أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حينما يجرح الحرفُ وجهَ المقدّس — تأملات في جحيم الحرية الأدبية..














المزيد.....

حينما يجرح الحرفُ وجهَ المقدّس — تأملات في جحيم الحرية الأدبية..


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 00:37
المحور: قضايا ثقافية
    


ليس هناك أشدَّ خطورةً على العالم من كاتبٍ قرّر أن يُفكِّر بصوتٍ عالٍ في معبدٍ من الصمت، ولا أقسى على الجماعة من قلمٍ يجرؤ على لمس المسكوت عنه في عصب الهوية المقدّس، ذلك أن الأدب منذ وُجد كان يمشي على سيوف المعنى، بين حريةٍ تُنجب الضوء، وحدٍّ أخلاقيٍّ يطالبها بأن تخرس. ومنذ أول قصيدة كتبها الإنسان على جدار كهفه كان الوجدان يسأل: هل الكلمة مُلكٌ لمن كتبها أم لمن خاف منها؟ وهل الفنّ طقوس نجاة أم خيانةٌ لمقدّس الجماعة؟ إنّ الحرية الأدبية ليست حقًا بسيطًا كما يتغنّى به المثقفون، بل هي امتحان للضمير الجمعي، إذ تضعه أمام مرآةٍ لا ترحم، تكشف هشاشة ما يظنّه مطلقًا، وتُسقط الأقنعة عن الآلهة التي خلقناها نحن كي نحتمي من أسئلتنا. الأدب الحرّ ليس الذي يلعن الدين ولا الذي يمجّده، بل الذي يفتح الجرح ويتركه ينزف حتى يتطهّر، الأدب الذي لا يطمئن إلى يقينٍ ولا يركع لأيّ سلطة سوى سلطة الجمال، لكنه أيضًا يواجه مأزقًا أخلاقيًا عميقًا: أين تنتهي مسؤوليته وتبدأ فوضاه؟ حين كتب سلمان رشدي روايته التي هزّت العالم، لم يكن يدري أنه سيصبح سؤالًا لا كاتبًا، إذ انقسم الكوكب بين من رأى فيه نبيًّا للحرية ومن رآه شيطانًا من ورق، وفي كلا الوجهين خسر الأدبُ ذاته لأنّ الضجيج غلب المعنى. تلك هي المأساة الأبدية: أن يتحوّل الكاتب إلى قضيةٍ أخلاقية بدل أن يُقرأ كصوتٍ إنسانيٍّ يفتّش في ظلامه. إنّ الحرية حين تُطلَق بلا وعي تتحوّل إلى رصاصةٍ تصيب الجمال نفسه، وحين تُقيّد بلا فهم تُخمد الروحَ التي تصنع الحياة، وهكذا يبقى الأدب معلقًا بين المشنقة والمجد، بين لعنة الجماهير وبركة الذاكرة. ما معنى أن نكتب عن الجسد مثلاً؟ أهو انتهاك للحياء أم استعادة لحقّ الجسد في لغته؟ ما معنى أن نسخر من الدين؟ أهو تجديف أم محاولة لفهم الله بلغة البشر؟ وما معنى أن نصوّر الحرب دون أن نُعلي صوت الضحايا؟ تلك الأسئلة التي لا يجيب عنها إلا الزمن، لأنّ الكلمة في لحظة ولادتها لا تعرف ما إذا كانت ستُتلى صلاةً أم تُرمى حجارة. الأدب الحرّ هو الطفل الذي يعبث بالنار ليعرف ماهيتها، هو المهرّج الذي يقول الحقيقة بلسان الجنون، هو المصلوب الذي يبتسم لأنّهم لم يفهموه، هو ذلك الحرف الذي يجرح وجه المقدّس لا ليهينه بل ليذكّره بأنه وجهٌ من لحمٍ بشريٍّ يمكن أن يتصدّع. والكاتب الحقّ ليس من يثير الجدل ليُرى، بل من يُغامر بالاختفاء في نصّه ليُضيء ما يُخفى عن العيون. إنّ الرقابة ليست سيف السلطة فقط، بل هي أيضًا الخوف الكامن في القارئ الذي يريد من الأدب أن يكون تعزيةً لا مواجهة، يريد من الشعر أن يجمّل الواقع لا أن يعرّيه، من الرواية أن تروي الحكاية لا أن تُفكّك الحكاية الكبرى التي نحيا داخلها. لذلك تظلّ الحرية الأدبية منطقةً غامضة بين الجريمة والمعجزة، لا يُعرَف إن كانت خلاصًا أم لعنة، لكنها تظلّ ضرورةً مثل الألم، لأنّ الأدب بلا خطر هو أدبٌ بلا روح، كمن يريد أن يكتب النار بالماء أو يرسم الصرخة بصمتٍ مطمئن. والكاتب حين يختار أن يكتب ضدّ التيار لا يفعل ذلك كبطلٍ أسطوريّ، بل ككائنٍ مأزومٍ يختنق من الصمت، يعرف أنّ كلّ حرفٍ يكتبه قد يكون آخر ما يكتبه، لكنه مع ذلك يكتب لأنّ الكتابة هي فعل مقاومة ضدّ العدم. إنّ المجتمعات التي تخاف من الكلمة هي ذاتها التي تموت من العجز عن الحلم، فحين تُخنق الحرية بحجة المقدّس، يُخنق معها العقل الذي يميّز بين الإيمان الحقيقي والتعصّب المريض، لأنّ الإيمان الصادق لا يخشى السؤال، بل يتقوّى به. الحرية ليست في أن نقول كل شيء، بل في أن نجرؤ على قول ما يجب أن يُقال حين يُمنع، وأن نحمي في الوقت نفسه كرامة الإنسان من أن تُنتهك باسم الفنّ. تلك المعادلة الصعبة التي لا يحسمها قانون ولا نقد، بل يُمتحن فيها ضمير الكاتب ووعيه وحده، لأنّ الأدب في النهاية ليس ميدانًا للخصام بل مساحةٌ لفهم العالم من جديد. وربما لهذا السبب سيظلّ السؤال معلقًا إلى الأبد: هل نحن أحرار حقًا حين نكتب، أم أننا نُعيد صياغة قيودنا بلغةٍ أجمل؟ إنّ الحرية الأدبية ليست انتصارًا للكاتب على مجتمعه، بل امتحانًا للإنسان في قدرته على التعايش مع الحقيقة مهما كانت مؤلمة. فالكلمة التي لا تجرح لا تُشفى، والكاتب الذي لا يُغضِب أحدًا، لا يُحرِّك أحدًا، لأنّ الأدب إن لم يكن صرخةً في وجه العالم، فسيصبح همسًا في أذن العدم.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يُنقِذ الفنُّ الذاكرة من الركام.
- الشرق الأوسط… حين تمشي الجغرافيا على حافة الفلسفة.
- بيان الكلاب
- عند تخوم الضوء
- نص قصيدة -شَرْخ- لحامد الضبياني من واقعة عاطفية إلى بنية وجو ...
- عذابُلتي حين تعلّمتُ أن أكتب على شواهد الموت.
- شَرْخ
- أسطورة التقدّم: هل يتطوّر الإنسان أم تتطوّر أدوات السيطرة عل ...
- الجمجمة الأولى
- قَرِّبْ خُطاكَ
- عندما يرتدي القاضي خوذةً… وتصبح الدولة حاشيةً في بلاط السلاح ...
- إيطاليا… حين تتكلّم الحضارة لغة الشعر
- الصقور لا تستأذن الذباب: محمد صبحي في مواجهة إعلام الرداءة
- حين تُحاسَب السلطة ولا تُحاصَر الأرض
- بعيدُها
- سعدون شفيق سعيد حين يتكلم البركان بصوت الحكمة
- العالم على حافة إعادة التشكيل
- مرآة الغبار
- ريما…
- تسرق المقاومة اسمها وتُهان القيادة..


المزيد.....




- بعد لقائه نتنياهو في فلوريدا.. ترامب يتوعّد طهران ويهدّد حما ...
- لقاء ترامب ونتنياهو: خلافات حول الضفة الغربية وتهديدات لإيرا ...
- هل وقعت تونس والجزائر اتفاقا لحماية نظام قيس سعيد؟
- انقسام أوروبي تاريخي بشأن روسيا وخيارات ترامب في فنزويلا تتق ...
- أول رد من أوكرانيا على مزاعم روسيا بشأن -مهاجمة مقر إقامة بو ...
- في سابقة هي الأولى من نوعها.. نتنياهو يُعلن عن منح ترامب جائ ...
- ترامب يحذّر حماس من -عواقب وخيمة- إذا لم تنزع سلاحها ويؤكد ا ...
- عرّافون في بيرو يقدّمون توقعات بشأن الصراعات العالمية والقاد ...
- بعد اتهام أوكرانيا بمحاولة اغتيال بوتين.. روسيا تراجع موقفها ...
- برنامج الثلاثاء في كأس الأمم الأفريقية: تونس تواجه تنزانيا و ...


المزيد.....

- قواعد الأمة ووسائل الهمة / أحمد حيدر
- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حينما يجرح الحرفُ وجهَ المقدّس — تأملات في جحيم الحرية الأدبية..