أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الطين الذي لا يساوم















المزيد.....

الطين الذي لا يساوم


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 11:42
المحور: الادب والفن
    


كانت قرية الريحانة في ريف العمارة تعيش على إيقاع الأرض والماء، كأن دجلة الذي يعبرها يجري في عروق أهلها. لم تكن الأرض مجرد مصدر رزق، بل كانت جزءاً من الهوية، من الذاكرة، من معنى أن يكون الإنسان ابنَ هذه البقعة من الجنوب.
وكان موسم الري الذي يأتي كل عشرة أيام يمثل وعداً بالحياة، لحظة تنتعش فيها الحقول وتفوح منها رائحة القصب والبردي.
​في صباح قائظ، ظهر الصركال عبود المخوضَر ممتطياً فرسه، تحيط به ملامح ارتجاف لم يعتدها الناس. هتف بجمعٍ من الرجال الذين اجتمعوا حول الساقية الكبيرة، وقال وهو يفتح ورقة رسمية بخط المتصرف:
«يا ولد... القرار وصل. نوبة الماي راح تنقص. تصير خمس أيام بس.»
​هبت في الجمع همهمة مضطربة، ثم انفجر صوت سالم أبو مطشر، الرجل المعروف بصلابة رأيه وكأنه عود قصب لا يميل:
«وشنو ذنب زروعنا؟ الحنطة هاذي بيش تنبت؟ نزرعه بدموعنا لو بجروحنا؟»
​حاول الصركال التملص، عيناه تهربان من نظرات الرجال:
«آني مأدري، القرار حكومي... والشيخ سلمان هو الماشي بالدولة. مو بيدي شي.»
​لكن رجلاً مسناً نحيلاً، يداه تتشققان من أثر الطين، قال هامساً سمعه الجميع:
«لا تصدّگ... الشيخ سلمان هو اللي دفع المتصرف. هو يريد الماي كله لمضيفه وأرضه الجديدة.»
كانت هذه الجملة كمن يسكب زيتًا على نار كامنة. فالشيخ سلمان، صاحب النفوذ الواسع، لم يكن يأخذ إلا ليأخذ أكثر.
​بالليل، اجتمع كبار القرية في بيت محفوظ أفندي. محفوظ، المتعلم الوحيد الذي يرتدي نظارة ويحمل قلق المدينة في قلبه، تصفح الورقة الرسمية بقلق واضح وقال:
«الورقة قانونية. بس فيها ثغرة. أحسن حل... نرفع عريضة للحكومة. نوقع كلنا. لازم يسمعون صوتنا قبل ما تجف الأرض.»
​وافق الرجال مضطرين، فالكلمة آخر ما بقي لهم من القوة. كتب محفوظ العريضة بعناية، حملوها إلى الشيخ سلمان، ليمررها بحكم نفوذه.
استقبلهم الشيخ بابتسامة سمينة، لم تُطمئن أحداً، وقال وهو يقلب الورقة:
«وقعوا، آني خادمكم. ما أرضى يصير عليكم ظلم.»
​لكن الشيخ دسّ بنداً آخر في الطلب دون علمهم: السماح بإنشاء طريق جديد يمرّ عبر أخصب أراضي الفلاحين وصولًا إلى مضيفه الكبير.
​وفي اليوم التالي، فوجئ أهل الريحانة بعمّاله يجولون في الحقول، يقيسون الأرض ويضعون الأوتاد الخشبية. بدا المشهد كأنه تقسيم جديد للقرية، تقسيم يبتلع ما تبقى للفلاحين من حقولهم القليلة.
​وقف سالم يراقب إحدى العلامات وقال بهدوء مخيف:
«هاي العلامة... لو سچّين مدفونه بجوف الأرض؟ منو اللي يبيع عرض ابنه؟ هالأرض هي عرضنا.»
​اجتمع الرجال تلك الليلة تحت نخلة معمّرة، تهبّ حولها ريح جنوبية محمّلة بعبق الطّم الشرقي، تلك الرائحة التي تختلط فيها رطوبة الهور بطين الأرض.
​وقف سالم بينهم وقال بصوت يشبه طرق المطرقة على السندان:
«يالله يارجال... إذا ما نوكف هسه، باچر ما تبقى أرض ندفن بيها حسراتنا. الشيخ إذا اخذ الماي... يصير ياخذ العمر كله.
خذوا الوثيقة، وشقوها، القانون اللي ما يحمينا هو اللي يذبحنا.»
​تردد محفوظ أفندي بوجل:
«وإذا الدولة وقفت ويّاه؟ إحنا نضيع يا سالم. يصيرون يجرّون كل واحد بينا للسجن.»
​ردّ سالم دون تردد: «نوكف الماي. نرمي الحديد بالساكية. نخلي مايهُم يوكف قبل ما يوصل. إحنا ما اعتدينا على أحد... إحنا ندافع عن اللكمة والشرف.»
​قبل الفجر، حمل الرجال قضبان الحديد الصدئة ونزلوا إلى الساقية، يثبتونها في مجرى الماء بقوة الغاضب اليائس. قال سالم وهو يضع آخر قضيب في الطين البارد:
«اللهم أشهد... ما تجبّرنا، بس نريد حقنا.»
​ولم تمضِ ساعات حتى وصل الخبر للمتصرف عبر عيون الشيخ. ومع الظهيرة، عبرت خيول الهجانة إلى القرية، يتقدمهم ضابط غليظ الملامح وشارب كثيف.
دخلوا الريحانة كأنهم يدخلون أرضاً متمردة، وارتفعت أصوات النساء وهن يسحبن أطفالهن إلى داخل البيوت الطينية.
​صرخ الضابط بصوت مدوٍ:
«من هسه... ممنوع التجوال. وكل أرض تابعة للمتمردين تُصادر بالقانون، وكل واحد رفع سچينة على الدولة مصيره السجن!»
​اختبأ الرجال في البيوت، إلا سالم الذي وقف أمام أرضه، كأنه نخلة لا تنحني، يداه تقبضان على الفأس.
​تقدم منه الضابط ببطء، ناظراً إليه بازدراء: «إنت سالم أبو مطشر؟ أنت اللي فكرت توكف مجرى الدولة؟»
​أجاب سالم بثبات، وصوته يخرج من عمق الأرض:
«إي... وإذا تفتهم أكثر، آني ولد هاذي الأرض. واللي يمد إيده عليها... يمدها على روحي. الطين هذا هو دمي.»
​ضحك الضابط بسخرية مدوية: «الطين؟ الطين ينباع وينشرى يا فلاح! اليوم تشوف روحك شلون تنسحل كدام هذا الطين اللي تحبه.»
​حين تقدم الجنود لانتزاع أرضه، رمى سالم الفأس وركض نحو جذور القصب، غرس أصابعه العشرة في الطين البارد بقوة هستيرية. كان يشعر ببرودة الطين تتسلل إلى عروقه، كأنه يحتضن روحاً قديمة. وصاح:
«هاي الأرض حچاية أبوي... ترابها على راسي. ما أتركها لو تجرّوني جَر!»
​أطبقت أيدي الجنود الغليظة عليه. حاولوا جذبه بعيداً، لكنه كان يلتصق بالأرض كمن يلتصق بأعزّ ما يملك. سحبوه بعنف، فارتطم جسده بالتراب، وتمزّقت ثيابه، وامتزج دمه الساخن بالطين. ومع كل سحبة، كان يصرخ بصوت يجرح الهواء:
​«الأرض إلنه! مو إلكم ولا للشيخ سلمان! الشيخ ياخذ فلوس... ما ياخذ كرامة!»
​زاد الضابط غضباً، فأمرهم:
«شدّوه... ارفعوه عن الأرض! خلّوه يعرف القانون الحقيقي.»
​لكن سالم ظل يحفر بأصابعه في التراب، كان يشتم رائحة القصب الممزوجة برائحة دمه الجديد، كأنما يبحث عن نبض قد وضعه فيه. وحين تمكنوا أخيرًا من رفعه عن الأرض بعد جهد، انطلقت منه صرخة أخيرة حادة هزّت جذوع النخل:
​«الطين... ما ينوطى له راس!»
​سُحل سالم عبر الحقل، ويداه ممتدتان نحو الجذور، كأن الأرض تأبى أن تسمح له بالرحيل. حتى حين خفت صوته وخارت قواه، بقي الطين ملتصقاً بكفيه وأظافره، يشهد على معركته الأخيرة.
​في المساء، أسلم سالم روحه، لكن صرخته ظلت عالقة بين القصب، وتنعكس على ماء الساقية كلما هبّت ريح الجنوب. صار أهل الريحانة يروون حكايته كأنها جزء من تراثهم، ويقولون كلما مرّوا بأرضه التي لم يتمكنوا من مصادرتها بعد رحيله:
​«سالم راح... بس الطين بعده يذكر خطواته. والكرامة... تبقى هنا، حتى لو راحوا أهلها.»



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دماء وطين
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح
- حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد
- أنين الدار
- ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون
- الزهور التي تكذِب
- رسالةٌ وصلت متأخرة
- جراخ الازقة


المزيد.....




- الإعلان عن الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي ...
- تتويج الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...
- -ضايل عنا عرض- يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام ال ...
- فنانون سوريون يحيون ذكرى التحرير الأولى برسائل مؤثرة على موا ...
- -تاريخ العطش- لزهير أبو شايب.. عزلة الكائن والظمأ الكوني
- 66 فنا وحرفة تتنافس على قوائم التراث الثقافي باليونسكو
- فنان من غزة يوثق معاناة النازحين بريشته داخل الخيام
- إلغاء حفلات مالك جندلي في ذكرى الثورة السورية: تساؤلات حول د ...
- أصوات من غزة.. يوميات الحرب وتجارب النار بأقلام كتابها
- ناج من الإبادة.. فنان فلسطيني يحكي بلوحاته مكابدة الألم في غ ...


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - الطين الذي لا يساوم