أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - طينٌ لا يُغتَفَر














المزيد.....

طينٌ لا يُغتَفَر


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 22:27
المحور: الادب والفن
    


في قرية "الشرهان"، لم يكن الطين مجرد أرض، كان ذاكرةً لزجة تمسك بالأقدام فلا تدع أحداً يرحل حقاً. الريف هناك لا يحتاج إلى يقين ليدينك؛ يكفي أن تمرّ ريحٌ محملة بوشاية عابرة، حتى تهتز البيوت القصبية وتوصد الأبواب على أعمارٍ كاملة.

دخل محمد بيت أخته سعاد. لم يطرق الباب، دخل كأن قضاءً مبرماً قد حلّ. كان وجهه يابساً، متغضناً كأرضٍ هجرها النهر منذ مواسم، وعيناه تلمعان ببريقٍ معدني بارد. وقف في وسط الحجرة ونفض غبار كوفيتة بحدة:

– إلى متى ننكس رؤوسنا في الطين؟ العار ما ييبس يا سعاد.

رفعت سعاد رأسها المثقل بالهمّ، كانت عيناها غائرتين كبئرٍ جفت. قالت بصوتٍ مخنوق:

– الرجل مات.. قتلوه وانتهى الأمر.لماذا أتنبش في قبره ؟

ابتسم محمد بمرارة، وسحب نفساً ثقيلاً:

– القبر يغلق على الجثة، لكنه يظل مفتوحاً أمام الناس. نسيبي لم يترك لنا إرثاً سوى وجوهٍ منكسرة. زناه صار قلادة في أعناقنا.

من خلف الستارة المتهالكة، برزت ليلى. لم تكن مرتبكة، بل كانت واقفة بصلابة غريبة، عيناها تتحديان الغبار المتطاير في ضوء الشمس المتسلل من الثقوب:

– ذنب أبي لا يحمله أحدٌ غيره. نحن ما فعلنا شيئاً يا خالي.

التفت إليها بعينين خاليتين من أي مودة:

– أبوكِ لم يفكر بكن حين هتك الحرمات. في هذا الريف يا ابنة أختي، "كما تدين تُدان"، والديون تُسدّد من لحم النساء.

صرخت سعاد وهي تضرب صدرها:

– اتقِ الله! ما ذنب بناتي؟

اقترب محمد منها، وانخفض صوته حتى صار فحيحاً:

– الذنب ليس ذنبهن.. لكنه القصاص الذي يرضي الناس.

رحلوا مع الفجر. لم يكن رحيلاً بل هروباً صامتاً. تركوا طين "الشرهان" المجبول بدم الأب، وحملوا اسمه؛ ذلك الثقل الذي لم تكن الحقائب لتسعه.
في المدينة القريبة، توزعوا على الخدمة. دخلت ليلى بيت شيخٍ مقعد، تقتات على الصمت وتغسل غبار الأيام.
أما "منى"، ريحانة العائلة الصغيرة، فقد ذهبت لتخدم في دار المهندس حسين؛ رجل الري الذي كانت ثيابه ناصعة كأنها لم تلمس وحلاً قط.

كان حسين يبتسم لمنى، يمنحها كلماتٍ لم تسمعها في بيوت القصب. كانت ليلى تلمح في عيني أختها بريقاً مرعباً، فتحذرها:

– يا منى، نحن بنات الطين، والمدينة صوانٌ لا يرحم. احذري من اللسان الحلو.

لكن منى، التي كانت تبحث عن أمانٍ مفقود، سقطت في فخ الوهم. وفي ليلةٍ مخنوقة الرطوبة، تهاوت القلاع الورقية.
عادت منى إلى غرفتهن بائسة، تجرّ أذيال خيبتها، ارتمت عند الجدار ولم تقل سوى كلمة واحدة، خرجت كأنها طلقة رحمة:

– انتهيت.

لم يمهله القدر. عرف محمد. لم يسأل عن التفاصيل، فالقصة بالنسبة له كانت مكتوبة منذ سنوات في "الشرهان".
سحب منى من ضفيرتها نحو أطراف القرية الجديدة، حيث القصب ينحني بصمت كأنه شاهدٌ لا يملك لساًن .
تعلقت ليلى بثوبه وهي تصرخ:

– خالي.. هي ضحية! لا تقتلها مرتين!

لكن السكين كانت قد أعلنت حكمها. سقطت منى، واختلط دمها الدافئ بطين الساقية. صمتت الدنيا، وبقي محمد واقفاً ينظر إلى يديه، كمن تخلص أخيراً من حملٍ ثقيل، بينما كانت ليلى تجثو بجانب الجثة، لا تبكي، بل تخزن في مسامها برد الموت.

بعد أيام، وقفت ليلى أمام باب حسين. كان البيت هادئاً، والحديقة تفوح برائحة الورد والتراب المبلل، كأن شيئاً لم يحدث. دخلت عليه، وجدته جالساً خلف مكتبه، نظيفاً ومنمقاً. نظر إليها بهدوءٍ مستفز، كأنما كان ينتظرها:

– كنت أعلم أنكِ ستأتين.

سكت قليلاً، ثم تابع بصوتٍ ثقيل:

– أخطأتُ.. أعرف. لكن الدم الذي سُفك لن يغير من الواقع شيئاً. منى ذهبت، والندم لا يحيي الموتى.

كانت يد ليلى داخل جيبها، تقبض على نصلٍ بارد، تشعر بثقله يضغط على عظام يدها. رأت في وجهه ضعفاً، لم يكن وحشاً، بل كان رجلاً تافهاً يحتمي بأسواره.
تراءت لها صورة منى وهي تُسحب، وصورة خالها وهو يصلي الفجر بعد القتل.

أرخت يدها. سحبت السكين الصامتة وأخرجتها فارغة.

– لن أقتلك.

تنفس حسين بارتياحٍ مشوب بالذل:

– يعني.. انتهى كل شيء؟

هزت رأسها ببطء، وعيناها تثقبان روحه:

– لا. لم ينتهِ. أنت ستبقى حياً، لكنك لن تكون بريئاً أبداً. وأنا سأخرج من هنا، لكني لن أنجو من هذا الوجع.

وقفت ليلى عند حافة الساقية، حيث ينساب الماء صامتاً كأنه يهرب من شيءٍ ما. جثت على ركبتيها، وغرست كفيها في الماء البارد. كانت تطارد تلك البقعة الوهمية التي علقت في مسامها منذ أن سقطت "منى".
فركت جلدها بقسوة، لكنها كلما حركت الماء، اهتزت صورتها المنعكسة على سطحه، فبدت ملامحها ممزقة، وكأن وجهها يتشكل من جديد من طين القاع لا من ضياء الفجر.

أدركت ليلى أن الساقية قد تطهر الثياب، وقد تبلل الريق، لكنها لا تملك قطرة واحدة تكفي لغسل "اسمٍ" لوثته الظنون.
رفعت كفيها المبللتين، ونظرت إليهما في ضوء القمر الشاحب. لم تكن يداها ملطختين بدمٍ حقيقي، لكنها شعرت بثقلهما؛ ثقل السكين التي لم تستخدمها، وثقل الصرخة التي خنقتها في حنجرتها.

توقفت عن الغسل. تركت يديها غارقتين في الماء الراكد، وأسندت جبينها إلى تراب الحافة المبلل. استنشقت رائحة الأرض، تلك الرائحة التي رافقتهم من "الشرهان" إلى هنا، رائحة الطين الذي لا يُغتفر لأنه لا ينسى.

لم تبكِ؛ فالبكاء يحتاج إلى أملٍ في التطهير، وهي قد تيقنت أنها لم تنتقم، ولم تغفر، ولم تنجُ. ففي ريفٍ يقدس الموت، تظل "الجريمة" هي الناجية الوحيدة، تسبح في مياه هذه الساقية، وتجري في عروق القرى بانتظار ضحيةٍ أخرى تولد وفي دمها وِزرُ من سبقوها.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيرة رجلٍ لم يعثر على صورته
- قبرٌ في الروح
- وصية لم تكتمل
- صدأ الشالجية
- خارج المتن
- عقد بلا فرح
- وصل الغرامة
- التخلّي البابلي
- شخابيط النزف الأخير
- السترة الاخيرة
- الجثة التي لا تُريد أن تموت
- غرباء في روح واحدة
- الطين الذي لا يساوم
- دماء وطين
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار


المزيد.....




- مدينة أهواز الإيرانية تحتضن مؤتمر اللغة العربية الـ5 + فيديو ...
- تكريمات عربية وحضور فلسطيني لافت في جوائز -أيام قرطاج السينم ...
- -الست- يوقظ الذاكرة ويشعل الجدل.. هل أنصف الفيلم أم كلثوم أم ...
- بعد 7 سنوات من اللجوء.. قبائل تتقاسم الأرض واللغة في شمال ال ...
- 4 نكهات للضحك.. أفضل الأفلام الكوميدية لعام 2025
- فيلم -القصص- المصري يفوز بالجائزة الذهبية لأيام قرطاج السينم ...
- مصطفى محمد غريب: هواجس معبأة بالأسى
- -أعيدوا النظر في تلك المقبرة-.. رحلة شعرية بين سراديب الموت ...
- 7 تشرين الثاني عيداً للمقام العراقي.. حسين الأعظمي: تراث بغد ...
- غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - طينٌ لا يُغتَفَر