أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - وصية لم تكتمل














المزيد.....

وصية لم تكتمل


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 00:17
المحور: الادب والفن
    


​جاء جاسم من ريف الناصرية وفي حقيبته قميصان، دفتر محاضرات، ووصية أمٍّ لم تُكمل جملتها حين ودّعته؛ قالت: "انتبه لنفسك يا وليدي..." ثم سكتت، كأن بغداد نفسها هي من قطعت الكلام.
​استأجر غرفة في بيت قديم بمنطقة "العلاوي"، سقفها واطئ، وجدرانها متشققة كوجوهٍ أنهكها الانتظار. كانت صاحبة البيت، سعاد، امرأة في منتصف الأربعين، ثقيلة الظل، حادّة الصوت، تعرف كيف تفرض حضورها دون أن تتحرّك. منذ اليوم الأول، لم تعامل جاسم كنزيل، بل كطريدة. كانت تسأله أكثر مما يلزم، تراقب عودته، وتُحصي أنفاسه من وراء الباب. لم تُبدِ رغبتها دفعة واحدة؛ كانت ماهرة في "التدريج"، في تحويل الوحدة إلى فخ، وتحويل احتياجه لصحن مرقٍ أو كلمة طيبة إلى ذريعة.
​جاسم، بارتباكه الريفي وعفويته، لم يفهم في البداية. ظنّ الأمر عطفاً من امرأة وحيدة، ثم ألِفَ الدفء الزائف، ثم صار عاجزاً عن تسمية ما يحدث. ومع توالي الليالي الرطبة تحت ذلك السقف الواطئ، انزلق. ليس لأن الرذيلة كانت مغرية، بل لأن التعب كان أطول من قدرته على الصمود، ولأن الفقراء في زحام المدن الكبرى لا يملكون ترف المقاومة دائماً.
​تراجع في دراسته. صار غريباً في قاعات الجامعة، يدخلها متأخراً كأنه يهرب من ذنب، ويخرج قبل أن يسمع اسمه في التحضير. لم يعد يعرف إن كان يهرب من الأستاذ أم من سعاد، أم من وجه أمه الذي يطارده في الدفاتر. وسعاد، كانت تراقب ذبوله بابتسامة منتصرة؛ كانت تريده هكذا: منكسراً، تابعاً، بلا أفق. كلما حاول أن يبتعد، ذكّرته بما "بينهما"، وبما "قدّمت"، وبصوت خفيض كانت تلوّح بالفضيحة، وهي تعرف أن الفضيحة في زواريب بغداد أقسى من وقع السوط.
​في أحد الأيام، ظهرت "منى". قريبة له، عرفها منذ الطفولة، منذ الطين والماء وأسماء الأشجار في الجنوب. حين رأته في ساحة الشهداء، شهقت دون صوت. كان وجهه شاحباً، وعيناه غارقتين في تعب لا يشبه عمره العشرين. قالت له بهدوء موجع:
​"ما بك يا جاسم؟ شحب وجهك يا ابن عمي".
لم يجب، لكن صمته كان اعترافاً كاملاً بالهزيمة.
​أخذته إلى بيت والدها، "أبو منى"؛ رجل قليل الكلام، يزن الجملة قبل أن يطلقها كأنها رصاصة. سمع الحكاية حتى آخرها، دخّن سيجارته ببطء ثم قال بلهجة بغدادية معتقة:
​"يا ابني.. بغداد ما تكتلك بفد ذبحة، تكسرك ضلع ضلع. وإذا ما تطلع منها بإرادتك، تطلع جنازة".
​تلك الليلة، عاد جاسم إلى غرفته وهو يدرك أن البقاء صار انتحاراً. حين أخبر سعاد برغبته في الرحيل، تغيّر صوتها. لم تصرخ، بل همست بهدوء أشد فتكاً من الرصاص:
​"تظن أنك ستخرج نظيفاً؟ الكل هنا يعرف، والكل سيسمع.. راح تمشي والناس تأشر عليك".
​أخرجت له كلاماً قديماً، تفاصيل حميمة مشوهة، وتلميحات بأن "العالم لا ينسى". شعر جاسم للحظة أن القضبان ليست في الشباك، بل في الهواء الذي يتنفسه. لكنه، ومن وسط انكساره، استجمع بقايا صوته وقال:
​"أنا ضائع يا سعاد.. لكني لا أريد أن أموت عبداً".
​خرج قبل الفجر. لم يحمل شيئاً؛ لا حقيبة القميصين، ولا دفتر المحاضرات الذي تلطخ بالغبار. الشارع كان بارداً، وبغداد تستيقظ بوجوه متعبة تشبه وجهه. مشى طويلًا، كأنما يريد أن يستهلك قدميه ليُخرس عقله.
​لم يعد إلى الجامعة. لم يعد إلى منى. ولم يعد إلى الناصرية.
بعد أشهر، تسرّب عنه خبرٌ عابر: شاب يعمل حمالاً في مخازن بعيدة، ينام فوق الكراتين، لا يضحك، ولا يفتح فمه بكلمة عن الماضي. حين يسأله العمال عن دراسته، يشيح بوجهه ويقول: "ما كملت". وحين يمر ذكر "بغداد" أمام أذنيه، يصمت صمتاً جنائزياً.
​لم يمت جاسم، وظل يمشط أرصفة المدينة كظل غريب.. وكان ذلك هو العقاب الأقسى.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صدأ الشالجية
- خارج المتن
- عقد بلا فرح
- وصل الغرامة
- التخلّي البابلي
- شخابيط النزف الأخير
- السترة الاخيرة
- الجثة التي لا تُريد أن تموت
- غرباء في روح واحدة
- الطين الذي لا يساوم
- دماء وطين
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر


المزيد.....




- قراءة في كتاب المؤرخ إيلان بابيه.. إسرائيل على حافة الهاوية ...
- نادين قانصوه...مجوهرات تتحدث اللغة العربية بروح معاصرة
- الشرطة تفتش منزل ومكتب وزيرة الثقافة الفرنسية في تحقيق فساد ...
- من فلسطين الى العراق..أفلام لعربية تطرق أبواب الأوسكار بقوة ...
- فيلم -صوت هند رجب- يستعد للعرض في 167 دار سينما بالوطن العرب ...
- شوقي عبد الأمير: اللغة العربية هي الحصن الأخير لحماية الوجود ...
- ماذا يعني انتقال بث حفل الأوسكار إلى يوتيوب؟
- جليل إبراهيم المندلاوي: بقايا اعتذار
- مهرجان الرياض للمسرح يقدّم «اللوحة الثالثة» ويقيم أمسية لمحم ...
- -العربية- منذ الصغر، مبادرة إماراتية ورحلة هوية وانتماء


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - وصية لم تكتمل