أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - مذكرات ما قبل الرحيل ج 11















المزيد.....

مذكرات ما قبل الرحيل ج 11


عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 7310 - 2022 / 7 / 15 - 04:35
المحور: الادب والفن
    


أمام مكتبي الذي أتخذه مقرا لعملي هناك لوحة أعلانية كبيره بحدود ثمانية أمتار عرضا في أربع أمتار أرتفاعا، تتخذها إحدى الشركات الإعلانية كمصة للإعلان عن منتوجات أو للترويج لسلعة ما، راقبتها فترة من الزمن وأنا أرى في كل أسبوع يأتي عمال شباب يبدلون الإعلان القديم بواحد غيره، في بعض الأحيان يضعون الإعلان الجديد فوق الإعلان القديم أحتسابا لتجديد الإعلان عن القديم، وأحيانا يزيلوا القديم ويرمون به على سطح البناية، الشيء المحبب عندي عندما ينتزعوا الإعلانات فتظهر اللوحة الإعلانية عارية بلا عنوان ولا لون ولا هدف، كأنها تقول أن أصل الأشياء هكذا تبدأ، أني أقرأها كالفطرة فهي أصيلة عندما تكون اللوحة عبارة من قطعة الحديد الأساسية، التي تعيدني في كل مرة إلى فكرة الطارئ والثابت؟.
في زيارة لصديقي في بيته قبل سنوات كانت هناك صورة جدارية مرسومة على قماش لجده أبو أبيه، صورة جميله في مقاييسه وربما اعجبتني، المشكلة أنها تعرضت للتلف أكثر من مرة، أخذها عدة مرات لشارع المتنبي في بغداد لغرض إصلاحها ومعالجة التلف الذي أصابها، لكن في المرة الأخيرة لم يوفق في ذلك، بل زاد التلف للدرجة التي تجعل منها لوحة لا تصلح للعرض أصلا، أقترحت كما أقترح غيري عليه أن يكلف رسام بإعادة رسم الصورة على مادة أخرى قد تكون أجمل، لكن إصراره على أنها ذات قيمة أثرية عنده وتشكل نوعا من الذكريات الجميلة التي لا يستطيع التفريط بها، لذلك هو يصر على بقائها كما هي، في زيارة الأخيرة له كرهت اللوحة تماما فقد تحولت إلى لوحة من البشاعة الممجوجة وقررت أن لا أنظر لها أبدا.
بين اللوحة الإعلانية وبين اللوحة المرسومة في دار صديقي مسافة من الوعي الدلالي، ومسافة من الفهم المترتب من قيمة كل منهما والعبرة فيهما، فاللوحة الإعلانية تقول أن كل طارئ راحل طالما أن هناك طارئ أخر أقدر على الأستحواذ، المسألة لا تتعلق باللوحة بقدر ما تتعلق بالوظيفة التي تؤديها كأداة أو وسبة لغاية أبعد، العلم المعرفة الثقافة الأخلاق الدين كلها إعلانات تعلق على لوحة الأيام، فتراها وننحاز حسب التأثير لمن يكون الأكثر قدرة على الأستحواذ بالوعي المباشر أو حتى باللا وعي، المهم مبدأ من يزيح من ومن هي القوة التي تتحكم بالإزاحة هنا نبحث عن أهم العوامل، أما ما يتعدى ويتجاوز تلك العوامل فقد لا يكون ملاحظا إلا بتأثير بسيط يعود لعوامل أخرى لا تتصل باللوحة ولا بالموضوع، ولكن بالحاجة أيضا طالما أننا نتكلم عن الفعل ورد الفعل.
الواقع الذي نعيش فيه تماما يشبه ما في لوحة الإعلان وما يعلق فيها، ليس فقط مزاج الناس وما يريدون أن يرونه ولكن اتكلم عن القوة أو الجهة التي تصنع أو تساهم في بلورة وإخراج هذا المزاج للعلن، لوحة الإعلان جزء من منظومة رهيبة ذات أليات ومناهج وقدرات وتخطيط وتمويل ووو كي تصنع واقع تريده هي، واقع مزيف موهوم غير حقيقي لا يعبر عن جوهر الحركة داخل المجتمع، هذا الأمر لا ينطلق فقط على التجارة والمال والأقتصاد والتسويق، بل له جوانب أخرى في مجالات حساسة وربما أساسية ومن محركات المجامع وصانعي القيم فيه، منها مجالات الثقافة والمعرفة بشكل عام والدين بشكل خاص جدا، فكلما كثر ضجيج والأزيز في جهة ما في المجتمع هذه دلالة على فساد ينخر فيها، وإلا الأمر الطبيعي يتسلل بهدوء وشفافية للعقول دون أن نشعر لأنه فقط طبيعي ومساير للطبيعة.
اللوحة الأخرى التي في بيت صديقي تقول حكمة أخرى، أن الزمن عندما يبتلي الأشياء ويبليها فليس من المعقول أن نتمسك بصورتها الأولى، وأنا الآن وقد تجاوزت الستين من عمري وعندي صورة وقد كنت طالبا في الجامعة في أوائل العشرينات من عمري، صحيح أنها جميلة وذكرى تعيدني لتلك اللحظات ولكن لا يمكن أن تكون عنوانا لي الآن أو مصداق لصورتي الحالية، التمسك بأن من في الصورة هو أنا الذي في ما بعد الستين مجرد وهم، الصورة تحكي عن زمان مر ولن يعود وحال من المحال أن يتجدد، إذا صورتي الحالية هي من أنتمي لها الآن وأحسبها عنوانا لي، صديقي لا يفهم هذه المعادلة مصرا على الصورة البالية تلك هي جده بشحمه ولحمه، البعض أيضا ينحاز لأفكاره وعقيدته المعلقة في عقله بالرغم من أنها أصبحت بالية، لكنه واقها وبالرغم من انه يعرف أنها لم تعد حية ولا من الممكن أن تمثله بروح العصر ومنطقه، إلا أنه لا يمكنه المغادرة والتجديد لأنه ينتمي لها، أي ينتمي لزمنها وليس لهذا الزمن.
من خلال ما يطرح كشهد اللوحتين أدركت مسألة في غاية الأهمية ربما لأنها تمسني عن قرب، فقد أشتغلت لمدة تقارب الربع قرن الأخيرة من عمري في موضوع الإصلاح الديني أو ما بعرف بالتنوير، كتبت ونظرت وجادلت وقد أخترقت الكثير من حقول الألغام الفكرية في محاولة الإصلاح، هذا جهد ليس بالهين وخاصة في مجتمع ينظر بريبة لكل محاولة تقترب من عقائده وإيمانه على أنها غزوة وحرب وأعتداء على أعلى القيم، ومع ذلك تحملت الكثير والكثير منه بألم وبصمت ودون أن أرسم طريقا للتراجع، المشهدان هما من أثارا في عقلي ضرورة فهم ما أنا منخرط فيه، تذكرت أيضا من حكايات جدتي أنها كانت تحكي لنا عن قصص نتسلى فيها أيام لم يكن فيها تلفاز ولا حتى جهاز راديو، القصة بمضمونها عن رحلة مجموعة من التجار وضعتهم الظروف في مغارة وقد أغلقت أبوابها بالحجارة، فلم يعد لهم لا مخرج ممكن ولا ضوء، فجلسوا يتناقشون فيما بينهم عن طريقة ما، في أخر الأمر أهتدوا إلى إشعال النار داخل المغارة، وصار هناك ضوء فرحوا جدا به، لكن حكيما كان معهم قال زبدة الكلام، "ما فائدة الضوء والفرحة ونحن في مكان لا يمكن الخروج منه إلا إذا أردنا أن نرى كيف نموت".
كانت كلمات ذلك الحكيم تتردد في صداها وأنا أراجع مشواري الفكري الطويل وما أنجزت وأردد معه، " ما فائدة التنوير في دين لم يعد حيا ولا يمكن أن نبعث فيه روح، فالموتى إنما يموتون مرة واحدة ولا تنفع عمليات التدليك وأعطاء الدواء"، التنوير ربما يمكن أن يعيد للعقول قدرتها على التفكير مجددا في كل شيء، ويمكن أن نصحح في بعض الأفكار وننجح، ولكن حينما يكون التنوير بعيدا أو غائبا عن بحث أصل الفكرة ومن جذورها الأسية لن يكون تنويرا ولا تجديد إنه إصلاح ما تهرأ فقط، هذا ليس تنويرا بل ترميم صورة متهرئة كصورة جد صديقي، وتماما كلوحة الإعلان ننزع صورة ونضع بدلها أخرى لكن الموضوع هو ذاته، مجرد إعلان وربما يكون غير صادف أيضا.
حركة التنوير في عالمنا اليوم لا تتعدى ممارسة النقد والتزويق لمنطق الفهم الديني وتحميل العقل الديني المزيد من القيود، فلو سلم العقل بمقولات التنوير بالتأكيد لا يمكنه محو الصورة القديمة من وعيه القديم، فهو بالكاد يغطي الصورة تلك بصورة جديدة لديها من يرغب بها ولديها من يدفع بأتجاهها، ومن لم يؤمن بمقولات التنوير سيشعر أنه يتحدى منطق التغيير وسيجد نفسه محاطا بتساؤلات رهيبة كلما يهرب منها يحدها تلوح أمامه، وفي النتيجة أشغلنا أنفسنا في قضية فرعية وتجنبنا الخوض بأصل المشكلة وهي السؤال الأهم هنا، هل أن ما بين أيدينا من دين وقيم إيمانية يمثل ولو بشكل نسبي حقيقة الطريق إلى الله؟ هل فعلا نحن نريد السير إلى الله عبر ما وضعه هو لا ما هو تصورنا نحن أنه وضعه هو؟ ماذا لو أتضح أن ديننا لم يكن إلا مجرد خرافة في قبال العلم وحقائقه؟ هل نكفر بالدين أم نكفر بالله؟ هنا المأزق وهنا تكمن تفاهة التنوير ومنطقه الذي يمثل تماما رأي صديقي صاحب الصورة البالية ومحاولاته في إصلاحها بالرغم من أن الإصلاح أضر بها أكثر مما أفادها.
لم تنجح كل نظريات الإصلاح التنويري في أداء دورها الجزئي في إصلاح العقل الديني الإنساني لولا الإنجاز العلمي المتحقق في غالب المجالات التي تمس حياة الناس، ولو ألقينا نظرة فاحصة لكل تحولات في الفكر الديني التي أنجزها النشاط التنويري قديما وحديثا لرأينا قيمة الفاعل العلمي، وخاصة في أوربا التي شهدت أكبر عمليات التنوير في العالم المعاصر، ولولا عصر العلم والثورة الصناعية والمنجز الأكاديمي الرصين الذي قاده العقل التجريبي المادي الذي بنعت دينيا بـ "العقل الكافر"، لا يمكن لرواد التنوير أن يتقدموا خطوة واحدة أمام قوة الكنيسة الأوربية وحليفها الحكم المطلق، في العالم الإسلامي والذي شهدت محاولات فيما تبدو خجولة ومحدودة في عملية الإصلاح والتنوير، لم تستعين بنفس العامل الذي ساند حركة التنوير الأوربية، وعاش على ترديد المقولات الغربية منقطعة عن بيئتها وظروفها وعلاتها وأسبابها، لذا لم تحصد النجاح الذي حصدته حركة التنوير الأوربية، فهي تماما مثل خوض معركة في الصحراء وفق خطط لواقع جبلي أو بحري ونريد أن نحقق النصر لأننا فعلا نخوض معركة، الفكر التنويري الإسلامي بقي يدور في النقد الشخصي وتقصي عثرات العقل في التفسير والتصوير والتعليل فقط جون أن يتجرأ للبحث في جذور عقيدة هذا العقل وكيفية التسليم بها.



#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مذكرات ما قبل الرحيل ج 10
- مذكرات ما قبل الرحيل ج9
- مذكرات ما قبل الرحيل ج8
- مذكرات ما قبل الرحيل ج7
- مذكرات ما قبل الرحيل ج6
- مذكرات ما قبل الرحيل ج5
- مذكرات ما قبل الرحيل ج4
- مذكرات ما قبل الرحيل ج3
- مذكرات ما قبل الرحيل ج2
- من مذكرات ما قبل الرحيل
- دائرة الفساد من يد ليد معا من أجل عراق فوضوي تحت سقف القانون ...
- التفكير الفلسفي في منطق التشريع ح1
- فلسفة التشريع والمشرع
- التشريع نتيجة كبرى
- ما بعد الدين ما بعد الشريعة ح1
- ما قبل الدين ما قبل الشريعة
- مقدمة في دراسة فلسفة التشريع
- العراق قادم ح3
- العراق قادم ح2
- العراق قادم ح1


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - مذكرات ما قبل الرحيل ج 11