أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - التخلّي البابلي














المزيد.....

التخلّي البابلي


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8556 - 2025 / 12 / 14 - 11:42
المحور: الادب والفن
    


​نحنُ الذين سرقهم الطين

​في الخمسينات، لم تكن بابل خرابًا. كانت فكرةً تُستعمل ثم تُرمى.
​الأعمدة لم تكن مكسورة، بل متعبة من الوقوف وحدها، والطين لم يتشقق من القِدم، بل من كثرة ما حُمِّل بما لا يُقال.
​هناك، على أطراف المدينة الأثرية، عاشت عائلة آل جابر. فلاحون لا يعرفون من التاريخ سوى ما يعيق المحراث. لم يطلبوا كنزًا، الكنز هو الذي طلبهم.
​الكشف والعبء
​حين ارتطمت معول حسين بالفراغ، لم يكن الصوت اكتشافًا، بل رعشة في جسد الأرض، وإعلانٌ متأخرٌ بأنها قررت أن تتكلم.
​السرداب الذي انكشف لم يحمل ذهبًا، ولا تماثيل، ولا ما يُشبه الحلم. حمل ألواحًا طينية مكسورة، نقوشًا مطموسة، مكتبةً منسية، وأسماءً لم يعد أحدٌ بحاجة إلى تذكّرها.
​قال الأب وهو يحدّق في الظلمة: — هذا مو إلنا.
​لم يقل: هذا حرام. لم يقل: هذا تاريخ. قال فقط: هذا ليس لنا... وكأن الملكية وحدها تكفي لصنع الأخلاق.
​حسين كان يعرف الجوع أكثر مما يعرف الملوك. كان يرى أن بابل، بكل عظمتها، لا تدفع دينًا ولا تطعم طفلًا. قال ببرودٍ لم يتدرّب عليه:
​— الحجر اللي ما يفيد، يصير عبء.
​سالم لم يعترض. لم يوافق. كان يشعر أن المكان ينظر إليهم لا كضحايا، ولا كلصوص، بل كحلقةٍ أخرى في سلسلة طويلة من التخلّي.
​ثمن الصمت
​بدأ حسين يُخرج الألواح. واحدًا بعد آخر. لا يبيعها علنًا، ولا يخفيها جيدًا. كان يفعل ذلك كما تُفعل الأمور التي نكفّ عن تبريرها.
​الرجل القادم من بغداد لم يكن شريرًا. كان مهنيًا. يعرف أن التاريخ حين يُنقل من مكانه، يفقد صوته، ويصبح قابلًا للتأويل.
​تحسّن البيت في الظاهر، لكن الأب صار يشيخ بسرعةٍ غير منطقية، كأن الأرض استردّت عمره بدل أجرها المسلوب.
​في الليل، كان سالم ينزل إلى السرداب وحده. يجلس هناك، لا ليحرس، بل ليشهد. كان يعرف أن الشهادة دون قدرة على الفعل نوعٌ آخر من الجريمة، جريرة الصمت.
​همس مرة: — إذا رجّعنا كلشي... شنو يبقى منّا؟
​لم يجبه الطين.
​حين اختفى اللوح الأكبر—ذلك الذي كان يحمل نقشًا شبه كامل—لم يعد للسكوت معنى. اتهم حسين أخاه. لم يكن الاتهام بحثًا عن الحقيقة، بل عن مخرج.
​تشاجرا. دفعه. سقط سالم على الحجر. لم ينزف كثيرًا، لكن شيئًا داخله انسحب بهدوء، ولم يعد.
​المحاكمة المؤجّلة
​بعد أيام، وصلت بعثة الآثار. بلاغٌ مجهول. جملة قصيرة. عنوان دقيق. وثّقوا السرداب، أغلقوه، وكتبوا تقريرًا نظيفًا. قالوا إنهم أنقذوا التاريخ. لكن التاريخ لم يشكر أحدًا.
​حسين لم يُحاسَب. ولا بُرِّئ. بقي معلقًا في منطقةٍ لا اسم لها، يمشي، يعمل، يتكلم... دون أن يشعر أن أيًّا من ذلك يخصّه.
​الأب مات وهو ينظر إلى الأرض، لا كفلاح، بل كمتهم ينتظر حكمًا لن يصدر.
​أما سالم، فكان يقف أحيانًا قرب آثار بابل، يحدّق طويلًا، ثم يسأل نفسه سؤالًا لم يجد له صيغة صحيحة:
​هل خان المكان...
أم خان أخاه...
أم أن الخيانة الحقيقية كانت الاعتقاد أن أحدًا يخرج بريئًا من هذه الحكاية؟
​كان يعرف الآن أن بابل لم تُسرق. لم تُنقَذ. لم تُخَن.
​بابل فعلت ما تفعله دائمًا:
تركت البشر يختلفون،
ثم ابتلعت صراخهم بهدوء،
ومضت.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخابيط النزف الأخير
- السترة الاخيرة
- الجثة التي لا تُريد أن تموت
- غرباء في روح واحدة
- الطين الذي لا يساوم
- دماء وطين
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح
- حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد


المزيد.....




- من الديناصورات للتماسيح: حُماة العظام في النيجر يحافظون على ...
- انطلاق الدورة الـ36 من أيام قرطاج السينمائية بفيلم فلسطيني
- أيام قرطاج السينمائية تنطلق بعرض فيلم -فلسطين 36-
- بعد تجربة تمثيلية فاشلة بإسرائيل.. رونالدو يتأهب للمشاركة في ...
- نافذة على الواقع:200قصة حقيقية تُروى في مهرجان-سينما الحقيقة ...
- من الكوميديا السوداء إلى المآسي العائلية: رحلة في الأفلام ال ...
- تونس: فيلم -فلسطين 36- للمخرجة آن ماري جاسر يفتتح أيام قرطاج ...
- ثقافة الصمود في ميزان الحرب (غزة، لبنان، اليمن، ايران)
- افتتاح معرض - بين الماء والطين- للفنانة المقدسية سندس الرجبي ...
- من كاميرات دار الأوبرا.. محمد صبحي يشارك توضيحًا بشأن فيديو ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - التخلّي البابلي