننادي به، نعم هزيمة العقل الديني الذي ما زال مختبئا خلف مقولات التجسيد والتجسيم للقوة الإلهية، ولا نقول للذات الإلهية، فالذات تشير إلى كينونة شيئية بشكل أو بأخر، أما القوة فهي تجلي وجود القدرة على الفعل، والله من منظار الدين القديم الأصلي الوجودي قوة، ليس له يد ولا لسان ولا يحدث أحد ولا يخاطب أحد ولا ينزل في الثلث الأخير من الليل ليتفقد رعيته، ولا يضع قدمه في النار فيقول لها هل أكتفيتي؟ هذا الله الوجودي علم وقوانين ومعادلات لا تخطيء ولا تتوهم ولا تغفل عن وظيفتها. الدين التاريخي البشري من وجهة نظر تحليلية يقوم على ثلاث أتجاهات، الأول ما يعرف بالأخلاقيات التقويمية من التمسك بالصدق رفض الظلم المطالبة بالعدل وأداء الأمانة والوفاء والتراحم ومساعدة الناس، هذه الأخلاقيات هي جزء من ضرورات الشعور بالفضيلة عند العقل السوي، هي مواضيع طبيعية تتسق مع رغبة الإنسان في أن يعيش بحد أدنى من السلام الروحي، هذه الأخلاقيات لا تتعارض مع الدين الوجودي الطبيعي بل هي موجودة دوما حتى مع عدم الألتزام الديني، الجانب الثاني من الدين التي تتعلق بطقوسيات وعبادات حسية مطلوبة على الدوام، الواضع لها والمشرع الأصلي أراد أن يجعل منها أساليب تقويم لدفع الإنسان للأخلاقيات التي ذكرناها، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، إذا أنها طريق أستباقي لمنع الميول المنحرفة. الصوم عادة عبادية تنمي في الإنسان قوة التحمل والشجاعة والشعور بألم الفقراء والمساكين، وتشد هؤلاء أيضا لمزيد من الأنضباط حتى لا يقعوا في وحل الجريمة، العبادات والطقوس ليست مطلوبة لذاتها أبدا بقدر ما مطلوبة للنتائج المفترضة، أما الركن الثالث في الدين والذي يحوي شقين قصص تاريخية هدفها تأكيد المعاني في أولا وثانيا وتوكيد الدلالات منها، والشق الثاني بعض المعلومات العلمية التي صيغت بطريفة أخبارية تجعل الإنسان مستعدا للبحث أكثر في سبيل تأكيد أو نفي الخبر، والأهم أنها معلومات علمية. هذا الدين وفي هذه الحدود هو صورة مصغرة لدين الله الوجودي، أقول مصغرة لأنه عرض تقريبي لنفس المبادئ الأساسية في دين الله العظيم، ولكن لا يمكن في مجتمعات لم تعرف طريق العلم بعد ولم تستوعب أن تشرح لها القوانين الوجودية الحاكمة أن تطرحه كما نطرحه اليوم، لذا فما قام به مؤسسوا الأديان كان محاولة للتقريب والتجريب ليس إلا، المشكلة ليست في هذا الدين لكن في ما شكله عقل الإنسان من علاقات وروابط وأضافات للدين، التصورات الخيالية المبالغ بها والتي طمست حقيقة تلك الأديان، ولو أجرينا مقارنة بين مفاهيم الدين في أول النشأة وما يتعبد الناس اليوم لوجدنا الفارق الهائل من الأختلاف والتغيير والتبديل، للدرجة التي لو عرض أي دين على نبيه الأول لم يعرفه ويكاد ينكره. ما نريده أن يهزم شيئين، الأول نسبة الدين لله على أنه هو الذي أمر وأوحى وقال وكتب وبعث، فالتسليم بهذه الأمور تسخيف للدين والقيم المثالية التي هي عماد العقل الوجدي الفاعل، ومسا بعظمة الله ومنزلته الحقيقية التي لا يمكن أن تنسب لها هذه الأفعال والمحسوسات، إلا من باب التقريب فقط، النقطة الأخرى تنظيف المفاهيم الأساسية للقيم الدينية النبيلة من تدخلات وتصورات العقل التجسيمي التضخيمي المهزوم، فليس العقل السوي هو من يضع الخزعبلات والتفاهات في المنظومة الفكرية الدينية لأنه لا يحتاجها ولا يؤمن بها، العقل المهزوم هو الذي بحاجة للتغرير والتزييف واللف والخداع ليقنع من لا يؤمن بها حتى يصل مراده، هذان العنصران يجب أن يسقطا من فكرة الدين الكلاسيكية عندها من السهل جدا أن يظهر دين الله الطبيعي من غير كتب ولا نظريات وتفسير وفقه ورجال دين، لأن الدين الوجودي الطبيعي في متناول العقل بلا واسطة، ولا بحاجة سوى لعين العقل التي ترى الأشياء كما هي دون إشارة من أحد أو تنبيه. إن المساهمة في تجديد فهمنا للدين وتحديدا من خلال ربطه بمفهوم الطريق إلى الله، سينقذنا من مجموعة شائكة من التساؤلات والإشكاليات التي تتجدد وتتطور مع كل ظهور لدين جديد، السبب أن جعل الدين محدود بدائرة الوعي بما موجود يقلص من حرية حركته داخل العقل البشري، الدين بمعنى الطريق لا بد أن يكون واضحا تماما لمن يريد أن يسلك هذا الطريق، فالأحتمالية والظنية والغيب مفردات يمكن أن تكون هذرا للتغطية لعجز فكري عقلي عملي في حينها، ولكن مع المنجز العلمي وفتح أفاق الوجود بدون حواجز لم تعد تلك التبريرات والمقولات ممكنة أن تغطي حاجة الإنسان للفهم. إذا علينا أولا أن نفهم معنى الطريق بشكل لا لبس فيه ولا تأويلات متعددة، ثانيا قطع الصلة بين الإنسان وصنع الطريق لأنه أصلا الدين كطريق كان موجودا قبل وجود الإنسان، بمعنى أن الحقائق المطلقة التي تشكل جوهر الدين الطبيعي الوجودي موجوده حتى قبل أن يتحرك الوجود حركته الأولى، فكيف لنا أن ننسبها لزمن متأخر، ممكن أن نقول عن رواد الدين الأوائل مكتشفين بفطرتهم أو من التجربة، وربما ساهمت عوامل أضافية في أستحضار الصورة التقريبية للدين في عقولهم، وهذا أقصى ما يمكن طرحه كتبرير، ولكن لا يمكن أن نسلم بما عدى هذا الحال. النقطة الأخرى الجديرة بالأهتمام أن لا نخلط بين الأحترام للأفكار والمفكرين ودورهم المعرفي والأخلاقي في التاريخ الإنساني، عندما عملوا أولئك بما يشعرون من واجب المسئولية جاهدين ومن خلال تقديمه الفكرة الإنسانية على أنها دين، وبين التقديس والعظمة التي صارت متلازمة للمظهر الديني، أولا لأن الأحترام والتقدير المبني على حقيقة الشعور الإنساني لأولئك مهما كانت درجة إيماننا بهم، هي أعلى من درجة التقديس المزيف والتعظيم المبالغ به، ثانيا لأن أولئك الرجال المحترمون لم يطلبوا من أحد أن يقدسوهم أو يعظموهم ولم يكن هدفهم غير الإصلاح والبناء السليم، ثم ما قيمة تقديسهم وتعظيمهم ونحن نعبث بما تركوا من إرث وخربنا كل مشروعهم بالتدخلات الأعتباطية التي تتلائم مع أهوائنا دون أن نقيم لهم وزن الأحترام. الخلاصة التي نسعى لها من خلال إعادة القراءة الكونية للروابط والأواصر التي تجمع الإنسان موجودا لذاته، لكي ينتقل نوعيا من هذه المرحلة الأولية إلى مرحلة التسامي وصنع عالمه الأخلاقي العلمي المعرفي "وجود لذاته"، يتطلب منا نزع الصور القديمة من لوحة إعلانات الحياة، وتنظيف اللوحة الأم من كل ما علق بها من بقايا غير ضرورية، والحرص على أن ينخرط الإنسان بوعيه المتقدم دون أن يعتريه الخوف والشك، نحو عالم الحقيقة الذي لا يمكن أن يتهرأ أو يتمزق مرة أخرى.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج 11
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج 10
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج9
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج8
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج7
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج6
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج5
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج4
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج3
-
مذكرات ما قبل الرحيل ج2
-
من مذكرات ما قبل الرحيل
-
دائرة الفساد من يد ليد معا من أجل عراق فوضوي تحت سقف القانون
...
-
التفكير الفلسفي في منطق التشريع ح1
-
فلسفة التشريع والمشرع
-
التشريع نتيجة كبرى
-
ما بعد الدين ما بعد الشريعة ح1
-
ما قبل الدين ما قبل الشريعة
-
مقدمة في دراسة فلسفة التشريع
-
العراق قادم ح3
-
العراق قادم ح2
المزيد.....
-
كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا
...
-
إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
-
سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال
...
-
الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
-
من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام
...
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|