أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - السترة الاخيرة














المزيد.....

السترة الاخيرة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 23:34
المحور: الادب والفن
    


​لم يكن حسن الساعدي يعرف النوم إلا غفواتٍ خاطفة، تخطفه وهو خلف مقود باص نقل الركّاب الذي يقوده منذ الفجر. كان يعرف الشوارع كما يعرف خطوط كفّه، ويحفظ وجوه الناس أكثر مما يحفظ ملامح وجهه في المرآة.

​نهاره طريق مزدحم، وليله سيارة أجرة متهالكة، وبينهما بيت صغير لا يتّسع للأحلام ولا يسدّ أفواه الجوع.

​كان الحصار حاضراً في كل شيء: في طوابير الخبز، في رائحة النفط، في انطفاء الكهرباء، وفي الصمت الثقيل الذي صار لغة البيوت.

​حسن هو الابن الوحيد بين خمس بنات. أبوه، الحاج سلطان، رجل جاوز السبعين، قضى عمره في محلٍ صغير لخياطة البدل الرجالية في سوق الحيدرخانة. كان يقول دائمًا: المهنة سترٌ للوجه قبل أن تكون سترًا للجسد.

​حين أثقل المرض جسده، سلّم إدارة المحل إلى زوج ابنته الكبرى، فاضل. لكن الحصار أغلق السوق، والكساد ضرب المهنة. تراكمت الديون، جاءت الضرائب، وصدر أمر الحجز.

​حين بلغه الخبر، أوقف حسن الباص على جانب الطريق. ظلّ محدّقًا في الزجاج الأمامي طويلًا، كأن المدينة كلها تحوّلت إلى كتلة واحدة من غبار. لم يكن المحل خشبًا وقماشًا فقط، بل اسم أبيه وسمعته وتاريخه.

​عاد إلى البيت فوجد أباه جالساً في فناء الدار، ظهره منحنٍ، وعيناه معلّقتان بالأرض.

​قال الحاج سلطان بصوتٍ خافت، هزيمته تسبق كلماته:

«يا بني… المحل ضاع.»

​جثا حسن قربه وقال:

«لم يضع بعد، ما دمتَ هنا.»

​بدأ حسن يطرق أبواب أخواته، بيتًا بعد بيت، لعلّ الدم يسبق الحاجة.

​في بيت الكبرى، جلس فاضل صامتاً، ثم قال وهو يتهرّب بعينيه:

«الوضع صعب، والحصار أنهكنا جميعًا.»

قال حسن بهدوء موجوع:

«هذا محل أبي، ليس غريباً عنكم.»

لكن الصمت كان الجواب.

​في بيت الثانية، استمع الزوج حتى النهاية، ثم قال ببرود:

«نساعد، لكن بشرط أن يُسجَّل نصف المحل باسمنا.»

نهض حسن واقفاً وقال:

«ذلك تعب أبي، وليس صفقة.»

​في بيت الثالثة، كان العرض أشدّ قسوة:

«إن وقّع أبوك تنازلًا عن حصته في البيت القديم، نحلّ الأمر.»

لم يردّ حسن. خرج وهو يشعر أن الكلمات صارت أثقل من الصفعات.

​أما البيوت الأخرى، فجاء الجواب واحداً:

«قلوبنا معكم، لكن أيدينا فارغة.»

​عاد حسن خالي اليدين. جلس إلى جوار أبيه، وعجز عن الكلام.

​قال الحاج سلطان بعد صمت طويل:

«لا تُذلّ نفسك أكثر، دعه يذهب.»

أجابه حسن بصوتٍ مكسور:

«إن ذهب، ذهب معه عمرك كله.»

​في تلك السنوات، كان حسن يمرّ بهم كل صباح، رجال المقاهي، كتلٌ من تعب، غبار الحروب على وجوههم، وقد صاروا خيبات اجتماعية طويلة. لم يعُد يحدّق فيهم، فقد تعب من كثرة الخيبات التي يعرفونها.

​جاء يوم المزاد. وقف حسن وأبوه أمام المحل المفتوح كفمٍ يبتلع العمر.

​تبادل المزايدون نظرات سريعة:

«محل خياطة؟ لا قيمة له في زمن الحصار.»

«نأخذه بأبخس ثمن.»

​حاول حسن الاعتراض، لكن صوته ضاع بين الأرقام.

​بيع المحل، وانتُزعت اللافتة من فوق الباب. أسند الحاج سلطان رأسه إلى كتف ابنه، ولما انتُزعت اللافتة، رفع يده، كأنه يودّع شيئاً لا يعود، ثم تنهّد بعمق اهتزّ له كتف حسن، دون أن ينطق بكلمة.

​شدّ حسن على يده وقال:

«السنون تمضي، لكنك باقٍ، وأنت أثمن من أي محل.»

​في تلك الليلة، عاد حسن إلى باصه. جلس خلف المقود، وأدار المحرّك. كان الليل ثقيلاً، والمدينة ساكنة كجسدٍ مُنهك.

​لم يجد دمعة واحدة. أضاء مصباح الباص الداخلي، وتفحّص خطوط كفّه، الخطوط ذاتها التي كان يعرف بها الشوارع. وضع كفّه على مقود الباص، وضغط عليه بكل قوة، كأنّ المقود صار كل ما تبقّى له ليقوده في هذه المدينة الغارقة.

​وفي الصمت الثقيل، لم يسمع حسن سوى صوت المحرّك، صوت معركته التي لا تنتهي.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجثة التي لا تُريد أن تموت
- غرباء في روح واحدة
- الطين الذي لا يساوم
- دماء وطين
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح
- حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد
- أنين الدار
- ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون


المزيد.....




- 2025 بين الخوف والإثارة.. أبرز أفلام الرعب لهذا العام
- -سيتضح كل شيء في الوقت المناسب-.. هل تيموثي شالاميه هو مغني ...
- أهلًا بكم في المسرحية الإعلامية الكبرى
- الأفلام الفائزة بجوائز الدورة الـ5 من مهرجان -البحر الأحمر ا ...
- مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم أنتوني هوبكنز وإدريس إل ...
- الفيلم الكوري -مجنونة جدا-.. لعنة منتصف الليل تكشف الحقائق ا ...
- صورة لغوريلا مرحة تفوز بمسابقة التصوير الكوميدي للحياة البري ...
- حفل ختام مهرجان البحر الأحمر السينمائي.. حضور عالمي وتصاميم ...
- -رسالة اللاغفران-.. جحيم المثقف العربي وتكسير أصنام الثقافة ...
- مصر: مبادرة حكومية لعلاج كبار الفنانين على نفقة الدولة


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - السترة الاخيرة