أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - عقد بلا فرح














المزيد.....

عقد بلا فرح


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8557 - 2025 / 12 / 15 - 14:31
المحور: الادب والفن
    


​لم يكن حسّام رجلاً يمكن تمييزه بوضوح. لم يكن شرّيراً صريحاً يُتجنّب، ولا طيباً بما يكفي ليُعهد إليه بكلمة. كان من أولئك الذين يمرّون في حياتك كظلّ ظهيرة، لا تلتفت إليه حتى يكتشف أحدهم، متأخراً، أن جدار البيت قد تشقّق دون ضجيج.
​في تلك القرية الواقعة على طرف الناصرية، حيث الطين يبتلع كل صوت، كان حسّام يعمل أياماً ويغيب أيّاماً. كان يضحك كثيراً، ضحكاً لا يُفضي إلى شيء، ويتحدث عن بغداد—التي لم يرها أحد في القرية—كما لو كانت وعداً لم يُخلف بعد. لم يكن الناس يسألون، وهو لم يكن يقدّم تفسيراً. كانت الحياة تسير ببطء يشبه مرور السحب فوق النخيل.
​هدى... عرفته بصمت. لم يكن ثمّة غرام حارق، ولا تخطيط مدبّر. حدث الأمر كما تحدث أشياء كثيرة في الجنوب: ببطء ثقيل، ومن دون أي إعلان أو شهود.
​حين حملت، لم تصرخ. لم يكن الألم صوتاً. جلست أياماً متطاولة، تنظر إلى السقف المنخفض، تفكر ببرودة محزنة: كيف يمكن لخبر صغير، مثل نملة تمر، أن يهدم بيتاً بأكمله؟
​قالت له، فظلّ صامتاً. وفي اليوم التالي، لم تجده. باع حصته الزهيدة من التمر، التي لا تكفي لثمن تذكرة جيدة، واتخذ طريق بغداد. لم يودّع أحداً. التوديع كان يتطلب اعترافاً.
​لم يحتج الخبر إلى وقت طويل ليصبح حقيقة. في القرى، لا تُخفى الأشياء؛ هي فقط تُنتظر حتى تنضج وتتساقط.
​أبوها لم يطلب تفسيراً. وقف في منتصف الغرفة، حيث الظل أثقل ما يكون، صامتاً. فقط مدّ يده إلى البندقية المعلّقة فوق الموقد.
​في تلك الليلة الغائرة، خرجت هدى. خرجت بلا وجهة.
​بعد أيام، قالوا إن أباها مات فجأة. لم يسأل أحد عن السبب. في هذه الأماكن، موت الرجال قد يكون أرحم من خزي بناتهم.
​وجدت هدى نفسها في بيت أم عباس، امرأة كبيرة تعرف كيف تُغلق الأبواب على الأسرار، وتدفنها كأنها بذور فاسدة. هناك، ولدت طفلها.
​لم تسمّه. كانت تنظر إليه بنظرة امرأة تائهة وجدت مرساها في شيء لا يزول. كان شيئاً سيبقى، حتى لو زال كل شيء آخر في هذا العالم الموحش.
​في بغداد، عاش حسّام حياة لا تستدعي ذاكرة. امرأة ترقص بلا إيقاع، مال يُصرف بلا حساب، ليالٍ تمضي بلا معنى يُذكر. كان يعيش في فراغٍ مُزخرف.
​في إحدى الليالي الملطخة بالدخّان والكحول، عاد زوج المرأة فجأة. تداخلا كقاطعين في لعبة رديئة. انطلقت رصاصة. سقط الرجل. لم يتأكد حسّام من شيء، لكنه لم يتوقف. ركض.
​في القطار المتجه جنوباً، جلس قبالة رجل خمسيني، ملامحه هادئة وغير ملفتة، لا يتكلم إلا للضرورة. بعد ساعة، سأله الرجل سؤالاً عادياً عن ثمن التمر في الموسم. ارتبك حسّام. فجأة، قال أكثر مما يجب.
​كان الرجل من رجال الامن جاء ليحقق عن قضية في المحافظة .
​قيّده. وعند محطة مهجورة لا يتوقف فيها إلا الهواء، قفز حسّام وهرب. عاد إلى القرية. لا لأنه أراد ذلك، بل لأنه لم يعد يعرف أين يمكن أن يذهب إنسان لم يعد له مكان.
​اختبأ في بيت أم عباس. في الغرفة الضيقة، اجتمعت بقايا حياة لم يكن يحسبها أحد: المرأة التي هجرها، الطفل الذي لم يعرفه، الرجل الهارب، رجل الامن الذي يتبعه، وطبيب الوحدة الصحية الذي جاء لإسعاف أم عباس من وعكة مفاجئة.
​نظر حسّام إلى الطفل. لم يحتج أحد أن يقول له شيئاً.
​قال رجل الامن، بصوت غير مرتفع، كأنه يحدث نفسه:
​– "الخطأ لا يكتمل ويُغلق إذا هربنا منه. الخطأ يظلّ معلّقاً في الهواء."
​لم يناقشه أحد. الصمت كان أثقل من أي جدال.
​تم الزواج بعد أيام. كان عقداً بلا فرح، مجرد إجراء اجتماعي لترتيب الفوضى، وليس وعداً بمستقبل.
​في الطريق إلى مركز الشرطة، جاء الخبر عبر الهاتف. كانت مكالمة سريعة، تفاصيلها غائمة كدخان.
​"الرجل لم يمت... والأهم، هو لم يتقدم بأي شكوى. لديه سجل طويل، يا سيدي. لا يريد إثارة انتباهنا أكثر."
​أوقف المحقق السيارة. لم يكن الأمر عفواً، بل مجرد تسوية قذرة في بغداد.
​أُغلقت الشكوى.
​فكّ رجل الامن القيد عن حسّام.
​قال له بهدوء غريب: "القانون انتهى أمره معك. لكن الحياة، يا حسّام، لم تنتهِ بعد."
​عاد حسّام إلى البيت. الطفل كان نائماً في هدوء يشبه الخيانة. جلست هدى قربه، لا تبكي ولا تبتسم. كانت ملامحها كتلك البيوت الطينية، صلبة وحزينة.
​جلس حسّام في الطرف الآخر من الغرفة. لم يلمس شيئاً.
​في الخارج، كانت القرية هي نفسها: نفس الطين اللزج، نفس النظرات الثاقبة، ونفس الصمت الذي يعرف كل شيء.
​فهم حسّام، أخيراً، أن نجاته لم تكن خلاصاً. كانت مجرد بقاء تحت الاختبار.
​وأن بعض الأخطاء لا تُغلق، بل تُفتح كل صباح كجرح جديد…
​حين يكبر الطفل، وحين يضيق عليه المكان، وحين يدرك أن الهروب لم يعد ممكناً.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وصل الغرامة
- التخلّي البابلي
- شخابيط النزف الأخير
- السترة الاخيرة
- الجثة التي لا تُريد أن تموت
- غرباء في روح واحدة
- الطين الذي لا يساوم
- دماء وطين
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب


المزيد.....




- السفير العماني لدى تونس: حريصون على دعم جميع المبادرات التي ...
- الداخلية تتخذ الإجراءات بحق الشاعر علي نعيم بعد تجاوزه على ر ...
- 16 رواية تترشح للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العر ...
- الشرطة الأمريكية تحقق في -جريمة قتل- المخرج روب راينر وزوجته ...
- التقدم والاشتراكية يسائل وزير الشباب والثقافة والتواصل حول أ ...
- من هم -الحشاشون- وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟
- مصر.. تصرف فنان مع سائقه يفجر موجة من ردود الفعل
- الشرطة الأمريكية تحقق في -جريمة قتل- المخرج الشهير روب راينر ...
- ”سينماتيك”.. خطى واثقة نحو تأسيس مرجعية نقدية
- العثور على المخرج السينمائي روب راينر وزوجته جثتين هامدتين ف ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - عقد بلا فرح