أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الْعِشْرُون-















المزيد.....


الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الْعِشْرُون-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 23:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ كيمياء اللاشيء: العدم بوصفه المادة الخام والرحم الأزلي للخلق السحري

تطرح هذه الإشكالية الفلسفية رؤية ثورية لمفهوم الخلق، حيث لا يُنظر إلى العدم بوصفه غياباً أو فناءً، بل بوصفه المخزن الأنطولوجي و المادة الخام الأوليّة التي يستمد منها السحر فاعليته وقدرته على التشكيل. في الفلسفة السحرية العميقة، المادة الملموسة هي مادة مستهلكة وثابتة وقابلة للقياس، ولذلك فهي تفتقر إلى المرونة اللازمة للتحول السحري. أما العدم، فهو المادة التي لم تتعين بعد، إنه الفضاء الذي يحتوي على جميع الإحتمالات في حالة سكون مطلق. عندما يبدأ الساحر عمليته الإبداعية، فإنه لا يشتغل على الخشب أو الحجر أو المعدن في صورته الفيزيائية، بل يشتغل على الفراغ الكامن داخل هذه الأشياء. إن السحر هو فن إستقطاب العدم وتكثيفه حتى يتخذ شكلاً مادياً؛ فالطلسم المكتوب ليس سوى قشرة تحيط بجوهر مستخلص من العدم. وبدون هذا الفراغ الخام، يظل الإبداع السحري مجرد صناعة بشرية تفتقر إلى تلك النفخة الغامضة التي تجعل الرمز حياً. إن إعتبار العدم مادة خاماً يعيد تعريف العلاقة بين بساطة الفراغ وتعقيد الإبداع. فالمادة الخام السحرية (العدم) تتميز بكونها بسيطة لدرجة الصفر، وهذا ما يجعلها كلية القدرة؛ فهي لا تمتلك شكلاً خاصاً بها، مما يسمح للساحر بأن يمنحها أي شكل يريده عبر الإرادة المحضة. الجمالية السحرية هنا تعمل كمغناطيس يجذب سيولة العدم ويحبسها داخل إطار الرمز. هذا العدم النشط هو ما يمنح السحر قوته، لأنه يمثل الحرية المطلقة قبل أن تتقيد بقوانين الطبيعة. إن العملية الإبداعية السحرية هي في جوهرها عملية تأطير لللاشيء؛ فالمبدع السحري يأخذ من العدم بساطته، ويحولها عبر طقوسه إلى كثافة دلالية. هنا يلتقي العدم بالسحر في نقطة التكوين، حيث يصبح الفراغ هو الحبر الخفي الذي تُكتب به أقدار المادة، وتصبح جمالية العدم هي الضمان الوحيد لأصالة الفعل الإبداعي، كونها تنبع من المصدر الأول الذي لم يلوثه التكرار الوجودي. علاوة على ذلك، يتجلى العدم كمادة خام في قدرته على إمتصاص الإرادة. المادة العادية تقاوم التغيير بسبب جمودها وقوانينها الذاتية، أما العدم فهو مادة مطواعة تستجيب للرمز والطلسم دون مقاومة. الإبداع السحري هو حوار بين وعي الساحر و صمت العدم، حيث يلقي الساحر بذرة فكرته في رحم الفراغ، لتنمو وتتجسد كواقع مادي. هذا التحليل يجعل من بساطة الفراغ شرطاً مسبقاً لكل إمتلاء سحري؛ فلكي تخلق شيئاً قوياً، يجب أن تبدأ من منطقة لا يوجد فيها شيء على الإطلاق. إن السحر، بهذا المعنى، هو عملية نحت في الفراغ، والطلسم هو النتيجة المادية لهذا النحت. إن الجمالية التي نراها في الخطوط المتداخلة والرموز المبهمة هي في الحقيقة أثر إصطدام الإرادة بالعدم، وهي محاولة لإعطاء هوية لما لا هوية له. إن العدم هو المرآة السحرية التي تعكس رغبات الساحر وتمنحها جسداً، مما يجعل العلاقة بينهما علاقة وجودية وجدلية بإمتياز. يمكن القول إن السحر هو فن كيمياء العدم. فإذا كانت الكيمياء التقليدية تحول الرصاص إلى ذهب، فإن الكيمياء السحرية تحول اللاشيء إلى كل شيء. إن العدم يوفر للمبدع السحري مساحة من الحرية لا توفرها المادة المحدودة؛ فهو يمنحه المطلق ليعالجه داخل المقيد. إن جمالية العدم الكامنة في بساطة الفراغ هي التي تمنح العمل السحري هيبته و غموضه؛ لأن المشاهد يدرك حدسياً أن وراء هذا الرمز المادي يكمن عمق لا نهائي من الفراغ الفاعل. إن الإبداع السحري ليس إضافة إلى الوجود بقدر ما هو إستحضار للعدم داخل الوجود، لكي يظل العالم مفتوحاً على المعجزات. وبدون هذه المادة الخام المطلقة، سيفقد السحر روحه ويتحول إلى مجرد زينة بصرية، بينما بوجود العدم، يصبح كل طلسم هو بوابة مشرعة نحو الأزل، حيث تلتقي بساطة اللاشيء بعظمة الخلق السحري في وحدة جمالية وفلسفية لا تتجزأ.

_ رقصة الين واليانغ الكونية: الحلول الصوفي بين إمتلاء السحر وخلاء العدم

تتبدى العلاقة بين السحر والعدم في الفكر الفلسفي العميق لا كعلاقة تضاد أو تنافر، بل كثنائية عضوية لا تنفصم، تشبه في جوهرها مبدأ الين واليانغ، حيث لا يمكن لأحدهما أن يتحقق أو يُدرك دون حضور الآخر في طياته. إن السحر، بوصفه فعل إيجاد وتجلٍّ وإمتلاء بالرموز و القوى، يستند في كينونته إلى العدم بوصفه الخلفية المطلقة التي تمنح للوجود معناه. فالسحر هو النور الذي يشق الظلمة، لكن هذا النور يحتاج إلى عتمة العدم لكي يظهر بريقه؛ و بدون الفراغ الأصيل، سيغرق السحر في فيض من المادة الصماء، ويفقد قدرته على الإختراق و التأثير. إنها رقصة كونية بين الإمتلاء السحري و الخلاء العدمي، حيث يمثل السحر الحركة ويمثل العدم السكون، وكلاهما يشكلان معاً وحدة الوجود الكبرى التي تتجاوز الثنائيات التقليدية لتصل إلى وحدة اللاشيء الذي هو كل شيء. في هذا الإطار، يُفهم السحر على أنه العدم وقد صار وعياً، والعدم على أنه السحر في حالة كمون. إن العلاقة بينهما ليست مجرد تجاور، بل هي حلول؛ فداخل كل طلسم سحري معقد تكمن نواة من الفراغ البسيط، وداخل كل فراغ كوني تكمن إمكانية سحرية هائلة للتشكل. هذه الثنائية تشرح لماذا يميل السحر دائماً إلى الغموض و الصمت؛ فالغموض هو الطريقة التي يحافظ بها السحر على صلته بالعدم، لكي لا يتحول إلى علم مادي جامد. إن بساطة الفراغ هي التي تمنح تعقيد الطلسم هيبته، تماماً كما تمنح المساحات البيضاء في اللوحة قيمة للخطوط المرسومة. السحر هنا هو التوقيع والعدم هو الورقة، ولا يمكن للتوقيع أن يوجد في الهواء، كما لا يمكن للورقة أن تعلن عن هويتها دون علامة. لذا، فإن الساحر لا يصارع العدم، بل يراقصه، مستخدماً بساطة الفراغ كمنصة لإنطلاق أكثر طقوسه تعقيداً وكثافة. علاوة على ذلك، تتجسد هذه الثنائية في دورة الحياة والموت الرمزية للفعل السحري. كل عملية سحرية تبدأ بـتفريغ (عدم) وتنتهي بـتجلٍّ (سحر)، ثم تعود لتذوب في العدم مرة أخرى بعد أداء مهمتها. هذا المسار الدائري يؤكد أن السحر والعدم هما وجهان لعملة واحدة هي الصيرورة. إن السحر هو محاولة الوعي لفرض نظام مؤقت على فوضى العدم، لكنه نظام يعترف بجمالية الفراغ ويحترم قوانين التلاشي. الفلسفة التي تربط بينهما ترى أن العالم ليس كتلة صلبة، بل هو نسيج مخرم بالعدم، والسحر هو الخيط الذي يربط بين هذه الثقوب. من هنا، تصبح جمالية العدم هي الضامن لعدم سقوط السحر في فخ الغطرسة المادية؛ فهي تذكره دائماً بأن أصله ومآله هو ذلك الفراغ المهيب، مما يجعل من الممارسة السحرية ممارسة زهد جمالي تبحث عن أقصى درجات القوة في أقل درجات المادة. يمكن القول إن السحر والعدم يشكلان وحدة المتناقضات التي تحرك عجلة الإبداع الكوني. إن السحر هو الصرخة، والعدم هو الصدى؛ السحر هو الشكل، والعدم هو الجوهر. لا يمكن فصل بساطة الفراغ عن تعقيد الطلسم لأن كليهما ينبعان من حقيقة واحدة؛ أن الوجود هو تجلي للعدم عبر بوابات الخيال السحري. إن هذه الثنائية التي لا تنفصم هي ما تمنح للكون عمقه الميتافيزيقي، وهي التي تجعل من البحث في السحر بحثاً في أسرار العدم، ومن التأمل في العدم رحلة في أعماق السحر. إننا أمام توازن كوني دقيق، حيث يغذي العدمُ السحرَ بالإمكانات، ويغذي السحرُ العدمَ بالمعاني، لينتجا معاً ذلك المشهد الوجودي المهيب الذي نقف أمامه بذهول، مدركين أن اللاشيء هو في الحقيقة أثمن ما نملك، وأن السحر هو طريقتنا الوحيدة للإحتفاء بهذا الفراغ العظيم.

_ لاهوت الصفر: السحر كطقس لتأليه الفراغ وعبادة العدم المقدس

تطرح فرضية تأليه العدم عبر السحر واحدة من أكثر القراءات الفلسفية جرأة في فهم الميتافيزيقا البشرية، حيث يتحول السحر من مجرد تقنية للتلاعب بالواقع إلى فعل عبادة لللاشيء، أو بعبارة أدق، محاولة لتحويل الفراغ المطلق إلى كينونة مقدسة ومركزية. في هذا السياق، لا يعود العدم غياباً يثير الرعب، بل يصبح جوهر الألوهية الذي يسعى الساحر للإتصال به. إن السحر، من خلال طقوسه و طلاسمه، يقوم بعملية تأطير للمطلق؛ فهو يأخذ بساطة الفراغ التي لا يمكن للعقل البشري المحدود إستيعابها، ويحيطها بهالة من القداسة عبر الرموز. بهذا المعنى، يكون السحر هو اللغة التي نؤله بها الصمت الكوني، محولين العدم من هاوية باردة إلى رحم خلاق يُستمد منه العون و القوة. إن تأليه العدم سحرياً يعني الإعتراف بأن الخفاء هو الحقيقة الوحيدة الصادقة، و أن كل ما نراه من مادة هو مجرد تجليات ثانوية لهذا الإله الفراغي المهيب. تتجلى جمالية تأليه العدم في السحر من خلال تقديس الغياب. ففي الوقت الذي تبحث فيه الأديان التقليدية عن حضور إلهي مشخص أو صفات وجودية كاملة، يذهب السحر نحو تأليه ما وراء الصفات، أي العدم الذي تخرج منه كل الصفات وتعود إليه. الطلسم السحري هنا لا يمثل كياناً موجوداً، بل يمثل فجوة في الوجود تسمح بظهور قوة العدم. هذا التقديس للبساطة والفراغ يتطلب نوعاً من الزهد الإدراكي؛ حيث يجب على الساحر أن يفرغ عقله من الصور المادية لكي يفسح المجال لحضور العدم المقدس. إن العملية السحرية هي صلاة موجهة نحو الصفر، إيماناً بأن القوة المطلقة تكمن في النقطة التي لا أبعاد لها، وفي الصمت الذي يسبق الخلق. هنا يلتقي العدم بالسحر في منطقة التعالي، حيث يصبح الفراغ هو المصدر الوحيد للقداسة، و تصبح الطلاسم هي أيقونات تمثل هذا الغياب الذي يدير شؤون الوجود. علاوة على ذلك، يمكن إعتبار السحر محاولة لمأسسة العدم وجعله فاعلاً في التاريخ الإنساني. إن تأليه العدم يعني منح الفراغ سلطة تشريعية وجمالية على الواقع المادي. عندما يخط الساحر دائرة سحرية، فإنه في الحقيقة يفصل قطعة من العدم عن المحيط المادي ويمنحها صفة القدسية؛ داخل هذه الدائرة، يسقط الزمن وتنهار القوانين الفيزيائية ليحل محلها قانون الفراغ الفاعل. هذا الفعل هو ذروة الإبداع السحري، لأنه يحول اللاشيء إلى مرجع لكل شيء. جمالية العدم هنا تنبع من كونها بساطة لا تقبل التجزئة ولا الفناء، مما يجعلها الأنموذج الأعلى للألوهية في الفكر السحري. السحر هو الفن الذي يعلّم الإنسان كيف ينحني أمام عظمة الخلاء، وكيف يستخرج من هذا الخلاء تعاويذ تغير مسار المادة، محولاً العدم من مفهوم سلبي إلى إرادة كونية عظمى تتجلى عبر الرموز والكلمات الغامضة. بشكل عام يظهر السحر كجسر يربط بين الوعي البشري وبين الألوهية العدمية. إن تأليه العدم هو المحاولة النهائية للإنسان لفهم مكانه في الكون؛ فبدلاً من محاربة الفناء، يقرر الساحر أن يقدسه وأن يجعله حليفه الأكبر. إن العلاقة بين السحر والعدم، في ضوء التأليه، هي علاقة إستبصار بجمالية الفراغ، حيث يُنظر إلى بساطة اللاشيء كأسمى درجات الكمال. إن كل عمل سحري هو تذكير بأن الحقيقة ليست في الإمتلاء بل في الفراغ الذي يسمح بالإمتلاء، وأن المقدس ليس في الصورة بل في الفضاء الذي يحتضن الصورة. إن السحر هو دين العدم الذي لا يحتاج إلى معابد حجرية، بل إلى قلوب فارغة وعقول قادرة على رؤية النور في قلب العتمة، والقوة في قلب التلاشي، و الوجود في قلب العدم المطلق.

_ ثقوب الرتابة: اللاشيء اليومي بوصفه رذاذ العدم الكوني و مختبر السحر

تتجلى فلسفة السحر في قدرتها الفريدة على التمييز بين العدم الكوني كأصل ميتافيزيقي و مصدر مطلق للقوة وبين اللاشيء في الحياة اليومية كفجوات إدراكية ولحظات صمت عابرة، حيث يرى السحر في اللاشيء اليومي تجلياً مجهرياً للعدم العظيم. في الرؤية السحرية، ليس اللاشيء الذي نختبره في إنتظارنا الممل، أو في الفراغات التي تفصل بين كلماتنا، أو في لحظات السرحان الذهني، مجرد فراغ زمني تافه، بل هو ثقوب في نسيج الواقع تتسرب منها طاقة العدم الكوني إلى عالم المادة. السحر يفسر اللاشيء اليومي بوصفه المادة الخام المتاحة للإنسان العادي لكي يلامس الأزل؛ فبينما يمثل العدم الكوني المحيط اللانهائي الذي يسبق الخلق، يمثل اللاشيء اليومي الرذاذ المتطاير من هذا المحيط والذي يبلل رتابة حياتنا، مانحاً إيانا فرصة لإعادة تشكيل واقعنا من خلال هذه الفجوات البسيطة. إن العلاقة بين بساطة الفراغ في تفاصيلنا اليومية وبين عظمة العدم الكوني تكمن في مفهوم الكمون السحري. فالسحر يرفض فكرة أن اللاشيء هو عدم وجود؛ بل يعتبره وجوداً في حالة راحة. عندما يواجه الإنسان اللاشيء في يومه، فإنه في الحقيقة يواجه لحظة تحرر من القوانين السببية و الضغوط المادية. هنا يتدخل التحليل السحري ليحول هذا اللاشيء إلى مساحة للطلسمة الذهنية؛ حيث يمكن للوعي أن يزرع رغباته في هذه الفجوات. الجمالية السحرية ترى أن اللاشيء اليومي هو البرزخ الذي يربطنا بالعدم الكوني؛ فالفراغ الذي تشعر به وأنت تنظر إلى جدار أبيض، أو الصمت الذي يعقب مفاجأة صادمة، هو في الحقيقة لحظة تعرية للوجود تكشف عن بساطة الفراغ الكامن خلف ضجيج الأحداث. السحر يعلمنا أن هذه اللحظات هي أثمن ما نملك، لأنها النقاط الوحيدة التي لا يسيطر عليها منطق العالم الخارجي، بل يسيطر عليها صمت العدم المقدس. علاوة على ذلك، يفسر السحر اللاشيء في الحياة اليومية بوصفه حالة من التطهير الإدراكي ضرورية لإستيعاب السحر نفسه. فلكي ندرك قوة الطلسم أو سحر الرمز، يجب أن نمر أولاً عبر بوابة اللاشيء؛ أي أن نفرغ حواسنا من الممتلئ والمألوف. العدم الكوني هو المعمل الكبير، أما اللاشيء اليومي فهو المختبر الشخصي لكل إنسان. في هذا المختبر، تعمل بساطة الفراغ كمرآة تعكس لنا حقيقة أن الوجود هش ومؤقت. السحر يحول الملل وهو الشكل الأكثر شيوعاً للاشيء اليومي إلى إنتظار إيجابي للقوة السحرية. من خلال ممارسة السحر، يصبح اللاشيء في روتيننا ليس عبئاً، بل نَفَسَاً كونياً يتيح للمادة أن تستريح قبل أن تتخذ شكلاً جديداً. إننا نعيش في عالم يقدس الإمتلاء، لكن السحر يعيد الإعتبار للاشيء، معتبراً إياه توقيع العدم في يومياتنا، وهو التوقيع الذي يمنح للحياة عمقها الغامض و جماليتها المفتوحة على اللانهائي. إن السحر، في نهاية المطاف، لا يسعى لملىء الفراغ، بل يسعى لتعميق اللاشيء حتى يلامس العدم الكوني. الجمالية السحرية هي جمالية الحد الأدنى التي تدرك أن أصغر نقطة فراغ في حياتنا اليومية هي في الواقع بوابة مشرعة نحو المطلق. من خلال فهمنا للاشيء كجزء من الثنائية التي لا تنفصم مع السحر، نتحول من كائنات مستهلكة للمادة إلى كائنات مبدعة للفراغ، قادرة على رؤية السحر في أبسط تجليات العدم.

_ إمبراطورية الإرادة: ترويض العدم وتحويل اللاشيء إلى مسرح للسيادة البشرية

تطرح هذه الإشكالية الفلسفية جوهر الصراع الوجودي بين إرادة الكينونة وجبروت الفراغ، حيث يمكن قراءة السحر بوصفه المحاولة الإنسانية الأكثر تمرداً لإثبات أن العدم، رغم كونه المحيط اللانهائي الذي يحتوي كل شيء، ليس هو السلطة النهائية في الكون. السحر، في أرقى تمثلاته الفلسفية، لا يسعى لإنكار العدم أو الهروب منه، بل يسعى لـترويضه وإخضاعه لسلطان الإرادة الواعية. إن الهدف الأسمى للسحر هنا هو إعلان سيادة اللوغوس أو الكلمة أو الخيال الفاعل على صمت اللاشيء. فإذا كان العدم يمثل القوة الكامنة التي لا شكل لها، فإن السحر هو القوة الحركية التي تمنح هذا العدم شكلاً ومعنى. الساحر، بهذا المعنى، هو الكائن الذي يجرؤ على الوقوف أمام هاوية العدم ليقول لها؛ أنتِ المادة، وأنا الصانع؛ أنتِ الفراغ، وأنا المعنى. وبذلك، يتجلى السحر كفعل إستلاب للقوة من قلب اللاشيء، محولاً بساطة الفراغ من قدر محتوم إلى أداة طيعة في يد الإرادة الإبداعية. تتجلى هذه الغلبة للإرادة على العدم في مفهوم الطلسم كقيد للعدم. فالفلسفة السحرية ترى أن العدم، في حالته الخام، هو قوة تدميرية تقوم بمحو الأشكال وتذويب الخصوصيات، ولكن بمجرد أن يخط الساحر رمزه، فإنه يقوم بتجميد جزء من العدم وتحويله إلى وظيفة محددة. هنا، تظهر بساطة الفراغ كخادم للإرادة؛ فكلما كانت الإرادة أكثر تركيزاً و صفاءً، إستطاعت أن تقتطع من مساحة العدم الشاسعة مكاناً لتحقيق المعجزات. إن الجمالية السحرية في هذا السياق هي جمالية الإنتصار الساحق للروح على الخواء؛ حيث يثبت الإبداع السحري أن العدم، رغم ضخامته الكونية، يفتقر إلى القصدية، بينما تملك الإرادة البشرية القصد الذي يوجه بوصلة الوجود. إن السحر هو البرهان العملي على أن الوعي هو نقطة الإرتكاز التي يمكنها تحريك كون من العدم، مما يجعل من العلاقة بين السحر والعدم علاقة بين الفنان و الرخام الأصم؛ فالرخام قد يكون قديماً وأزلياً، لكن التمثال هو نتاج الإرادة التي شكلته. علاوة على ذلك، يفسر السحر تفوق الإرادة عبر ظاهرة الخلق من خلال المحو. ففي بعض الطقوس السحرية العليا، يقوم الساحر بمحو وعيه الذاتي ليندمج في العدم، ليس إستسلاماً له، بل من أجل الادإستيلاء على صفاته. هذه العملية هي حصان طروادة سحري؛ حيث تدخل الإرادة إلى قلب العدم لكي تسرق منه سر الأزلية والقدرة المطلقة، ثم تعود لتتجسد في العالم المادي بقوة مضاعفة. هذا النوع من الإبداع يثبت أن العدم لا يملك القدرة على منع الإرادة من إختراقه؛ بل هو منفعل أمام فعل الإرادة. إن جمالية الفراغ تصبح هنا جمالية المسرح الفارغ الذي ينتظر الممثل؛ فالفراغ لا قيمة له دون العرض السحري الذي سيقام فوقه. السحر هو التأكيد المستمر على أن الإنسان هو ساحر العدم، وهو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يحول صمت اللاشيء إلى سيمفونية من المعاني والرموز، محولاً العدم من نهاية مخيفة إلى بداية لا نهائية للعملية الإبداعية. و في الختام، يظهر أن الهدف الأسمى للسحر هو تحقيق الألوهية البشرية عبر إثبات أن الروح هي المحرك الأول للعدم نفسه. إن العلاقة بين السحر والعدم هي علاقة تحدٍ جمالي؛ فالسحر يتحدى العدم بأن يظل بسيطاً وفارغاً، و يجبره على أن يصبح معقداً وممتلئاً بالرموز. إن بساطة الفراغ هي التحدي، وتعقيد الطلسم هو الإجابة. السحر هو الصرخة الوجودية التي تعلن أن الإرادة هي القوة الوحيدة الحقيقية في الكون، وأن العدم، بكل هيبته، ليس سوى المرآة السوداء التي تتجلى عليها عظمة الروح الإنسانية. من خلال هذا المنظور، يصبح السحر هو الإنتصار النهائي للكينونة على الفناء، والجمال على القبح، والمعنى على العبث؛ حيث تظل الإرادة هي الساحر الأكبر الذي يستخدم العدم كمادة خام ليبني قصوراً من الخيال في قلب اللاشيء، مؤكداً أن الذي يريد هو دائماً أقوى من الذي يغيب.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَا ...
- الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا ...


المزيد.....




- -خلقت ثروة طائلة-.. ترامب يعدد فوائد الرسوم الجمركية على زيا ...
- بوتين يقول إنه غير مستعجل وزيلينسكي يوضح -الخطوط الحمراء-
- أوغندا تضيع فوزا ثمينا بعد هدر ضربة جزاء وتكتفي بالتعادل 1-1 ...
- الاتحاد الأوروبي يحث على احترام -وحدة وسيادة- الصومال إثر اع ...
- شاهد.. انتشال جثمان طفل غرق في بئر بعد محاولات لإنقاذه بغزة ...
- ما مصلحة إسرائيل من الاعتراف بأرض الصومال؟
- ما تداعيات الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بـ-جمهورية أرض الصومال ...
- مخيمات النزوح في السودان.. ولادة بلا تجهيزات وتعليم بلا أدوا ...
- رئيس وزراء الصومال: إسرائيل تسعى لموطئ قدم بالقرن الأفريقي
- البرهان: لن نقبل هدنة ما دام الدعم السريع في شبر واحد من الس ...


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الْعِشْرُون-