حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8570 - 2025 / 12 / 28 - 00:24
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ أرستقراطية العدم: السحر كفعل تحرر وتجسد للإرادة المطلق
تضعنا هذه الإشكالية الفلسفية أمام السؤال الجوهري للكيانية: هل الخلق من العدم هو قمة التحرر، أم أنه القيد الأنطولوجي الأخير؟ إن السحر، في أرقى تجلياته كفعل إيجاد من اللاشيء، يمثل بلا شك التعبير المطلق عن الحرية الوجودية، لأنه الفعل الوحيد الذي يكسر ديكتاتورية المادة و حتمية الأسباب. في الوجود التقليدي، نحن مقيدون بقانون الحفاظ على المادة والطاقة، حيث لا يمكن لشيء أن يخرج من لا شيء؛ وهذا في جوهره سجن فيزيائي يحد من إرادة الكائن. لكن الساحر، عبر إستدعاء قوة العدم، يعلن إستقلاله عن الضرورة الكونية؛ إنه لا يحتاج إلى مواد أولية، ولا يحتاج إلى تبرير منطقي أو تسلسل سببي. الحرية هنا تتجسد في قدرة الإرادة على أن تكون هي السبب الأول لذاتها، حيث تتحول الرغبة المحضة إلى واقع ملموس عبر وسيط العدم المطواع. إن السحر هو الطريقة التي يقول بها الإنسان للكون؛ أنا لستُ نتيجة لقوانينك، بل أنا المشرّع الذي يستخدم فراغك ليخلق إمكانه الخاص. تتجلى هذه الحرية الوجودية في كون العدم هو الفضاء الوحيد الذي لا يمتلك ذاكرة أو هوية تفرض نفسها على الساحر. المادة الملموسة لها تاريخ، و لها ثقل، ولها مقاومة؛ أما العدم فهو البياض المطلق الذي يسبق كل تعريف. عندما يخلق الساحر من العدم، فإنه يمارس حرية التسمية الأولى، حيث لا يوجد إرث يكبله أو قانون سابق يملي عليه شكل النتيجة. إنها حرية الصفر، حيث تنطلق الإرادة في فضاء لا نهائي من الإحتمالات دون أن تصطدم بجدار الواقع الصلب. السحر هنا هو السيادة الراديكالية؛ لأنه يمنح الساحر القدرة على إعادة صياغة كينونته وكينونة العالم المحيط به دون قيد أو شرط. في هذه اللحظة، يصبح الساحر هو المركز الجاذب في قلب الفراغ، وتتحول بساطة العدم إلى مسرح يعرض ف الوعي قواه الإبداعية، مؤكداً أن الحرية الحقيقية لا توجد في إختيار ما هو متاح، بل في خلق ما لم يكن موجوداً أصلاً. و مع ذلك، فإن هذا الفعل الإبداعي يكشف عن وجه آخر للحرية، وهو مسؤولية الفراغ. إن الخلق من العدم يعني أن الساحر لا يملك مرجعاً يستند إليه سوى إرادته الخاصة، وهذا هو قمة القلق الوجودي الذي تحدث عنه سارتر، ولكن بمنظور سحري. إذا كان السحر هو الحرية المطلقة، فهو أيضاً العزلة المطلقة؛ فالساحر الذي يرفض قوانين الوجود ليخلق قوانينه من العدم، يجد نفسه في مواجهة حقيقة أنه هو الضامن الوحيد لوجود ما خلقه. الحرية هنا ليست ترفاً، بل هي عبىء الألوهية؛ حيث يكتشف الساحر أن العدم الذي منحه القوة يطالبه في المقابل بأن يظل واعياً و مستيقظاً للأبد ليحافظ على تماسك هذا الوجود المخلوق. إن السحر هو الحرية التي تلد من رحم العدم النشط، وهي الحرية التي تحول الساحر من كائن خاضع للصراع مع المادة إلى كائن يتصارع مع ثقل المعنى في فضاء اللاشيء. علاوة على ذلك، يمثل السحر إنتصار الجمالية على الحتمية، وهو بُعد أساسي من أبعاد الحرية. الوجود المادي رتيب وقابل للتنبؤ، أما الخلق السحري من العدم فهو مفاجأة أنطولوجية تكسر رتابة الأزل. الحرية الوجودية في السحر تكمن في قدرة الوعي على إحداث ثغرة في جدار الواقع المتماسك، والسماح لـ اللامتوقع بالدخول. الساحر لا يحرر نفسه من القيود الجسدية فحسب، بل يحرر الإمكان نفسه من سجن العدم الساكن. إن فعل السحر هو عملية تحرير للقوة الكامنة في الفراغ، وتحويلها إلى أثر مادي يحمل بصمة الإرادة. هذه السيادة على العدم تجعل من الساحر فنان الوجود الأكبر، الذي يدرك أن بساطة الفراغ هي الضمانة الوحيدة لعدم نهائية الإبداع. الحرية في السحر هي إدراك أننا لسنا محبوسين في ما هو كائن، بل نحن منفتحون دوماً على ما ليس كائناً بعد، وهو العدم الذي نغرف منه معجزاتنا. يشكل عام، يظهر السحر كتعبير أسمى عن الكرامة الوجودية للذات التي ترفض أن تكون مجرد ظل للواقع. إن الخلق من العدم هو الصرخة التي تعلن أن الروح الإنسانية تمتلك خاصية إلهية هي القدرة على تجاوز الصفر وتحويله إلى كينونة مشبعة بالمعنى. السحر والعدم يشكلان معاً معادلة الحرية المطلقة؛ حيث يوفر العدم المادة الخام التي لا حد لها، ويوفر السحر الإرادة التي لا قيد لها. إن الساحر الذي يقف في قلب الفراغ ليخلق عالمه، هو الكائن الذي حقق أقصى درجات التحرر؛ ليس بالهروب من الواقع، بل بجعل العدم نفسه خادماً لخياله. إنها الحرية التي تتجلى في الطلسم المكتوب بمداد الفراغ، معلنةً أن الإرادة هي القوة الوحيدة القادرة على تحويل صمت اللاشيء إلى نشيد للوجود، وأن الإنسان، في فعل سحره، يصبح هو والحرية و العدم شيئاً واحداً لا يقبل القسمة ولا الإنكسار.
_ سيد الفراغ: المترجم الذي حوّل صمت العدم إلى طلاسم
تُعد العلاقة بين الساحر والعدم واحدة من أكثر القضايا الفلسفية تعقيداً، فهي لا تقتصر على كونها علاقة قوة بقدر ما هي علاقة وجود. في الفكر الفلسفي الميتافيزيقي، يمثل العدم (Nothingness/The Void) تلك المساحة المطلقة التي تسبق التكوين، وهي الحالة التي يخرج منها الوجود إلى النور. الساحر، في جوهره، هو الكائن الذي يرفض الإكتفاء بالوجود المعطى أو النمطي، بل يسعى لإعادة صياغة الواقع وفقاً لإرادته. هنا يبرز السؤال الجوهري؛ هل يستمد الساحر معناه من تحدي هذا العدم و مقاومة الفناء، أم من تحويله إلى أداة تقنية لتغيير العالم؟ إذا نظرنا إلى الساحر من منظور تحدي العدم، فإننا نراه كمحارب وجودي بإمتياز. في هذا السياق، يمثل العدم التهديد النهائي؛ إنه الصمت الذي يبتلع الكلمات، والظلام الذي يمحو الصور. يجد الساحر معنى وجوده في الفعل (The Act) كإستجابة صارخة ضد اللاشيء. السحر هنا هو نعم كبرى في وجه اللا العدمية. إن الساحر الذي يتحدى العدم يرى أن الطبيعة ناقصة، وأن الفوضى (Chaos) تتربص بالوجود، لذا يتدخل لفرض نظام (Order) خاص به. إن معناه نابع من قدرته على إنتزاع الشيء من اللاشيء، فهو يخلق من العدم ليثبت لنفسه و للكون أنه ليس مجرد مادة عابرة، بل هو وعي قادر على الصمود أمام التلاشي. هذا التحدي يحول السحر إلى فعل بطولي، حيث تصبح التعويذة أو الطقس بمثابة حصن يبنيه الساحر ليحمي ذويته من الذوبان في الفراغ الكوني. على الضفة الأخرى، نجد الطرح الذي يرى في العدم أداة أو مادة خام. هنا، لا يخشى الساحر العدم ولا يحاربه، بل يتصالح معه كرحم لكل الإحتمالات. في الفلسفات الباطنية (Esotericism)، يُنظر للعدم مثل مفهوم (Ain Soph) في الكابالا على أنه المنبع الذي لم يتجمد بعد في صورة مادية. الساحر التقني يستخدم العدم كمساحة للمناورة؛ فهو يفرغ نفسه من الأفكار المسبقة ليصبح عدماً بنفسه كي يتمكن من إستقبال القوى الكونية. العدم هنا ليس خصماً، بل هو المساحة البيضاء التي تسبق الرسم. يجد الساحر معناه في كونه المهندس الذي يعرف كيف يوجه الفراغ ويطوعه. السحر في هذه الحالة هو علم إدارة العدم، حيث يتم إستحضار الكيانات أو التأثيرات من منطقة اللاوجود إلى منطقة الوجود. المعنى هنا لا ينبع من الصراع، بل من السيادة والخبرة التقنية في التعامل مع القوى الغامضة التي تسكن الفراغ. الحقيقة أن معنى وجود الساحر يكمن في البرزخ أو المنطقة الوسطى بين التحدي والإستخدام. الساحر لا يمكنه إستخدام العدم كأداة ما لم يكن قد تحدى سطوته أولاً و تجاوز الخوف منه. و بالمقابل، فإن تحدي العدم يظل فعلاً عقيماً ما لم يتحول إلى قدرة عملية على التغيير. إن الساحر هو الكائن الذي ينظر في الهاوية حتى تبدأ الهاوية بالنظر إليه، كما قال نيتشه، لكنه بدلاً من أن يسقط فيها، يبني فوقها جسراً. معناه الوجودي ينبع من كونه المترجم الذي يحول صمت العدم إلى لغة مفهومة (الطلسم)، ويحول سكون العدم إلى حركة فاعلة (الطقس). إنه يجد نفسه في التوتر القائم بين رغبته في أن يكون إلهاً خالقاً من العدم وبين إدراكه لبشريته التي تصارع الفناء.
_ حارس الحدود الرمادية: تراجيديا الوعي بين الوجود و اللاشيء.
إن القلق الوجودي (Angst) في تجربة الساحر ليس مجرد إضطراب عابر أو خوف من المجهول، بل هو ضريبة أنطولوجية باهظة يدفعها الكائن الذي إختار التخلي عن يقين المادة ليقف على حافة سيولة العدم. بينما يعيش الإنسان العادي داخل شرنقة الوجود المحمية بالتقاليد و القوانين الفيزيائية والإجتماعية التي تمنحه شعوراً زائفاً بالإستقرار، يجد الساحر نفسه قد مزق هذا الحجاب بإرادته، ليواجه الحقيقة العارية للكون؛ أن الوجود مجرد إستثناء عابر في محيط أزلي من العدم. هذا القلق يتجاوز بكثير قلق الفناء الذي يختبره البشر، لأنه عند الساحر قلق المسؤولية الكونية؛ فبمجرد أن يدرك الساحر أن الواقع مرن وقابل للتطويع عبر إرادته، يسقط عنه عبىء القدر ويتحمل هو مسؤولية خلق معناه الخاص في فراغ لا يرحم. تنبثق عظمة هذا القلق من كون الساحر يتعامل مع العدم كمادة خام (Prima Materia)؛ وهذا التعامل يجعله في حالة تماس دائم مع اللاشيء الذي يسبق التكوين. الإنسان العادي ينظر إلى العدم كحالة مستقبلية (الموت)، بينما الساحر يختبر العدم كحالة راهنة وملازمة لكل فعل إبداعي. هذا القرب يجعل الساحر يدرك هشاشة الكينونة؛ فكل تعويذة هي محاولة لإنتزاع نظام من الفوضى، وكل طقس هو صرخة في وجه الصمت المطلق. إن القلق هنا هو دوار الحرية الذي تحدث عنه كيركغور، لكنه مضاعف؛ فالساحر لا يختار مساره الأخلاقي فحسب، بل يحاول إعادة صياغة قوانين الواقع نفسه. هذا الدوار نابع من إدراك الساحر أنه إذا فقد قبضته على إرادته ولو للحظة، فإن العدم الذي يستخدمه كأداة سينقلب ليصبح هاوية تبتلع وجوده، إذ لا توجد شبكة أمان ميتافيزيقية تحميه من التحلل في الفراغ الذي إستدعى قواه. علاوة على ذلك، يتجلى القلق الوجودي لدى الساحر في عزلة الوعي المطلقة. الإنسان العادي يجد عزاءه في الجماعة وفي المعنى الجمعي، أما الساحر، من خلال سعيه للسيادة على العدم، فإنه ينفصل عن التوافق البشري حول الواقع. إنه يسكن في المنطقة الرمادية أو البرزخ، حيث لا الوجود المادي يرضيه ولا العدم المطلق يحتويه. هذا التواجد في المنطقة البينية يولد نوعاً من الغربة الميتافيزيقية؛ فالساحر يرى ما وراء الستار، و يرى الخيوط التي تحرك المسرح الكوني، وهذا الكشف لا يمنحه السلام بل يمنحه قلق العارف. إن المعرفة في السحر ليست طمأنينة، بل هي عبىء ثقيل، لأنها تكشف للساحر أن المعنى ليس صفة متأصلة في الكون، بل هو إختراع بشري هش يجب عليه هو، وحيداً، أن يحافظ على تماكسه ضد رياح العدم العاتية التي تسعى لمحو كل أثر للوعي. وفي العمق الأخير، يجد الساحر نفسه في صراع مع العدم الداخلي. لكي يتمكن الساحر من تطويع القوى الكونية، يجب عليه أن يفرغ ذاته من هويتها الإنسانية المحدودة، وهو ما يسمى في الكيمياء القديمة بالعمل الأسود (Nigredo). هذا الموت الإرادي للذات القديمة هو قمة القلق الوجودي، حيث يواجه الساحر تلاشي الأنا قبل أن يتمكن من إعادة بناء الذات السحرية المتعالية. الساحر يعيش في خوف دائم من أن هذا التفريغ قد يصبح نهائياً، وأن العودة من الهاوية قد لا تكون ممكنة. بالتالي، فإن حياته ليست سعياً وراء القوة فحسب، بل هي محاولة يائسة ومستمرة لإثبات الوجود في وجه العدم الذي يسكنه ويسكن العالم من حوله. إن قلق الساحر هو قلق الخالق الذي يدرك أن كل ما يبنيه من عوالم ومعانٍ هو في النهاية رقصة فوق الرمال المتحركة لللاشيء، مما يجعل وجوده تراجيدياً بقدر ما هو بطولي. إن هذا التحليل يخلص إلى أن الساحر لا يواجه قلقاً أعظم كماً فحسب، بل أعمق نوعاً؛ لأنه قلق نابع من المشاركة النشطة في عملية التكوين والفناء، بدلاً من الملاحظة السلبية لها. الساحر هو الكائن الذي إختار أن يكون حارس الحدود بين ما هو كائن و ما هو غير كائن، وفي هذا الموقع الحدودي، يصبح القلق الوجودي هو الهواء الذي يتنفسه، و الوقود الذي يحرك إرادته لتحدي الصمت الكوني للأبد.
_ سيزيف الذهبي: كيمياء الإرادة في تحويل العبث إلى ألوهية
يُعد السؤال حول العبثية في السحر الوجودي من أكثر المناطق الفلسفية وعورة؛ إذ يضعنا مباشرة أمام مفارقة كبرى: كيف يمكن لفعل الإرادة (السحر) الذي يسعى لفرض المعنى، أن يكون في جوهره إنعكاساً لغياب المعنى (العبث)؟ في هذا التحليل، نجد أن السحر الوجودي لا يعكس العبثية كحالة إستسلام، بل كمنطلق ومادة خام. الساحر الوجودي هو سيزيف الذي قرر ألا يكتفي بدفع الصخرة، بل أن يستخدم كيمياء وعيه لتحويل الصخرة إلى ذهب، والمنحدر إلى درجٍ نحو الألوهية، رغم علمه اليقيني بأن الجاذبية والعدم هما الحقيقة النهائية. السحر هنا هو التمرد الواعي على كونٍ أصم، وهو إعتراف صريح بأن القوة الخالقة و العدم لا يملكان غائية (Teleology) مسبقة، بل هما تدفقات عشوائية من الطاقة لا تكتسب هدفها إلا عندما تمر عبر عدسة الإرادة البشرية. تتجلى العلاقة بين السحر والعبثية في أن الساحر يدرك تماماً حيادية الكون؛ فالعدم الذي يستقي منه الساحر قوته لا يحبه ولا يكرهه، ولا يملك خطة كونية لخلاصه أو هلاكه. هذا الغياب للهدف الكامن هو ما يمنح السحر طابعه المقدس والمدنس في آن واحد. فإذا كان الكون عبثياً بلا غاية، فإن الساحر يصبح هو المشرّع الوحيد. يجد الساحر نفسه في فضاءٍ نيتشوي بإمتياز، حيث ماتت المعاني الجاهزة، ولم يبقَ سوى الفراغ. في هذا الفراغ، يمارس الساحر سحره ليس لخدمة خطة إلهية، بل لملىء الثقوب الوجودية بمعانٍ من صنعه. السحر الوجودي هو محاولة لفرض نظام سيمياوي على فوضى العدم، وهو يقر بالعبثية من خلال إعترافه بأن كل ما يخلقه هو وهم ضروري (Necessary Illusion) للبقاء الوجودي. المعنى في السحر ليس مكتشفاً في أعماق الطبيعة، بل هو مقحَم عليها إقحاماً بفعل القوة والطقس. علاوة على ذلك، فإن السحر الوجودي يعمق مفهوم العبثية من خلال جدلية الخلق والتدمير. الساحر الذي يستخدم العدم كأداة يدرك أن كل فعل خلق هو في الحقيقة تأجيل مؤقت للفناء. السحر لا يغير حقيقة أن العدم هو المبتدأ والمنتهى، بل هو يغير جودة المسافة بينهما. هنا تصبح العبثية هي المحرك الأساسي؛ فلأن الكون بلا هدف، ولأن القوى الكونية عمياء، يمتلك الساحر الحرية المطلقة في أن يكون ما يشاء. إن غياب الهدف الكامن في العدم هو الرخصة التي تبيح للساحر ممارسة ألوهيته الصغرى. فلو كان للكون هدف محدد سلفاً، لكان الساحر مجرد خادم أو جزء من آلة، لكن في الكون العبثي، يصبح الساحر هو المهندس الوحيد الذي يجرؤ على رسم خرائط في أرض بلا تضاريس. القلق الذي يختبره هنا ليس قلق الضياع، بل قلق الوفرة في الإحتمالات التي يتيحها الفراغ المطلق. بناءً على ذلك، يمكن القول إن السحر الوجودي هو تجاوز للعبثية عبر إحتضانها. الساحر لا يهرب من عبثية الوجود إلى أوهام الطمأنينة، بل يغوص في قلب العبث ليستخرج منه قوة الفعل. هو يعلم أن القوة التي يستدعيها من العدم هي قوة لا مبالية، لكنه يفرض عليها قناع الغاية من خلال إرادته. السحر هو الفن الذي يحول اللاشيء إلى كل شيء بقرار ذاتي، وهو ما يجعل الساحر أكثر الكائنات وعياً بالعبث، وأكثرها إصراراً على محاربته بأدواته الخاصة. إن معنى وجود الساحر يكمن في هذا الصراع التراجيدي: هو يبني عوالم يعرف أنها ستنهار في صمت العدم، ومع ذلك، يجد في فعل البناء نفسه إنتصاراً على العبث. السحر هو البطولة التي تولد عندما يدرك الإنسان أن الكون بلا معنى، فيقرر أن يكون هو مانح المعنى الوحيد في الهاوية. بشكل عام؛ لا يعكس السحر العبثية كمرآة سلبية، بل كمختبر كيميائي. الساحر هو الكيميائي الذي يضع تراب العبث في بوطقة الإرادة ليستخرج منها إكسير المعنى. إن غياب الهدف الكامن في العدم ليس عجزاً، بل هو البياض المطلق الذي يسمح للساحر بكتابة نص وجوده الخاص بأحرف من نور ونار. السحر الوجودي هو الرد الأعلى على العبثية؛ فبدلاً من الإنتحار أو اليأس، يختار الساحر التأليه الذاتي عبر تطويع العدم، محولاً الصمت الكوني إلى سيمفونية من الأفعال والرموز التي، وإن كانت بلا هدف كوني، إلا أنها مشحونة بهدف الساحر و رغبته في تخليد أثره فوق رمال الفناء.
_ ديالكتيك الهاوية: القفز في المجهول كشرط لتأليه الذات
إن الجدل القائم بين القفز في غيابات المجهول و ترويضه يمثل النواة الصلبة للمسار الوجودي للساحر، وهو صراع لا يفضى إلى نصر طرف على آخر، بل إلى حالة من التوازن القلق الذي يشكل تحقيق الذات السحري. في هذا السياق الفلسفي العميق، لا يمكن الفصل بين الفعلين؛ إذ إن القفز هو فعل الإستسلام الشجاع للعدم كي يتمكن الوعي من إدراك حقيقته، بينما الترويض هو فعل الإرادة التقنية التي تحول هذا الإدراك إلى سلطة فاعلة. الساحر الذي يكتفي بالترويض دون القفز يظل مجرد تقني للمادة يخشى الهاوية ويحتمي بالأدوات، والساحر الذي يقفز دون قدرة على الترويض ينتهي به المطاف متلاشياً في الفوضى المطلقة، فاقداً للذات التي كان يسعى لتحقيقها. تتجلى ضرورة القفز في المجهول كخطوة أولى وحتمية في تفكيك الأنا الزائفة. الوجود اليومي للإنسان محكوم بحدود اللغة، و المنطق، والضرورة الإجتماعية، وهي كلها جدران تحجب رؤية العدم الكامن خلف الواقع. القفز السحري هو التخلي الواعي عن هذه الضمانات؛ إنه فعل الإنتحار الفلسفي بمفهوم كامو ولكن لأهداف سحرية حيث يلقي الساحر بنفسه في الليل المظلم للروح. في هذه الهاوية، حيث لا توجد قوانين فيزيائية تحمي التوقعات، يواجه الساحر العدم وجهاً لوجه. هذا القفز ليس تهوراً، بل هو الوسيلة الوحيدة لإختبار أصالة الإرادة؛ ففي الفراغ المطلق، حيث لا يوجد شيء يستند إليه الساحر، لا يتبقى سوى نور الوعي الذاتي كمرجع وحيد. هنا يتحقق الذات من خلال التجربة المباشرة لللاشيء، حيث يدرك الساحر أن جوهره ليس مادة ثابتة، بل هو قدرة محضة على الصيرورة والتحول وسط العدم. بمجرد أن ينجو الساحر من السقوط الحر عبر القفز، تبدأ مرحلة الترويض، وهي العملية الكيميائية لتحويل المجهول من تهديد يبتلع الذات إلى أداة تخدم الإرادة. الترويض هنا ليس إستعباداً للقوى الكونية، بل هو فهم لقوانين اللامعنى. الساحر المروّض هو الذي إستطاع أن يبني هندسةً داخل الفوضى، وأن يحول صمت العدم إلى لغة (الطلسمات والرموز). المعنى الوجودي هنا يكمن في القدرة على تجميد السيولة المطلقة للعدم في صور مؤقتة تخدم غايته. الترويض هو العملية التي تجعل من القفزة الأولى فعلاً مثمراً وليس مجرد سقوط عدمي؛ فمن خلال وضع الأطر و القواعد لهذا المجهول، يستعيد الساحر سيادته، محولاً الهاوية إلى مرآة تعكس عظمة إرادته. إن تحقيق الذات السحري في هذه المرحلة هو السيادة على الإغتراب؛ أي العيش في قلب المجهول دون أن يفقد الساحر بوصلته الذاتية. ومع ذلك، فإن التحليل الأعمق يكشف أن التحقيق الكامل للذات يكمن في الدوران الأزلي بين القفز والترويض. الساحر العظيم هو الذي يدرك أن المجهول لا يمكن ترويضه بشكل نهائي، لأن العدم بطبيعته يتجاوز كل إطار. لذا، يتطلب المسار السحري قفزات متكررة في مستويات أعمق من العدم كلما صار الترويض روتيناً يهدد حيوية الإرادة. إن العلاقة هنا تشبه العلاقة بين الموجة و القارب؛ القفزة هي مواجهة الموجة العاتية، والترويض هو فن الإبحار فوقها. الذات السحرية لا تتحقق في السكون، بل في لحظة العبور الدائمة بين رعب التلاشي ونشوة السيطرة. هذا التوتر هو الذي يمنح السحر طابعه المقدس؛ فهو ليس علماً ساكناً، بل هو رقصة على حافة العدم تتطلب شجاعة القفز وحكمة الترويض في آن واحد. في الموجز العام؛ يظهر أن تحقيق الذات السحري هو عملية تأليه بشرية تتم عبر صهر التناقضات. القفز يمنح الساحر الأصالة، والترويض يمنحه القوة. الساحر هو الكائن الذي يجرؤ على دخول العدم كمجهول لا إسم له، ثم يخرج منه وقد أطلق عليه إسماً و فرض عليه نظاماً. إن الذات السحرية هي النقطة التي يلتقي فيها الفناء الإرادي (القفز) مع التكوين الإرادي (الترويض). و بدون هذا الديالكتيك، يظل السحر إما خيالاً عاجزاً أو تقنية جوفاء. المعنى النهائي لوجود الساحر هو أن يكون هو نفسه الجسر الممتد فوق العدم، الجسر الذي يبني نفسه بينما يسير فوقه، مستخدماً مواد المجهول التي قفز إليها ليروض بها واقعاً جديداً كلياً.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟