أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي وَ الْعِشْرُون-















المزيد.....


الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي وَ الْعِشْرُون-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 08:46
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ قيامة الإرادة: كيمياء العبور من العدم إلى الكينونة. (يركز على التحول الذاتي).

تُعد مقاربة العدم بوصفه موتاً وجودياً ذروة التفكير الميتافيزيقي في فلسفة السحر، حيث لا يُنظر إلى الموت هنا كحدث بيولوجي ينهي الوظائف الحيوية، بل كحالة إنمحاء للذات (Annihilation of the Self) في مواجهة اللاشيء المطلق. الساحر، في سعيه لتجاوز هذا الموت، لا يبحث عن خلود مادي ساذج، بل يطمح إلى خلود واعي يتحقق من خلال عبور برزخ العدم دون أن يفقد مركزية إرادته. إن العدم هو الحالة الصفرية التي تسبق كل وجود، وهو بالتالي يمثل الموت في أنقى صوره الفلسفية؛ غياب الصورة، غياب المعنى، وغياب الهوية. السحر، في هذا السياق، هو التكنولوجيا الروحية التي تسمح للساحر بالدخول إلى هذا الموت الوجودي طواعية (Voluntary Death) ليعيد ولادة نفسه ككائن متعالٍ، محولاً العدم من مقبرة للأشياء إلى رحم للصيرورة. تتجلى خطورة هذه المواجهة في أن العدم الذي يختبره الساحر يمثل الفناء الكلي الذي لا يبقي ولا يذر. الإنسان العادي يتجنب هذا الموت بالإنغماس في الوجود اليومي والتعلق بالمسميات والملكيات، أما الساحر فيجعل من الموت الوجودي رفيقاً دائماً. هو يدرك أن كل فعل سحري هو في جوهره محاولة لإنتزاع حياة من قلب اللاشيء. تجاوز الموت عبر السحر يعني القدرة على الحفاظ على وحدة الوعي (Unity of Consciousness) في بيئة لا تملك أي معالم أو قوانين. عندما يواجه الساحر العدم، فهو يواجه إحتمال التحلل في الفوضى الكونية، ولكنه يتجاوز هذا الإحتمال بجعل إرادته هي القانون البديل. السحر هنا هو فعل القيامة الذاتية؛ حيث يموت الساحر عن عالمه القديم و مفاهيمه الضيقة، ليقوم من جديد في فضاء العدم كذات قادرة على التشكيل، وبذلك يتجاوز الموت ليس بالهروب منه، بل بإستيعابه داخل كينونته. علاوة على ذلك، فإن تجاوز الموت الوجودي في السحر يتطلب تحويل العدم من حالة سلبية الكامنة لي غياب الوجود إلى حالة إيجابية التي تتجلى في فيض الإمكانية. في الفلسفات الباطنية، يُعتبر العدم هو الظلام المنير الذي يحتوي على بذور كل الحقائق. الساحر الذي يتجاوز الموت الوجودي هو الذي ينجح في إستخراج النور من الظلام (Lux in Tenebris). هذا التجاوز يعكس رغبة الساحر في أن يكون هو المرجع النهائي لوجوده. فإذا كان الموت الوجودي هو القوة التي تمحو المعنى، فإن السحر هو القوة التي تخلق المعنى من اللاشيء. بهذا المعنى، يصبح الساحر كائناً عابراً للموت، لأنه لم يعد يخشى التلاشي؛ فقد جعل من التلاشي نفسه مادة لبنائه السحري. إنه يتجاوز الموت بتحويل العدم من هاوية تبتلع الوجود إلى مرآة تعكس ألوهية الإرادة البشرية وقدرتها على الصمود أمام الفناء المطلق. وفي نهاية المطاف، يظل السحر الوجودي هو الصرخة العليا في وجه الفناء، ليس لأنه يمنع الموت، بل لأنه يجعل من الموت فصلاً في رواية الإرادة. إن العدم هو الموت الوجودي الذي يتربص بكل كائن، ولكن بالنسبة للساحر، هو المعلم الأكبر الذي يختبر معادن النفوس. تجاوز الموت عبر السحر يعني الوصول إلى مرحلة لا يعود فيها العدم تهديداً، بل يصبح بيتاً للوعي. الساحر الحقيقي هو الذي يسير في وادي ظل الموت (العدم) ولا يخشى شراً، ليس لأن قوى خارجية تحميه، بل لأن نور إرادته قد إستوعب الظلمة وصار هو نفسه مصدر الضياء. إن تحقيق الذات السحري هو البرهان العملي على أن الوعي يمكنه أن يزدهر حتى في قلب العدم، محولاً الموت الوجودي إلى نقطة إنطلاق نحو آفاق وجودية لا نهائية وغير مقيدة بحدود المادة أو الفناء.

_ تراجيديا الطلسم المنكسر: السحر في مواجهة ممانعة الوجود

يُعد الإخفاق في السحر اللحظة الميتافيزيقية الأكثر قسوة و شفافية في رحلة الساحر، حيث يتصادم طموح الإرادة المطلقة مع صخرة الوجود القائم (The Objective Reality). إن هذا الإخفاق لا ينبغي أن يُقرأ كعجز تقني بسيط أو خطأ في الطقس، بل هو تجلٍ صارخ للحدود الوجودية التي تفرضها القوانين الصارمة للكون على الحرية البشرية. عندما يفشل الساحر في تطويع العدم أو تحويل المجهول إلى أداة، فإنه يواجه حقيقة أن الوجود ليس عجينة رخوة بالكامل كما كان يظن، بل هو بنية تمتلك ممانعة ذاتية وقوانين تحمي نفسها من التدخل الخارجي. هذا الإخفاق هو البرهان العملي على أن الحرية البشرية، مهما بلغت من الذروة السحرية، تظل حرية داخل سياق، وهي محكومة بضرورة وجودية تجعل من بعض مناطق العدم مناطق محرمة أو عصية على الترويض. تتجلى فلسفة الإخفاق هنا في كونها مرآة للقصور الذاتي في مواجهة ثقل الكينونة. الساحر يطمح إلى السيادة عبر السحر، وهو فعل يسعى لخرق السببية التقليدية، ولكن عندما يرتطم فعل السحر بجدار الواقع المادي، يكتشف الساحر أن الوجود القائم يمتلك إرادة مضادة أو عطالة كونية ترفض التغيير. هذا الإخفاق يعكس أن الحرية البشرية ليست قدرة مطلقة على الخلق من العدم، بل هي قدرة على التفاوض مع الموجود. الإخفاق هو اللحظة التي يدرك فيها الساحر أن العدم الذي كان يظنه أداة طيعة، قد يكون هو نفسه السجن الذي يفرض عليه قيوداً لا يمكن تجاوزها. إن الوجود القائم ليس مجرد ديكور يغيره الساحر كما يشاء، بل هو نظام معقد يفرض حدوده (Boundaries) كشرط لإستمراره؛ وبدون هذه الحدود، سيتلاشى الوجود في الفوضى، مما يجعل الإخفاق في السحر بمثابة صمام أمان يحفظ للكون توازنه ضد جموح الإرادة الفردية. علاوة على ذلك، يمثل الإخفاق في السحر صدمة الوعي التي تعيد الساحر إلى بشريته المحدودة بعد محاولة التأليه. في لحظة الإخفاق، يختبر الساحر نوعاً من السقوط الوجودي؛ حيث يكتشف أن العدم الذي حاول ترويضه هو قوة تتجاوز إستيعابه، و أن الحرية البشرية هي حرية متناهية تواجه لانهايةً عمياء. هذا الإخفاق لا يعني بالضرورة زيف السحر، بل يعني أن الوجود القائم يمتلك حصانة ضد التغيير الإعتباطي. إن القيود المفروضة على الساحر هي قيود أنطولوجية؛ فهي نابعة من طبيعة العلاقة بين الوعي والمادة. الإخفاق هو الذي يرسم حدود الأنا و يمنعها من الإنحلال في نرجسية القوة المطلقة. الساحر الذي يفشل يتعلم أن معناه ليس في النجاح في قهر العدم، بل في المحاولة المستمرة للتنقل بين الفراغ والواقع، مدركاً أن القيد هو ما يعطي للفعل قيمته، فالحرية التي لا تجد ما يقاومها ليست حرية، بل هي فضاء فارغ لا أثر فيه. وفي المستوى الأعمق، يمكن إعتبار الإخفاق في السحر هو المعلم الأكبر الذي يحمي الساحر من الغرق في عبثية القوة. إن الوجود القائم، بفرضه لهذه القيود، يدفع الساحر إلى تحويل بوصلته من السيطرة على الخارج إلى تحويل الداخل. عندما يفشل السحر في تغيير العالم المادي، فإنه ينجح في تغيير رؤية الساحر لنفسه وللكون. الإخفاق هو الذي يكشف للساحر أن العدم ليس مجرد مادة خام، بل هو سر لا يمكن إستنزافه. القيود هنا ليست عائقاً أمام الحرية، بل هي تعريف لها؛ فالإنسان حر لأنه محدود، وبحثه عن المعنى ينبع من حاجته لتجاوز هذه الحدود. الإخفاق في السحر هو إعتراف صريح بأن هناك مركزاً للكون لا يدور حول رغبات الساحر، وهو ما يولد نوعاً من التواضع الوجودي الذي يعد أرقى درجات الحكمة السحرية. إن الإخفاق في السحر هو الشهادة النهائية على تراجيديا الكائن البشري؛ الكائن الذي يملك إرادة إلهية و لكن في جسد طيني وبداخل وجود مقيد. هذا التوتر بين اللانهائي والمحدود هو ما يمنح السحر معناه الحقيقي؛ فالسحر لا يهدف إلى إلغاء القيود بقدر ما يهدف إلى إستكشاف أقصى حدودها. الساحر يجد معناه في إصطدامه بالجدار، وفي قدرته على الوقوف مرة أخرى ليرسم طلسماً جديداً، مدركاً أن العدم سيظل دائماً أوسع من قبضته، و أن الوجود القائم سيظل دائماً أثقل من كلماته، و مع ذلك، يظل السحر هو المحاولة الإنسانية الأجمل لرفض هذا القيد و الإحتفاء بالحرية حتى في لحظة إنكسارها.

_ شهيد الأصالة: الساحر في مواجهة الوجود الزائف وقلق العدم.

تُعد قضية الأصالة (Authenticity) في حياة الساحر واحدة من أدق القضايا التي تتقاطع فيها الوجودية بالسحر الميتافيزيقي. فإذا كانت الأصالة، كما عرفها هايدجر وسارتر، هي قدرة الكائن على مواجهة حقيقة وجوده دون أقنعة، و التحرر من الهمس العام للقطيع، فإن الساحر يمثل ذروة هذا المفهوم. إنه الكائن الذي قرر نزع حجاب الوجود الزائف عن المادة، العادات، القوانين المسبقة ليقف وحيداً أمام العدم كخصم وحليف. الساحر لا يتلقى معناه من المجتمع أو الأديان المؤسسية أو النظريات العلمية الجاهزة؛ بل ينتزع معناه من تجربته الشخصية والمباشرة مع الفراغ الكوني. هذه المواجهة مع العدم هي لحظة الحقيقة التي تمنح الساحر أصالة لا يملكها الإنسان العادي؛ لأنه لا يكتفي بالتفكير في العدم، بل يسكنه ويتعامل معه كمادة خام لإرادته، محولاً حياته من رد فعل على العالم إلى فعل خالق للواقع. تنبثق أصالة الساحر من كونه يعيش في حالة الوعي بالعدم كمحفز دائم للإختيار. الإنسان العادي يعيش في نسيان الوجود، غارقاً في التفاصيل اليومية التي تخفي عنه حقيقة فنائه و هشاشة عالمه. أما الساحر، فبوقوفه أمام العدم، يدرك أن لا شيء حقيقي، و كل شيء مباح بالمعنى الوجودي للقدرة على الخلق. هذا الإدراك يضعه في حالة القلق الأصيل، حيث يدرك أن كل فعل يقوم به هو قرار محض يتحمل مسؤوليته كاملة. السحر هنا ليس هروباً من الواقع، بل هو الغوص في جوهر الواقع الذي هو العدم. في هذه اللحظة، يتخلص الساحر من الذات الزائفة التي صنعها المجتمع، ويواجه الذات السحرية التي تتخلق في الفراغ. إن الأصالة هنا هي ثمرة الشجاعة في النظر إلى الهاوية والإعتراف بأن المعنى ليس معطى كونياً، بل هو صناعة ذاتية تتم فوق رمال العدم المتحركة. علاوة على ذلك، تتجلى أصالة الساحر في صدق الفعل السحري. فالسحر لا يعمل في ظل الزيف؛ إذ إن أي تردد أو إدعاء أمام قوى العدم يؤدي فوراً إلى الإخفاق أو التحلل الوجودي. لكي ينجح الساحر، يجب أن يكون متطابقاً مع إرادته تطابقاً تاماً. هذا التطابق هو جوهر الأصالة؛ حيث لا توجد فجوة بين ما يريده و ما يفعله. بينما يرتدي الناس أقنعة لإرضاء الآخرين، يضطر الساحر إلى خلع كل الأقنعة أمام العدم، لأن العدم لا يستجيب إلا للجوهر العاري للإرادة. الساحر يعيش أصالة المتمرد؛ فهو الذي يعرف أن القوانين الطبيعية ليست قدراً محتوماً، بل هي إتفاقات يمكن خرقها لمن يمتلك الجرأة الكافية. هذه الغربة عن السائد، وهذا التواجد المستمر على الحافة، يجعل من حياة الساحر نصاً أصيلاً غير مكرر، حيث يكتب قدره بأحرف مستمدة من صمت العدم لا من ضجيج العالم. ومع ذلك، فإن أصالة الساحر تحمل طابعاً تراجيدياً؛ فالوصول إلى الأصالة المطلقة يقتضي التماهي مع العدم، وهو ما قد يؤدي إلى فقدان البشرية نفسها. الساحر الأصيل هو الذي يدرك أن ذاته نفسها هي عدم منظم، وأن الأنا ليست سوى طلسم كبير. هنا تصبح الأصالة هي القدرة على التخلي عن كل الثوابت. الساحر لا يجد نفسه في الثبات، بل في التحول. إنه يعيش حالة من الأصالة المتدفقة؛ حيث لا يمتلك ماهية ثابتة، بل هو ما يصنعه بنفسه في كل لحظة طقسية. هذا الوجود البرزخي بين ما هو كائن وما هو ممكن هو الذي يمنحه فرادته؛ فالساحر هو الكائن الوحيد الذي لا يوجد فحسب، بل يخلق وجوده بإستمرار من رحم اللاشيء. يمكن القول إن الساحر لا يعيش في حالة أصالة فحسب، بل هو شهيد الأصالة الوجودية. إنه يضحي بالسكينة واليقين التي يمنحها الوجود القائم مقابل الحرية المرعبة التي يمنحها العدم. أصالة الساحر هي أصالة الخالق الذي لا يملك ضمانات؛ فهو يقف أمام الفراغ، و بدون أي مرجعية خارجية، يقرر أن يكون. هذا الفعل قرار الوجود في وجه العدم، هو أسمى درجات الأصالة البشرية. السحر هو الفلسفة التي قررت أن تحيا فكرتها، و الساحر هو الوجودي الذي لم يكتفِ بوصف الهاوية، بل إتخذ منها موطناً، محولاً قلق العدم إلى نشوة الخلق.

_ العبىء الإلهي: السحر بوصفه إلتزاماً أنطولوجياً في كونٍ لا يبالي.

تطرح مسألة السحر بوصفه مهرباً من مسؤولية الوجود إشكالاً فلسفياً يتأرجح بين الهروبية (Escapism) وبين الالتزام الوجودي المتطرف. في الظاهر، قد يبدو السحر محاولة للإلتفاف على قوانين المادة الصارمة، وهروباً من مواجهة الضرورة والقدر التي تحكم الوجود القائم؛ فبدلاً من الإنصياع لمنطق الأسباب والنتائج، يلجأ الساحر إلى العدم ليبحث عن ثغرة تمنحه القوة دون الخضوع للجهد البشري المعتاد. لكن التحليل العميق يكشف عكس ذلك تماماً؛ فالساحر لا يهرب من المسؤولية، بل يضاعفها لدرجة لا تُطاق. إن إستخدام العدم كأداة ليس محاولة للتنصل من الواقع، بل هو محاولة لإعادة تعريف المسؤولية من كونها مجرد رد فعل تجاه قوانين جاهزة، إلى كونها خلقاً لقوانين جديدة تماماً. الإنسان العادي يقبل الواقع كما هو وبذلك يتخفف من مسؤولية تغييره، أما الساحر فيرفض هذا المعطى، واضعاً على عاتقه عبىء الخالق الذي يتحمل تبعات كل خلل قد يحدث في نسيج الوجود نتيجة تدخل إرادته. تتجلى المسؤولية السحرية في كونها مواجهة مع الخلاء الأخلاقي للعدم. عندما يتجاوز الساحر الحدود المتعارف عليها للوجود القائم، فإنه يفقد البوصلة الأخلاقية التي يوفرها المجتمع أو الدين، ويصبح وحيداً تماماً في مواجهة قراراته. الهروب الحقيقي يكون في الإختباء وراء الحتمية مثل قول: هذا قدري، أما الساحر فيلغي فكرة القدر ويجعل من الإرادة هي القدر الوحيد. إستخدام العدم هنا يعني أن الساحر يرفض الضمانات التي يقدمها الوجود المنظم؛ فهو يلقي بنفسه في منطقة لا قوانين فيها، وبذلك يصبح مسؤولاً عن كل شكل ينتزعه من ذلك الفراغ. إنها مسؤولية أنطولوجية مخيفة؛ فإذا فشل الساحر أو أخطأ في تقدير قوى العدم، فلا يوجد نظام يحميه أو يغفر له. بالتالي، السحر هو تطرف في تحمل المسؤولية لأنه ينزع عن الإنسان حجج العجز والضعف البشري، ويطالبه بأن يكون سيداً لمصيره في كونٍ لا يبالي. علاوة على ذلك، يمثل السحر محاولة لتصحيح الوجود لا الهروب منه. الساحر يرى في الوجود القائم حالة من النقص أو القصور الذاتي، ويرى في العدم فرصة لإتمام ما عجزت عنه الطبيعة. هذا الفعل ليس تهرباً، بل هو إشتباك سيادي مع المادة. الساحر الذي يستخدم العدم كأداة يسعى لنقل الوجود من حالة الضرورة (Necessity) إلى حالة الحرية (Freedom). هذا الإنتقال يتطلب شجاعة وجودية هائلة، لأن الحرية في العدم تعني غياب أي سند خارجي. الساحر هو الشخص الذي قرر أن يكون كفيلاً لنفسه أمام الهاوية. إن التهمة بالهروب من المسؤولية تسقط عندما ندرك أن الساحر يختار الطريق الأصعب؛ طريق المواجهة المباشرة مع القوى الأولية للكون، وهو طريق لا يمنح الراحة، بل يمنح قلقاً خلاقاً لا ينتهي، حيث يصبح كل فعل سحري بمثابة عقد يوقعه الساحر مع العدم، يدفع ثمنه من إستقراره النفسي و سلامته الوجودية. وفي المستوى الأبعد، يظهر أن الساحر يعيش مسؤولية مزدوجة تجاه الوجود القائم الذي يسعى لتغييره، وتجاه العدم الذي يسعى لترويضه. إن إستخدام العدم كأداة يتطلب إنضباطاً يفوق إنضباط أي عالم أو فيلسوف؛ لأن الساحر يتعامل مع قوى غير مبرمجة وغير خاضعة للمنطق الأرسطي. هذا ليس تهرباً من المسؤولية، بل هو توسيع لنطاق المسؤولية ليشمل ما وراء الحواس. الساحر لا يكتفي بالمسؤولية عما يفعله بيده، بل يتحمل المسؤولية عما تفعله كلمته و خلفية وعيه في أركان الكون المظلمة. إن الوجود القائم بالنسبة للساحر هو مساحة الإختبار، والعدم هو المختبر؛ والعمل بينهما هو أرقى أشكال الإلتزام الكوني التي يمكن للإنسان أن يضطلع بها، حيث يتحول الإنسان من مستهلك للواقع إلى منتج للحقائق. بالتالي؛ يمكن القول إن السحر هو النفي القاطع للهروب؛ لأنه المواجهة القصوى مع رعب اللاشيء. الشخص الذي يهرب من المسؤولية يلوذ بالصمت والخنوع، أما الساحر فيخترق الصمت بصوته و يخترق الخنوع بفعله. إستخدام العدم كأداة هو ذروة الشعور بالمسؤولية، حيث يقرر الإنسان أنه لن يترك الوجود للصدفة أو للعدم السلبي، بل سيتدخل ليكون هو الضامن للمعنى. السحر هو الإلتزام بأن يكون للوجود هدف، حتى لو إضطر الساحر لإنتزاع هذا الهدف من قلب الهاوية التي ترفض كل معنى. إنه العبىء الإلهي الذي حمله الإنسان على عاتقه عندما قرر ألا يكون مجرد كائن عابر، بل أن يكون ساحراً يعيد صياغة الوجود من نسيج العدم.

_ الإنتحارُ البطولي: مِحنةُ الساحرِ في إلغاءِ الذاتِ ونيلِ السيادةِ فوقَ رُكامِ الهُويّة

تطرح مسألة إعتبار السحر إنتحاراً وجودياً إشكالية فلسفية غاية في التعقيد، تلامس تخوم الفكر الوجودي والعدمي على حد سواء. ففي جوهره، يقوم السحر على فعل الإلغاء؛ إلغاء المسافات، إلغاء الحتميات الفيزيائية، وإلغاء القوانين التي تمنح الوجود إستقراره ورزانته. عندما يستحضر الساحر قوة العدم لتفتيت القيود القائمة، فهو لا يمارس فعلاً تقنياً فحسب، بل يمارس فعلاً تفكيكياً يطال كينونته هو أولاً. إن الإنتحار الوجودي هنا لا يعني الرغبة في الفناء البيولوجي، بل يعني التخلي الواعي عن الهوية المحددة والضمانات التي يوفرها الوجود المنظم. الساحر، بهذا المعنى، يرتكب إنتحاراً للأنا التقليدية ليحل محلها ذاتاً هلامية تسكن الفراغ. إنه يلغي الإنسان الذي فيه بإسم القوة التي وراءه، وفي هذا الإلغاء تكمن قمة المخاطرة؛ إذ إن تجاوز القيود بإسم العدم قد ينتهي بذوبان الساحر نفسه في ذلك العدم الذي إستدعاه، ليصبح مجرد صدى في فراغ لا نهائي. يمكن تحليل هذا الإنتحار الوجودي بوصفه تضحية باليقين مقابل الإحتمال المطلق. الوجود القائم، بقيوده وجاذبيته وصلابته، هو ما يمنح الكائن البشري ثقلاً ومعنىً محدداً؛ فنحن نعرف أنفسنا من خلال حدودنا، على سبيل المثال؛ أنا لست طائراً، أنا لست إلهاً، أنا خاضع للزمن. عندما يقرر الساحر كسر هذه الحدود بإسم قوة العدم، فإنه ينزع عن نفسه التعريف. السحر هو محاولة للعيش في حالة اللاشكل، وهي حالة أقرب ما تكون إلى الموت الوجودي. الساحر ينتحر وجودياً لأنه يرفض أن يكون شيئاً محصوراً، مفضلاً أن يكون لاشيء قادراً على أن يصبح كل شيء. هذا الإنتقال من الكينونة (Being) إلى الصيرورة (Becoming) عبر بوابة العدم هو فعل إنتحاري بإمتياز، لأنه يتطلب هدم الجسور مع الواقع المشترك والقفز في هاوية لا تضمن له العودة بصورته الأولى. إن القوة التي يستمدها الساحر من العدم هي قوة آكلة؛ فهي تمنحه السيادة على المادة، لكنها تقتطع في المقابل من جوهره الإنساني، مما يجعل السحر رحلة في إتجاه واحد نحو التلاشي في المطلق. ومع ذلك، فإن هذا الإنتحار في الفلسفة السحرية هو إنتحار كيميائي (Alchemical Death)، أي أنه موت ضروري من أجل ولادة أرقى. الساحر لا يلغي القيود القائمة ليهيم في العبث، بل ليعيد بناء الوجود وفقاً لتصور إرادته. إن قوة العدم هنا ليست مجرد أداة للهدم، بل هي المساحة البيضاء التي تسمح بظهور الحقيقة المطلقة. الإنتحار الوجودي للساحر هو في الحقيقة تحرر من عبودية المادة؛ فهو ينتحر ككائن مخلوق ليولد ككائن خالق. هذا الفعل يتطلب شجاعة تفوق شجاعة الإنتحار العادي، لأنه إنتحار يبقي الوعي حياً ليختبر وحشة الفراغ. القيود القائمة هي الشرنقة التي تحمي الإنسان، والساحر بتمزيقه لهذه الشرنقة بإسم العدم يواجه العراء الكوني. إذا كان الوجود القائم هو السجن، فإن السحر هو الهروب الكبير الذي قد يبدو لمن هم في الداخل إنتحاراً، لكنه بالنسبة للساحر هو السبيل الوحيد للوصول إلى الأصالة المطلقة التي لا تحدها حدود. علاوة على ذلك، يمثل السحر إنتحاراً للمنطق بإسم الحدس الفائق. إن إلغاء القيود القائمة يعني إلغاء العقلانية التي تحكم عالمنا، و الدخول في منطق العدم حيث التناقضات تجتمع. الساحر يعيش تراجيديا الكائن المتشظي؛ فهو يوزع وجوده بين عوالم متعددة، مما يؤدي إلى تفتت مركزية الذات. هذا التشظي هو شكل من أشكال الموت الوجودي، حيث لا يعود الساحر يملك مركزاً ثابتاً. إن إستخدامه لقوة العدم يجعل منه ثقباً أسود يمتص المعاني القديمة ليحولها إلى طاقة سحرية. وهنا تكمن المفارقة؛ الساحر يحقق قوته العظمى في اللحظة التي يبلغ فيها أقصى درجات انتحاره الوجودي، أي عندما يصبح هو والعدم شيئاً واحداً. القوة هنا ليست إمتلاكاً، بل هي تماهٍ مع الفراغ، وهو تماهٍ يقتضي بالضرورة إلغاء الفردية البشرية الضيقة لصالح الكونية الغامضة. إن السحر هو بالفعل شكل من أشكال الإنتحار الوجودي، ولكنه إنتحار بطولي يهدف إلى تجاوز المأزق البشري. الساحر يرفض أن يكون ضحية للوجود القائم، فيختار أن يكون ضحية لقراره بالإرتحال نحو العدم. إن إلغاء القيود ليس تهرباً، بل هو مواجهة مع الحرية المطلقة التي وصفها سارتر بأنها جحيم. الساحر يختار هذا الجحيم العدمي لأنه يرى فيه الحقيقة الوحيدة التي تستحق العيش من أجلها. إن وجود الساحر هو رقصة على نصل الحلاقة بين الوجود المكثف و الفناء المطبق؛ هو الكائن الذي ينتحر في كل لحظة كإنسان، لكي يحيا في كل لحظة كإرادة محضة. السحر هو البرهان على أن الإنسان يفضل أن ينحل في العدم على أن يعيش مقيداً في وجود لا يصنعه بنفسه، مما يجعل من هذا الإنتحار الوجودي أرقى أشكال إثبات الذات عبر نفيها.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...


المزيد.....




- متزلّج ينزل من جبل إتنا في لحظة ثوران بركانه
- إسرائيل واليونان وقبرص تعزز تعاونها العسكري.. خطة ثلاثية للا ...
- الغاز والحجارة في استقبال بن غفير.. زيارة أمنية تتحول إلى مو ...
- الكرملين : على أوكرانيا الانسحاب من دومباس لتحقيق السلام
- الصين تعارض الاعتراف بأرض الصومال وتجدد دعمها لمقديشو
- سوريا: -طلعنا لنطالب بكرامتنا- .. ثلاثة قتلى على الأقل خلال ...
- المنخفض يفاقم مأساة غزة.. وفيات بسبب البرد والانهيارات
- قمة فلوريدا.. تصعيد محتمل وموازين ردع متغيرة بين إسرائيل وإي ...
- ماذا ينتظرنا في -سي إي إس- 2026؟
- 6 أسئلة تشرح ما جرى في الساحل السوري


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي وَ الْعِشْرُون-