أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - سلوك الشراء عند 39 درجة تحت الصفر














المزيد.....

سلوك الشراء عند 39 درجة تحت الصفر


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 02:47
المحور: قضايا ثقافية
    


لم أكن أصدّق يومها معنى أن تهبط درجات الحرارة إلى مستوياتٍ يستغيث عندها الثلج نفسه من شدّة البرودة ،كأنّ التراكم الأبيض يرتجف، متجمّدًا بصراخٍ صامت، وبهـدوءٍ لا يعرف الثلج فيه معنى السكون. كانت الدنيا قد بلغت نقطة تجمّدٍ تتجاوز التجمّد ذاته، عالمًا ما وراء الصفر، حيث بثّت السماء لونًا أصفر غريبًا. لم أفهم فيزياء هذا اللون، سوى أنّه أعادني إلى أزمنةٍ بعيدة من الشرق، حين كانت العواصف الترابية الصفراء تلفّ شتاءات طفولتنا، وتستقر في ملفّ الذاكرة الأولى.
كيف أصل إلى السوبر ماركت الكبير لأتزوّد باحتياجات المنزل، وقد نفدت أساسياته، في هذه الحراجة المناخية التي اختفت فيها الكائنات كلّها؟
سرتُ فوق ثلجٍ مات بردًا تحت قدميّ، خطواتٍ ثقيلة في منطقتي السكنية التي عشتُ فيها قبل أقل من خمسة عقود، تلك المنطقة التي حملت اسم بقالة كبيرة معتدلة الأسعار تُدعى «لوبلاس»، وهي فرع من سلسلة Loblaws، إحدى أكبر متاجر البقالة في كندا، والقريبة من شارع McArthur ومنطقة Vanier في أوتاوا ،زمنٌ بعيد ما زال يقيم في الذاكرة.
لم أستطع السير سوى أمتار قليلة حتى استوقفتني بقالة الحي: مساحة محدودة، لكنها عامرة بالبضاعة. غير أنّ أسعارها كانت ترتفع على نحوٍ يعاكس انخفاض درجات الحرارة ، ارتفع ثمن الخبز والحليب وعلب القهوة والجبن والزبدة، أمّا الخضار والفواكه الطازجة فقد هربت بأسعارها قبل أن أهرب منها.
تمازحتُ مع صاحب البقالة:
– منذ متى افتتحت؟
أجاب فورًا:
– قبل لوبلاس بساعتين.
سألته:
– ومتى تُغلق؟
قال بسرعة موجة البرد التي اجتاحت الحياة كقوّة احتلال:
– بعد لوبلاس بأربع ساعات.
قلتُ:
– سيكون الوقت متأخرًا ليلًا.
ابتسم وقال:
– هذه فرصتي… السريع يسبق البطيء.

قلت له:
– لكن الكبير يبتلع الصغير في عصر ثورة المعرفة!
ضحكنا معًا على مفارقة التنافسية غير المتكافئة، وأدركتُ حينها أنّ الزمن والطبيعة القاسية بلونها الأصفر ، هما من يعيدان توازن الربح بين قوى السوق. تبسّمتُ لحكمة الرجل، وحملتُ الخبز والحليب والجبن، بعد أن دفعتُ ثمنًا أضيفت إليه «علاوة البرد»، ودخلت مشترياتي عالمًا ما بعد الجماد.
اليوم، في العصر الرقمي، عصر المعلوماتية، بات السريع يأكل البطيء.
حدّثني حفيدي أنّ حانوت المدرسة أصبح بطيئًا في إعداد الوجبات خلال الاستراحة الكبيرة. سرّني أنّه اتصل بمطعم للوجبات السريعة في وسط بغداد مستخدمًا خوارزميات الهاتف الذكي، ولم تمضِ سوى عشر دقائق حتى تسلّم ساندويشًا دافئًا، بينما كان زملاؤه ما يزالون في طابور مطعم المدرسة الصغير، يتزاحمون اتّقاءً لبردٍ لا يُقاس بشيء أمام سالب 39.

ختاماً، تذكّرتُ أوتاوا، لا بوصفها مدينةً باردة، بل بوصفها درسًا في معنى الزمن حين يشتدّ. يومها، عند سالب 39، لم تنتصر البقالة الصغيرة على الكبيرة لأنها أرخص أو أذكى، بل لأنها كانت أقرب إلى الإنسان في لحظة حرجة .
هناك، حين يتقلّص الهامش بين الحاجة والقدرة، يصبح الزمن هو السلعة الأثمن، وتتحوّل السرعة من ميزة تقنية إلى قيمة وجودية.
في ذلك البرد القاسي، انكشفت السوق على حقيقتها: ليست أرقامًا ولا أحجامًا، بل استجابات بشرية لظروف استثنائية.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ عالمٌ جديد يتشكّل بهدوء ، عالم لا تحكمه بالضرورة معادلة «الكبير يبتلع الصغير»، بل منطقٌ أدقّ: من يفهم الزمن، ويصغي للطبيعة، ويقترب من الإنسان، هو من يعيد رسم توازن السوق.
ولعلّ هذا هو الدرس الأعمق الذي حملته معي من هناك:
(أن التقدّم لا يُقاس بالحجم وحده، ولا بالقوة وحدها، بل بالقدرة على الحضور في اللحظة المناسبة… حتى لو كانت اللحظة عند سالب 39).



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجيران في زمن التحوّل الرقمي
- تماثيل الثلج: حين تتكسّر رتابة الحياة وجمودها
- شقاء الطبقة الوسطى: حكاية أمّ وابنتيها حين خانتهنّ الحياة
- جين أوستن: حياة قصيرة… وعاطفة طويلة لا تنطفئ (في الذكرى الـ2 ...
- بين الدفع النقدي والدفع الرقمي: امتحان الكرامة خارج الوطن
- علم اقتصاد المعنى…بين القلم والممحاة
- زلزال في اليابان… أم رسالة انتظار خُطّت بالدموع
- أنثروبولوجيا الديمقراطية في العراق
- إفطار في نيويورك وصداه في بغداد
- السعر وصراخ الحرية : زوربا من جديد
- ذاكرة الجوع وابتكارات البقاء: سردية من بكين
- ثلاثية تتناسل في معارك الشرق: التواطؤ… السلطة… التبرير
- عاصفة عيد ميلادي: الخريف الضائع
- الطبيب حميد تاج الدين رجالٌ عظامٌ من بلادي
- خطاب الصمت في الفضاء الرقمي السائل
- منظر دجلة بين طفولتي وكهولتي: الخوف والخجل
- علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي
- رغيف الخبز: الأم والوطن والطفولة (من ذاكرة الجمر والقمح)
- قصر النهاية: حين مررنا بالسجن ولم نعد إلى بابل
- الشاي… نباتُ الصين العظيم من قرن الإذلال إلى الحرب التجارية ...


المزيد.....




- -والي دمشق الداعشي-.. لماذا وصفت السلطات السورية القبض عليه ...
- ألمانيا و13 دولة أخرى تندد بخطة إسرائيل إقامة مستوطنات بالضف ...
- الرجال يبكون عجزا.. قصص مروعة تنقلها مقررة أممية من مخيمات ا ...
- الجيش الأردني يعلن شن غارات على -شبكات تهريب المخدرات- في جن ...
- واشنطن تلاحق مسؤولاً بارزًا في الحرس الثوري الإيراني.. ماذا ...
- ألمانيا و13دولة أخرى تندد بخطة إسرائيل إقامة مستوطنات بالضفة ...
- اتفاق غزة يراوح مكانه.. نزع السلاح شرط أم ذريعة؟
- لماذا لا تريد إسرائيل عبور اتفاق غزة إلى مرحلته الثانية؟
- كنائس فلسطين تحيي عيد الميلاد المجيد رغم تضييقات الاحتلال
- تطورات فضائح إبستين.. مليون وثيقة جديدة ومحامون يعملون على م ...


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - سلوك الشراء عند 39 درجة تحت الصفر