أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - دماء وطين














المزيد.....

دماء وطين


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 10:56
المحور: الادب والفن
    


لم يكن الفجر قد تنفّس بعد عندما شقّ صراخ امرأة سكون القرية. خرج الناس من بيوتهم مذعورين، فالصرخة التي تأتي في هذا الوقت لا تكون إلا فاجعة.
كانت أم ليث تهرول في الطريق الترابي، عباءتها غارقة بالطين، وشعرها مبعثر، وهي تصرخ:
«ليث… ليث وكع بالمي! الحگوني!»
تجمّع الرجال، وتقدّمهم جبار الخزّاف، شيخ الطين وصاحب اليدين اللتين تشكّلان الجرار منذ أربعين عامًا. خلفه كان سالم، الأخ الأكبر للطفل، يركض وقد امتلأ صدره رعبًا.
عند حافة النهر، لم يجدوا سوى أثر قدم صغيرة غاصت في الطين ثم اختفت عند الماء. انحنى جبار يمرّر إصبعه فوق الأثر كأنه يقرأ سطرًا مكتوبًا من الألم، وقال بقلق:
«الأثر جديد… الولد قريب.»
نزل سالم وجبار إلى الماء الموحل، وتكررت الغطسات وسط عتمة تشبه عتمة المصير نفسه. وفجأة، شعر سالم بشيء يلمس يده… جسد صغير، ساكن، بارد. سحبه إلى السطح وهو يصرخ:
«ليث! فوك… فوك!» لكن الطفل لم يتحرك. احتضنته أمه، ووقع صوتها على النهر كطعنة:
«يمّه… گلت لك لا تكرب المي… يا روحي.»
عمّ الصمت، وابتلعت القرية كلها نفسًا واحدًا من الحزن، كأن النهر لم يغرق طفلًا فقط، بل أغرق قلبها معه.
في اليوم التالي، جلس الرجال قرب بيت أم ليث يتبادلون كلمات المواساة، بينما بقي جبار الخزّاف معزولًا في زاويته يعجن الطين بلا وعي، يشكّل وجه طفل مغمض العينين يشبه ليث حدّ البكاء.
جلس سالم قربه وسأله: «عمي… شبيك مو مثل كل مرة؟»
رفع جبار عينيه وقال بصوت ثقيل: «سالم… هذا مو حادث.»
اتسعت عينا سالم: «شلون؟»
رد جبار: «شفت آثر طفل… وبصفّه آثر رجل. وبعدين آثر الرجل اختفى، والآثر اللي رايح صوب المي… بس آثر الطفل.»
تحرّكت الشكوك في صدر سالم، وجلس قرب النهر ليلاً. كان يرى في الظلام ظلّ جبار الخزّاف وهو ينحت في عقله حقيقة لا يريدها:
يا رب... لا تجعل ليث ضحية ليد غادرة. لا تجعلني أخسر أخي مرتين: مرة للماء، ومرة للكذب. بدأ يبحث بصمت. يسأل، يراقب، يربط الأحداث.
وفي إحدى الليالي، كان يقف قرب النهر حين ظهر حارس السدّ العجوز. اقترب منه وقال بصوت مرتجف:
«سالم… آني شفت شي مهم… بس خفت أحچي.»
سأله سالم بلهفة: «شفت شنو؟»
تنفّس العجوز وقال: «شفت ليث وياه ابن المختار… وشفت الصبي يدفعه صوب المي. سمعت صراخ، ولما ركضت… شفت الطفل يغوص.»
ذهل سالم، وشعر كأن النهر يعود ليغرق صدره مرة ثانية. همس بمرارة: «على شنو؟»
وانحنى رأس العجوز وهو يتمتم: «إي… على طين. چانوا يتنازعون على مكان حفر الطين الجديد. جشع البشر يگدر يقتل.»
مع الصباح، وقف سالم أمام بيت المختار، وأهل القرية خلفه. خرج المختار مرتبكًا، وابنه خلفه يرتجف. قال سالم بصوت ثابت لا يشبه صوته: «ولدك دفع ليث للنهر. عدنا شاهد… وعدنا أثر… وعدنا حق.»
صرخ المختار: «ابني يلعب! ما قصد الأذى!» لكنه لم يكمل، فقد انهار ابنه بالبكاء وهو يعترف: «آني بس دفعتَه… چنت أريد أخوّفه… ما چنت أريد يموت!»
عمّ الصمت، وكأن القرية كلها توقفت عن التنفس. لكن هذه المرة، لم يتقدم القانون من المدينة، بل تقدّم جبار الخزّاف، شيخ الطين، بخطوات ثقيلة. نظر إلى وجه الصبي وقال بصوت سمعه الجميع:
«الماء أخذ روح، والطين يطلب كفارة. هذا ليس ذنبًا يغسله سجن، بل ذنبًا يغسله عمل. حكم القرية أن يقضي هذا الصبي كل موسم فيضان عند حافة النهر. يعمل في تقوية الضفاف، وفي حماية الأطفال. وسيبقى كذلك حتى يغسل الطين ذنبه، ويشهد النهر على ندمه.»
وافق أهل القرية بهمس ثقيل، وشعر المختار بالهزيمة، بينما كان ابنه يرفع عينيه إلى سالم، وقد عرف أن عقابه سيكون قرب المكان الذي لاحقه فيه الموت.
عاد سالم إلى النهر بعد أن صدر "الحكم". وقف ينظر إلى الماء الهادئ الذي لم يعد يشبه وحش البارحة، لكنه يحتفظ بظلّه. جلس جبار قربه، وقال:
«سالم… النهر ياخذ، بس حكم الطين يرجّع حق. مو كل شي يضيع.»
مسح سالم دمعة وقال: «يمكن الحق رجع… بس قلبي؟ لا.»
أخرج جبار تمثالًا طينيًا لوجه صغير، ووضعه في يد سالم:
«هذا وجه ليث… خلي يبقى يمّك. مرات الطين يحفظ اللي البشر ينسوه.»
في بيت أم ليث، وُضع التمثال قرب صورة ابنها، وبقيت تردد بصوت خافت:
«الطين ابتلع جسدك… لكنه اليوم، يغسل ذنب من قتلك.»
وهكذا بقيت حكاية دماء وطين تجري في القرية كالنهر، تذكّر كل من يمر بها بأن الحقيقة قد تختبئ تحت الوحل، لكنها لا تموت.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح
- حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد
- أنين الدار
- ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون
- الزهور التي تكذِب
- رسالةٌ وصلت متأخرة
- جراخ الازقة
- ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر


المزيد.....




- تسرب مياه في متحف اللوفر يتلف مئات الكتب بقسم الآثار المصرية ...
- إطلالة على ثقافة الصحة النفسية في مجتمعنا
- مقتل الفنان المصري سعيد مختار في مشاجرة
- الفرنسي فارس زيام يحقق فوزه السادس في بطولة الفنون القتالية ...
- الفيلم التونسي -سماء بلا أرض- يحصد النجمة الذهبية بالمهرجان ...
- الممثل بورتش كومبتلي أوغلو قلق على حياته بسبب -بوران- في -ال ...
- -أزرق المايا-: لغز الصبغة التي أُعيد ابتكارها بعد قرنين من ض ...
- وزير الثقافة الباكستاني يشيد بالحضارة الإيرانية
- تحقيق يكشف: مليارديرات يسعون لتشكيل الرواية الأمريكية لصالح ...
- زيارة الألف مؤثر.. بين تسويق الرواية والهروب من الحقيقة


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - دماء وطين