أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - مذكرات ما قبل الرحيل ج6















المزيد.....

مذكرات ما قبل الرحيل ج6


عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 7306 - 2022 / 7 / 11 - 16:57
المحور: الادب والفن
    


في نهاية عام 1967 أو في خريفها تحديدا رحلت جدتي الكبيرة أم جدتي أو جدة أمي، السيدة الحكيمة التي كانت محل أحترام وتقدير من يعرفها أو تعامل معها، الفترة التي عاشرتها بالرغم من أنه تقارب التسع سنوات لكنها على صغر عمري لم تكن كافية لأن أعرفها أو أدون تأريخها المضيء، سمعت حكايات كثيره عنها يقال أنها كانت من النساء الذي يفرش لهن ركن المضيف، سيدة كانت بمنزلة السيد في قومها مهابة صاحبة منطق لا يدنو منها دان إلا قاصدا حكمة أو راغبا بنصيحة أو تدبير، وبالرغم من أنها تعيش في مجتمع غارق تماما بريفيته الساكنة لكنها كانت امرأة من طراز ما يعرف بالشيخات، تزوجت مرتين وأثمرا إبنا وبنت وكلاهما حمل جزأ منها تشاركا في صفاتها بالتناصف، لا جدي حمل كل جيناتها ولا جدتي بنتها حملت كل جيناتها، منها تعلمت أن الخير طبع أصيل إنما السر هو أن لا تكون طبيعي.
كثيرا ما كانت بطلة أحلامي القديمة ولسنوات حتى انشغل عقلي الباطن بمشاغل التفكير بغيرها وبمواضيع جدت وأستجدت، فلم أعد أحلم بذاك الملاك الأسمر ذا الجلد الناعم الرقيق، أحببت جدتي الكبيرة ليس حب أمهات، بل لأنها كانت في أخر ايامها ضعيفة لا تقوى على الحراك أو خدمة نفسها، لذا كنت الصغير الوحيد في البيت الذي تسأله في شأنها، أجلب لي ماء ... نادي على جدتك.... أحيانا تطلب أشياء تريدها من خارج البيت، أركض مسرعا لأنني أحبها هكذا هادئة وودودة عليها لباس الفخر والتقوى والعظمة أيضا.
كنا أنام قريبا منها في ليالي الصيف على سطح الدار وأسمع تمتماتها ودعائها في كل ليلة، كانت تسأل الله أن تكون "هينة لينة" لا أعرف بالضبط ماذا تقصد بالهينة اللينة لكن سعيد جدا أن أسمع مناجاتها حتى أستغرق في النوم، على سريرها المصنوع من جريد النخل وجرة الماء التي ترافقها منذ المساء الباكر، والطاسة المصنوعة من نحاس أصفر منقوش ومسبحة من طين كربلائي وربما ذكريات تاريخ طويل من الكدح والتعب والمعاناة هو من كان يرافقها في كل ليلة، في إحدى الصباحات نهضت مفزوعا على صوت صراخ وبكاء ونحيب، لقد رحلت الجدة بهدوء دون أن تتعذب فقد سمعت جدتي أبنتها تقول أنها سمعاها تصلي الفجر ثم نامت كالمعتاد، وعندما أشرفت الشمس ذهبت لتحملها إلى الأسفل وجدتها جثة باردة بلا حراك، لقد حقق الله لها أمنيتها "هينة لينة " دون عذاب ولا إزعاج لأحد، عندها أدركت متأخرا معنى الهين اللين.
ظلت ذكريات جدتي تؤرقني اياما طويلا أفتقدها وأبكي ولليوم ولحد ما أنا أكتب سطورها، لا أعرف لماذا تعلق وجداني بها؟ مع أني فقدت الكثير وحتى قبل أن أفهم معنى الفقد، فقد عشت نفس اللحظات مع جدتي أبنتها والتي كانت أم حقيقيه لي، أرضعتني واحتضنتني وعشت دهرا طويلا معها، لكنها لم تصنع بي ما صنعت جدتي الأكبر، حتى أمي وهي اليوم تعيش نفس الحال الذي كانت عليها جدتها جدتي وبنفس الملامح أيضا، لكن تبقى جدتي العظيمة الشرخ الأكبر في ذاكرتي الذي كرهت بسببه الموت والرحيل والفقدان.
لقد تشكلت أولى بدايات التساؤل عندي من يوم فقدت أول شخص أعرفه عن قرب، تمنيت لو أسأل في حينها إلى أين يذهب الأموات؟ ولماذا نحزن عليهم إن كانوا قد ذهبوا وهم مسرورين مرتاحين كما حصل مع جدتي؟ رأيت وجهها في حينها، لم يكن هناك أي أثر لأنزعاج أو تعبيرات حزينة، لا بل كانت نائمة حقيقة بعمق، حتى مسكت يدها وهززتها لأوقظها، فدفعوني وقالوا لقد تنجست، وطلبوا من إحدى النساء تشطيفي تحت ماء الصنبور، لا أعرف كيف تنجست وهذه جدتي التي كنت تقبلها كل يوم وتقيلني ولا احد قال ما اسمع.
هل حقيقة أن الموت ينقلنا من الطهارة للنجاسة لمجرد أننا متنا؟ ماذا فعلنا حتى نتنجس؟ هل الموت هو النجاسة التي يتكلمون عنها، إذا كان الموت نجاسة لماذا لا نتطهر دوما حتى لا يصيبنا؟ كانت تلك أسئلة أولى وتبقى بالرغم من عشرات التبريرات التي قيلت أو تقال بلا جواب مقنع، ولكن يبقى سؤالي الدائم هل الموت بحد ذاته نجاسة طارئة على أبدان مطهرة؟ طالما أنها نجاسة فلماذا يتنجس النجس أيضا بعرفنا إذا مات؟ فالمتنجس النجس المتناجس لا يزيده الموت نجاسة، لماذا إذا يجرون له عملية الغسل والتطهير؟ ربما تكون أسئلتي طفولية في نظر البعض، ولكن تبقى أسئلة منطقية لا بد من إجابة منطقية لها.
التبريرات الدينية صورة من صور حقيقة لا يراد لها أن تكون طبيعية حتى لا يقال أن الوجود محكوم لقوانين أسمى من الدين وأكثر منطقية منه، فالقانون الطبيعي الوجودي يقول أن الأشياء التي تعرض الحياة للخطر أو تشكل ما هو مناغ للذوق الطبيعي يجب أن تعالج بطريقة ما، الجسد الميا لم يعد عضوا طبيعيا بالحالة التي عليه، فقد خرجت طاقته التي كانت تحميه وتجعل منه كائن لا يؤذي الطبيعة، لا يتفسخ لا يتعفن لا يتحول إلى مصدر للأوبئة والأمراض، هنا يجب أن نتخذ إجراء تعقيمي ليس له، لكن للوجود الطبيعي أولا ومنه للإنسان بالنتيجة، هذا مبدأ الدفن ليس إكراما ولا واجبا دينيا إنه واجب وجودي، البعض أختار طريقة أخرى ربما يراها البعض فيها شيء من الوحشية ولكن من حيث جوهر الفكرة واحد، وهو حرق الجثة للتخلص من أضرارها، البعض لا يرى فرق بين الدفن والحرق طالما أن الخلاصة ذاتها، وأنا أرى الدفن مجرد حل بسيط ولكن بالأخر هو مهين أننا نطمرها كما نطمر الفضلات.
حلول الدين أو محاولاته للإجابة على إشكاليات الإنسان وتساؤلاته وحتى نظرياته، لو عدنا في علاتها وربما جوهر الفكرة ذاتها التي خلقت ظاهرة الدين، نجد أنه لا يمكن أن تكون خارج خطوط الوجودية الطبيعية بقوانينها ومعادلاتها، لقد تكلمت فيها سابقا، الدين هو صياغة أخرى لقانون الوجود مضافا لها شيء من الطبيعة الجدلية للإنسان، ربما من السذاجة من الغباء من الخديعة وكثيرا من النسيان والأهم جعلها قوة يستفاد منها في بسط قدرته ليكون بها صاحب ميزة تؤهله ليكون متوهما أنه كائن منفرد.
عندما أقول غباء أعني بذلك أنه لم يفكر في زمن أخر ربما حتى بعد ألاف السنين سيكتشف أن من سن له الدين كان يخدعه، حين نسب الدين لله وليس لأنه قرأ جزء من قانون الطبيعة، الله هو الذي خلق هذا القانون وجعله دين لكل الأشياء والموجودات، ولم يخص به الإنسان وحده لأنه ليس ربا له وحده ولكن الإنسان بغروره يظن أن أمتلك تفكير الرب كله وأستحوذ عليه، فمنح نفسه المنزلة العليا، بل جعل من الله لا شغل يشغله ولا عمل ينتظره سوى أن يراقبه ليصحح له خطواته، وينتظر منه الشكر مقابل أن يتلقى من لدنه كتب ومناهج ورسائل، لينظم بها الكون وكأن الله عاجز أن يفعل ذلك بمفرده، فالله لا يميز بين قيمة الكائن ودوره كما يفعل الإنسان، فالكل عند الله جزء من منظومة لا تستقيم إلا بوجود الكل، وتشارك الكل، والتعاطي الكل بالكل.
لعل الإقرار بأن الإنسان ليس ذلك الكائن المدلل الذي يحظى بحب وتقدير وأهتمام الرب سيخلصنا من عقدة الذنب، هذه العقدة التي ولدت مع ولادة أو فكرة مجنونة أن نضع العلة بدل المعلول ونقدم النتائج على الأسباب، الوجود المنتظم وحتى الذي نراه بمقاساتنا الخاصة فوضوي وحشي لا منطقي هو أكثر منطقية وطبيعية مع القانون الوجودي ومع ذاته ومع مصيره، الحيوانات وقوانينها، الذرات في معادلاتها، الطاقة والمادة في قانونها كل شيء طبيعي يمضي وفقا لخارطة أصولية إلا الإنسان الذي يصف بمثاليته المتعالية أنه هو المخلوق الوحيد الذي صنع بيد الله تحديدا.
الإنسان هو الكائن الفوضوي الوحيد العبثي المتوحش الظالم المتعدي على كل شيس، والذي يريد أن يمشي الوجود وبسوقه بقانونه هو وليس حسب قانون النشأة والتكوين، نسي هذا الإنسان أنه مجرد جزء صغير وصغير جدا للحد الذي لا يشكل علامة فارقة في الوجود، ليس أكثر من دورة وجودية تتكرر وتبدأ كل ما تنتهي من ذات النقطة، وبنفس المنهج وعلى عين الغاية الأساسية، لو فهم هذه المعادلة سيكون طبيعيا جدا لا يختار ولا تصطرب إحداثياته لأنه لا يخرج عن ما هو منطقي.



#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مذكرات ما قبل الرحيل ج5
- مذكرات ما قبل الرحيل ج4
- مذكرات ما قبل الرحيل ج3
- مذكرات ما قبل الرحيل ج2
- من مذكرات ما قبل الرحيل
- دائرة الفساد من يد ليد معا من أجل عراق فوضوي تحت سقف القانون ...
- التفكير الفلسفي في منطق التشريع ح1
- فلسفة التشريع والمشرع
- التشريع نتيجة كبرى
- ما بعد الدين ما بعد الشريعة ح1
- ما قبل الدين ما قبل الشريعة
- مقدمة في دراسة فلسفة التشريع
- العراق قادم ح3
- العراق قادم ح2
- العراق قادم ح1
- ماهيات الحضارة الإنسانية من وجهة نظر أجتماعية تاريخية
- في ظاهرة الإنكسار والبناء النفسي
- تشرين وما بعد تشرين العراق قادم بقوة.
- الرؤية الوطنية لحركة -العراق قادم-
- بيان من حركة -العراق قادم-.


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - مذكرات ما قبل الرحيل ج6