أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - غرباء في روح واحدة














المزيد.....

غرباء في روح واحدة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 00:20
المحور: الادب والفن
    


​كانت بغداد في أربعينيات القرن الماضي مدينةً تتنفّس ببطء، كأنها تخشى أن توقظ ما تخفيه بين أزقّتها. وعند الغروب، كانت فرق الغجر تنسلّ إلى الحياة مثل موسيقى لا تعرف قرارًا ولا جوابًا، تحمل دفوفًا وأصواتًا وعلامات استفهام لا تنتهي.
وفي قلب تلك الفوضى الهادئة، كانت شريفة تتحرك برقصٍ يشبه محاولة للهرب أكثر مما يشبه استعراضًا.
​لم تكن ابتسامتها امتدادًا للفرح، بل ستارًا خفيفًا يُخفي وجعًا لا يتسع له المسرح.
وفي إحدى ليالي شارع أبو نؤاس، وقف أشرف بين الجموع يراقبها كما يراقب المرء موجةً تتردد قبل أن تنكسر. لم يكن يبحث عن قصة جديدة، لكنه حين رآها شعر بأن صفحة ناقصة في داخله بدأت تُكتب.
​منذ تلك الليلة صار يحضر حفلات الفرقة كلما استطاع، يبقى إلى آخر الليل، ويرى شريفة تمرّ قربه بانكسار لطيف في عينيها، كأنها تخجل من أن تشعر بما لا ينبغي لها أن تشعر به. وحين جمعتهما الصدفة خلف الخيمة، قال لها بصوتٍ لا يريد شيئًا:
«أحسّ إنچ بعيدة… حتى وإنتِ بين الناس.»
تأمّلته قليلًا ثم ردّت:
«الغربة مو بالأماكن. مرات… الإنسان يغترب من روحه.»
كان حوارًا صغيرًا، لكنه انفتح داخلهما كنافذة لم يتوقعا أن تُفتح.
​في الجهة الأخرى، كان محمود يراقب شريفة بقلقٍ يشبه الخوف. محمود كان رجلاً من داخل الفرقة، لا يرقص لكنه يجمع النقود ويسعى جاهداً لضبط النظام الذي يراه قدراً لا يُكسر.
لم يكن شعوره حباً، بل فقداناً يخشى حدوثه. وعندما حاول في إحدى الليالي أن يمسك يدها، انتفضت منه كأنها تتحرر من ظلٍّ ثقيل.
«لا تعيدها .. بعد.»
تراجع، وبقي في عينيه أثر لشيء لن ينطفئ قريبًا.
​ومع تزايد الضيق، وإحساسها بأن قيود القلق تلتف حول عنقها أكثر فأكثر، خرجت شريفة من الفرقة عند فجر باكر. تركت وراءها دفاً مكسوراً وثوباً مطرزاً بالخوف.
وصلت إلى الكاظمية، حيث عملت في أحد مصانع فتّاح باشا، ووجدت في رتابة العمل اليومي نوعًا من الطمأنينة. كانت الأيام متشابهة، لكنها خالية من الخوف، وهذا يكفي.
​أما أشرف، فظلّ يبحث عنها بصبرٍ لا يشبهه. لم يكن يعرف السبب، لكنّه كان يشعر أنّ غيابها ترك فجوة في داخله لا تُملأ إلا بوجودها. وحين توصّل أخيرًا إلى مكانها، وجدها واقفة قرب باب المصنع، يداها متعبتان وعيناها أكثر صفاء مما يتذكر.
​قال لها بهدوء:
«جنت أدور عليچ… مو لأنچ غجرية، بس لأنچ صرتِ من حياتي.»
خفضت عينيها ثم رفعت رأسها قليلاً:
«إذا تكدر… لا تخلي الخوف يرجع. آني تعبت منه.»
مدّ يده دون استعجال. وضعت يدها في يده كمن يختبر ملمس حياة جديدة لا تعرف إن كانت ستستمر.
​كانا يسيران ببطء حين ظهر محمود من الظلال. لم يرفع صوته، لم يتقدّم بغضب. فقط أخرج مسدسًا كان يخفيه منذ زمن، وكأن القرار خرج من أعماقه دون صوت.
​لم يُسمع سوى طَلقتين.
​سقطت شريفة كأن الأرض كانت تنتظرها. احتضنها أشرف بسرعة، جلس على الرصيف يحدّق في وجهها، يبحث عن رمشة أو تنهيدة أو أي شيء يربطها بالحياة. أدرك في تلك اللحظة أن الغربة انتهت، لكن الثمن كان نهاية الحياة. لقد انطفأ النور بين جفنيها تماماً، ولم يعد هناك إلا دفء يدها التي حملت يده لثوانٍ.
​أما محمود، فلم يهرب… بل اختفى، كما تختفي الفرق التي ظهرت يومًا بلا جذور واضحة.
​بقي أشرف طويلاً يحمل رأسها في حضنه، لم يبقَ لهما فرصة أخيرة، بل بقيت قصتهما معلّقة إلى الأبد؛ قصة غريبين وجدا روحهما معاً قبل أن يفرقهما صوت لا ينتمي للغناء.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطين الذي لا يساوم
- دماء وطين
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح
- حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد
- أنين الدار
- ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون
- الزهور التي تكذِب
- رسالةٌ وصلت متأخرة


المزيد.....




- مهرجان البحر الاحمر يشارك 1000 دار عرض في العالم بعرض فيلم ...
- -البعض لا يتغيرون مهما حاولت-.. تدوينة للفنان محمد صبحي بعد ...
- زينة زجاجية بلغارية من إبداع فنانين من ذوي الاحتياجات الخاصة ...
- إطلاق مؤشر الإيسيسكو للذكاء الاصطناعي في العالم الإسلامي
- مهرجان كرامة السينمائي يعيد قضية الطفلة هند رجب إلى الواجهة ...
- هند رجب.. من صوت طفلة إلى رسالة سينمائية في مهرجان كرامة
- الإعلان عن الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي ...
- تتويج الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...
- -ضايل عنا عرض- يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام ال ...
- فنانون سوريون يحيون ذكرى التحرير الأولى برسائل مؤثرة على موا ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - غرباء في روح واحدة