تفكيكية دريدا بين الفرادة في الإبداع وطبيعية المعرفة الإنسانية. ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6169 - 2019 / 3 / 10 - 11:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

يقول الدكتور جاسم بديوي في ملخص بحثه عن التفكيكية ورائدها جاك دريدا (التفكير السياسي في فلسفة جاك دريدا)، أن هذه الفلسفة اللا فلسفة عبارة عن تفكيكات نوعية تتغاير وتتنوع حسب الموضع الخاضع أصلا للعبة التفكيكية، فهناك التفكيكية السياسية وهناك التفكيكية السردية وووو ألخ ، وبالأخر هي عبارة عمليات فلسفية تتأثر لحد ما بالموضوع نافيا عن التفكيكية صفة المنهج والتصور المسبق ذي القواعد الصارمة كبقية الفلسفات المعاصرة والتقليدية، فالمنهج عند ديردا كما يقول الدكتور بديوي هو خضوع وإرث ميتافيزيقي مهيمن وفخ لم تنجو منه كل التجارب الفلسفية.
ويمضي الباحث في دراسته لأستطلاع جوانب مهمة من التفكيكية محاولا تسليط الضوء على زوايا شهدت تناقضات تقيمية ضد أو مع دريدا في فهمه لها كونها لم تتفق في طرحها على موقف واحد، وهذا من الطبيعي أن الأفكار الإنسانية ليست معصومة عن النقد ولا يمكن أفتراض أنها تحصل على إجماع ما مهما تكاملت وأتسعت لتحتوي إعجاب وتصديق وحتى أعتناقها من قبل العقل الإنساني بتنوعه وأيضا بتردده المعهود، لكنه مثلا يصف دريدا بالوسط اللا وسيط نافيا عنه الحيادية العمياء في قضايا تشكل محور إهتمامه وهو الجمهور فيقول (ولا يخفى كيف يموقع دريدا نفسه وسطا لا وسيطا بين الجمهور والسلطة منطلقا من نقطة الإصلاح والمسئولية، بكل ما يحمله الإصلاح من دلالات هاملتية أزاء الفوضى والتدليس والفساد المستشري في العالم)، هنا يؤشر الباحث بديوي ما يعتبره مفتاح الأنتقال للتفكيكية السياسية ضمن أستراتيجية دريدا اللا منهجية نحو الفكر عموما.
إن الأستغراق في جزئيات وتفصيلات أي فكر وكأنها جزيرة مقطوعة في محيط تتناثر في الجزائر هنا وهناك لا يمكن أن ينفع السيرورة المعرفية، وقد لا يمت بصلة لواقع المعرفة والفكر، صحيح أن بعض الأفكار لها هوية مميزة ولها تأثير جارف أحيانا كالماركسية والداروينية وقد كسبت في تاريخها الكثير من الأصدقاء والأعداء مما جعل لها حضورا قويا في الوسط الفكري والمعرفي، ولكن لو تفحصنا هذه الأفكار بتجرد وحيادية مع بقية الأفكار البشرية نجدها تشترك بجسور وعلاقات تشابكية تمتد منذ فجر الوعي وقد لا تنتهي في مدى منظور، السبب يعود إلى طبيعة الفكر الإنساني وطبيعة العقل الذي ينتج هذا الفكر، وقد تكون كل هذه الأفكار مكنونة في العقل البشري الواحد ولكن مستدعيات الواقع ومقدمات التكوين وعوامل الصيرورة والسيرورة هي التي تنجح في توالدها وظهورا حينا ومكانا، حتى ما يعرف اليوم بعصر ما بعد الفلسفة وعالم ما بعد العلم والمعرفة قد يكون له قواعد وأسس في أكثر الأفكار سلبية وسلفية وتقليدية، وهذا ليس بمستغرب لأن العقل الذي ينكر بل ويحرم التطور والتجديد مثلا لوجوده في الواقع قوة حافزة ودافعة لظهور الضد النوعي له، فكلما أشتدت ظلمة الأفكر يتلألأ شوء الشمعة الخافت الشاحب ليكون علامة ودليل للباحثين عن النور.
اللغة الثقافة الفكر والسلوك المجتمعي للافراد داخل الكيان الاجتماعي ليست صناعة منتخبة لذاتها بموجب قالب وتصور مسبق، ولا هي قرار محض يتخذه الإنسان كمجتمع يريد بناء وفق نموذج محدد وعلى ضوء منهج واحد للوصول به إلى حالة عامة، بل هي في الواقع سمة لفسيفساء الوجود الطبيعي للإنسان متأثرا بما هو فيه وعليه في عملية تبادل وتناوب وتراكم ونقد مستمر، من هنا مثلا يمكننا تفسير الهوية المجتمعية لأي مجتمع على انها تحصيل طبيعي لعمليات متداخلة متعاقبة بأطوار وأنساق ومحمولات ضمن سيرورة زماكانية تمتزج فيه الأسس والأنفعالات والتفاعلات الذاتية مع الدوافع والمحفزات والمؤثرات والفواعل الموضوعية المحلية، لتشكيل بالنهاية مظهر مركب متفاعل ومتشارك يمنح المجتمع صورته الواقعية ويمنح الفكر هويته.
هذا الفهم على بساطته وشموليته وإتساعه ينفي عن الأفكار صفة الطفرات الإعجازية التي تشبه النبؤات التي تأت من عالم الغيب وكأن المجتمع ينام على واقع معرفي ليصحوا على فكر منقذ، فكر يحمل كل ما هو منقطع عن تاريخه وتجربته وإرثه العام، مع ذلك نقر بأن بعض العقليات العبقرية قد تصطاد من هذا الواقع عوامل إبداعها ونهضتها في الوقت الذي لم تلحظه ولا تلاحظه بقية العقول بالرغم من إشتراكها في وحدة الحال والمكان والزمن، وهذا أمر طبيعي لا يمكن إنكاره، فلسنا مجتمع عباقرة وأنا أتكلم عن الإنسان مجردا ولا مجتمع أغبياء لا يهمهم من أمرهم ووجودهم إلا ما هو ضروري حتمي للمداومة على ذات الحال دون تغيير أو حتى محاولة فهم لماذا يجب علينا أن نتغير أو نستكشف.
نعود إلى تفكيكية دريدا والذي أخذت حيزا مهما من الدراسة والنقد والفهم فهي بالأخر محاولة فكرية ناضجة تريد من خلال مقولاتها أن تخترق البناء اللغوي وصولا لخرق البناء الفكري لبلوغ جوهرية كبرى داخل ما لم تستطيع اللغة ولا الفكرة ذاتها الوصول إليها، التفكيكية تعني أكتشاف هوية الفكرة من خلال حامل اللغة الذي هو أكبر من أن يكون وسيطا ناقلا لها فقط بدون أن يكون مشارك وصانع وخالق، بل هو تجسيد لوعي الفكرة وترجمة من الصورة الذهنية الخيالية إلى الشكل القادر على الوصول والتشكيل والتأثير في عقل الأخر، اللغة ليست وسيطا محايدا بل لاعب أساسي في تسديد الكره داخل الهدف المراد، وبمقدار ما تتسع اللغة لهذا الدور وتنجح فيه تستطيع أن تثبت هويتها وقدرتها على أن تحمل أكبر وأكثر من فكرة، من هنا يقول بعض علماء الألسنية إن قدرة اللغة على التطور والتحديث والتأثير مرتبط دوما بقدرتها على حمل أكثر من فكرة أو تفكير داخل إطار واحد، هنا يأت دور التفكيك ليمارس دوره في البحث عن التعدد والتلون والبحث عما هو في جوهر النص وخلفه وقبله وبعده وما بعد بعده.
إذا التفكيكية في فلسفتها لا ترتبط بالنوع الفكري أو الإبداعي أستنادا لماهية الموضوع، بقدر ما ترتبط بقدرة النص وقوته وما بثيره من إشكاليات على الواقع وفي الواقع، من هنا أيضا نجد أن مفهوم التفكيكية الفلسفية والتفكيكية السياسية ليست وليدتا موضوع الفلسفة والسياسة لذاتهما، ولكن لإن الفلسفة حينما تتحول لنصوص سردية للفكرة تحمل عمقا مبالغا فيه أحيانا وأحيانا تحمل بعدا طوليا في تسطير الفكرة تحتاج معه إلى التفكيك حتما حتى تبلغ ما يعرف بجوهر الفكرة الفلسفية، كذلك التفكيكية السياسية تحتاج إلى التبضيع والنقد والتحليل وصولا للتفكيك لإن الفكر السياسي ليس فكرا أحاديا منعزلا بخصائص محددة، الفكر السياسي مجموعة متكاملة من المؤثرات والعوامل الصانعة والدافعة والمؤسسة التي ترتبط بغايات متعددة الأطوار في الصيرورة، وأيضا مرتبطة بشبكة من المصالح التي تتناقض أحيانا وتتألف أحيانا أخرى، هذا التركيب المتشابك والغير متسق بقالب واحد يحتاج إلى التفكيك وإعادة هندسة الفكرة السياسية بناء على ما يملكه التفكيكي من فن في إعادة هندسة المشهد وبيان ملامحه العامة والخاصة بشكل بارز وواضح للدارس والمتابع.
إذن من حدد الوصف للتفكيكية ليست ماهية وشكل الموضوع المدروس أو المطروح للدراسة، بل وظيفة التفكيك هي التي تدخلت وصنفت مجازا أنواع التفكيك وألوانه التي يقول البعض من دارسي جاك دريدا أنها أنواع مختلفة لا يربطها نسق ولا تخضع لمنهج محدد في أداءها الوظيفي، الوظيفة هنا تلعب دور الدليل من خلال ما يحمل النص من قوة وقدرة على الخضوع للبحث، النهر الصغير عادة يكون للبعض مثل الكتاب المفتوح يعرف أسراره وتعرف تركيباته، هذا البعض الذي خبر النهر الصغير ليس بالضرورة أن يكون قادرا على أمتلاك نفس الكمية والنوعية عن أسرار نهر أخر أكبر من الأول وأعظم في مساحته، وهكذا تتناقص القدرة على الأمتلاك كلما توجهنا إلى البحر وصولا للمحيط الذي لا يدع أحدا ما أمتلاك شيء يسير من كل أسراره، بل غاية ما يعرفه بعض البعض أسرار جزئية تتعلق أحيانا بجزء من المكان أو جزء من الحال، هذا المثال يبين أن النص كلما كان عميقا متسعا ذا شطئان متباعدة أحتاج للتفكيك ليس فقط لأنه كذلك ولكن لكونه يحوي أسرارا وأفكار تولد أفكار في سلسلة تتنامى وتتطور مع كل عملية أستكشافية مهمة.