أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - وصل الغرامة















المزيد.....

وصل الغرامة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8557 - 2025 / 12 / 15 - 10:01
المحور: الادب والفن
    


​كان محمود ابن كركوك سليل العرق المسافر. يعرف الطريق بين كركوك وبغداد، لا بذاكرة الخرائط المعقدة، بل بلمسة الأسفلت الحارة في تموز، وبصقيع الرياح الذي يصفع زجاج الكوستر في كانون. هذا الطريق، بكل منعطفاته وتفاصيله المنسية، كان كخطوط كفّه، عصب رزقه الوحيد.
​كانت "باص الكوستر " سيدة غربته، ورفيقة دربه الصاخب. هي رزقه، ومأواه المؤقت، وخزانة أحزانه البسيطة. يغادر كركوك قبل أن تتفتح خيوط الفجر، محملاً بالركّاب الذين تتشابك مصائرهم، وبأمتعتهم التي تختزن قصصاً لم تُروَ بعد. ويعود مع اجتياح خيوط الغروب الأخيرة، محملاً فقط بثقل التعب الذي يتراكم على كتفيه، وبأمل فجر جديد.
​في ذلك الصباح الذي بدا عادياً، وصل إلى العاصمة. أنزل ركّابه في ساحة النهضة، حيث تضج بغداد بصخبها المدوي: أبواق تزمجر، وأصوات بائعين تختلط كأنها لحن فوضوي، ووجوه متعبة تستعجل خطاها.
ركن محمود سيارته على عجل مباغت في الشارع العام، خالف ضميره الذي يهمس بالتحذير، لكن نداء الحاجة كان صارماً.
​قال في عجلة: «دقائق وأعود. لستُ بصدد تأخير أحد.»
​ذهب ليشتري حاجيات رحلته الضرورية: خبزاً وجبنا لغدائه، وعبوة ماء بارد تطفئ لهيب تموز، وعلبة سجائر تُخفف توتر الطريق.
​حين عاد، كانت الرؤية كاشفة للقدر الذي لا مفر منه. رجل المرور، بهيئته الرسمية الصارمة، يقف قرب الكوستر، يدوّن في دفتره الورقي بغلظة لا تقبل الجدل.
​اقترب محمود وقلبه ينقبض كقبضة يد باردة.
— «ها ابو اسماعيل... خير؟ قلبي انقبض والله.»
— «مخالفة مرورية صريحة. واكف بمكان ممنوع الوقوف فيه بتاتاً.»
​حاول محمود أن يشرح بلهجة كركوك المائلة، صوته الخافت كان موهوناً بثقل الغربة وقلة الحيلة:
— «يا اخي، والله العظيم ما أدري. أني من كركوك، سايق على باب الله ورزقي. والله ما أعرف قوانين بغداد زين، دقيقة ما كملت، والله...»
​تدخل بعض المارّة، محاولين استدرار العطف. قال أحدهم بصوت حكيم:
— «اترکه يا أخي، رجل غريب، رزقه مرير. خلّيها على ربّك هالمرة.»
​لكن الشرطي لم يرفع رأسه. كان كآلة تطبق القانون بلا روح.
— «حررتُ المخالفة، والكتاب الرسمي صدر. ما اكدر أتراجع عنها. هذا واجب.»
​رجل مسنّ، ذو لحية بيضاء وعباءة رمادية، كان يراقب المشهد بصمت النُبهاء. اقترب من محمود، وضع يده المتجعدة على كتفه بحنان أبوي، وهمس له بنبرة دافئة:
— «سلّم أمرك لله يا ابني. الرزق مدبّر، والشر مدفوع. "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ".»
​ابتسم محمود بمرارة موجعة، وهو يطوي وصل الغرامة:
— «خير شنو عمو؟ هذه مخالفة تُكسر الظهر. مبلغها ليس هيناً. أدفعها لو أدفع للبنزين، لو لتصليح السيارة؟ كلها من وارد قليل.»
​لم يتبقَ بيده سوى التسليم المُرهَق. طوى "وصل الغرامة" بعناية فائقة، وكأنه يطوي معه خسارته الصغيرة، ووضعه في محفظته التي لا تحمل الكثير.
قال في سرّه المثقل بالهموم: الله كريم... أدفعها لاحقاً.
​عاد إلى كركوك، واستغرقه العمل الشاق. نام في كراج السيارات داخل الكوستر، ينتظر دوره في التحميل، ينتظر الرزق.
بعد ثلاثة أيام، استيقظ على صراخ مدوٍ وكابوس حقيقي.
​اقتحم أربعة رجال داخل الكوستر بصراخ جنوني ووجوه مشتعلة غضباً. لم يعطه أحد فرصة للكلام. طرحوه أرضاً، قبضات غاضبة، وشتائم كأنها رصاصات ساخنة.
— «هذا هو القاتل! لا تدعوه يفلت!»
— «هاي هي السيارة، كوستر كركوك... لونها معروف! شفناها بعيونه!»
​لم يفهم شيئاً. وجد نفسه في مركز الشرطة، أمام محضر رسمي، وشهود مضطربين، وروايات متضاربة كأنها شبح. كل ما قاله مراراً وتكراراً كان:
— «والله العظيم ما سويت شي. أقسم بالله ما دعست أحداً، ولا أعرف عن أي جريمة تتحدثون!»
​وقف أمام القاضي، يرتجف خوفاً وبرداً، برغم حرارة الغرفة. كان مصيره معلقاً بكلمة.
— «يا محمود، أين كنت يوم الثلاثاء الفائت في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً تحديداً؟»
​نظر محمود إلى السقف، محاولاً تجميع خيوط أيامه المتشابهة.
— «كنت في بغداد سيدي... أعمل. وصلت تقريباً الساعة العاشرة صباحاً وكنت أفرغ الركاب في النهضة...»
— «ومن يثبت كلامك؟ شاهد، دليل مادي، أي شيء يكسر ادعاء الشاهدين على أنك كنت في مكان الحادث في ذلك الوقت؟»
​سكت محمود. ذاكرته خانته في اللحظة الحاسمة، وكأنها جدار أملس. عرق بارد تدفق على جبينه، يتمنى أن ينشق به الأرض.
​— «فكّر جيداً يا محمود. حياتك معلقة بإجابتك.»
​عندها، كأن نوراً ساطعاً انفجر في زوايا رأسه المعتمة. تذكر وجه الشرطي... ساحة النهضة... ووصل الغرامة المطوي في محفظته.
​— «سيدي القاضي! أرجوك... يومها غرّموني مخالفة مرور في بغداد!»
— «دليل؟ أحضر الدليل الآن!»
​اهتزت يده وهو يفتح محفظته المتهالكة. أخرج الوصل، مطوياً، متجعداً، قدّمه للقاضي كأنه يقدّم روحه الخائفة.
​تفحّص القاضي الوصل طويلاً بعينين ثاقبتين، ثم كتب كتاباً رسمياً مستعجلاً إلى مديرية المرور. الجواب جاء بعد يومين من الانتظار المُنهِك: المخالفة صحيحة، وصادرة باسم محمود، وفي الوقت والمكان المذكورين في الوصل، أي في ساحة النهضة في قلب بغداد وليس في موقع الجريمة المزعومة.
​سكتت القاعة صمتاً مهيباً. سقط الاتهام سقوطاً مدوياً، وتلاشى الشك كالدخان.
​خرج محمود من المركز، وشعر أن الهواء الذي يتنفسه لم يكن يوماً مختلفاً بهذا القدر. سجد على الإسفلت الخشن، دون أن يكترث بنظرات المارّة، وقال بصوت متهدّج يخنقه البكاء:
— «الحمد لله...
فعلاً... صدق الشيخ. "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم". لولا هذه الغرامة التي كرهتها، لكنت الآن قاتلاً بجريمة لم أرتكبها قط.»
​بعد شهرين، ألقت الشرطة القبض على القاتل الحقيقي، الذي تطابقت أوصافه مع أوصاف الكوستر التي يمتلكها محمود.
​أما محمود، فبقي كلما أخرج محفظته، ينظر إلى وصل الغرامة البالي، لا كدين مروري مُسدد... بل كـ "وثيقة نجاة" كتبها له القدر بيد شرطي صلب، دون أن يدري.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التخلّي البابلي
- شخابيط النزف الأخير
- السترة الاخيرة
- الجثة التي لا تُريد أن تموت
- غرباء في روح واحدة
- الطين الذي لا يساوم
- دماء وطين
- الجسد الذي عاد والروح التي لم تعد
- أبنة الضوء والصفعة
- طفل أطفأته بغداد
- ميراث الريح
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح


المزيد.....




- اللوفر يُغلق أبوابه أمام الزوار اليوم.. ما الذي يحدث داخل ال ...
- مقتل الشاعر أنور فوزات الشاعر في السويداء السورية
- السفير العماني لدى تونس: حريصون على دعم جميع المبادرات التي ...
- الداخلية تتخذ الإجراءات بحق الشاعر علي نعيم بعد تجاوزه على ر ...
- 16 رواية تترشح للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العر ...
- الشرطة الأمريكية تحقق في -جريمة قتل- المخرج روب راينر وزوجته ...
- التقدم والاشتراكية يسائل وزير الشباب والثقافة والتواصل حول أ ...
- من هم -الحشاشون- وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟
- مصر.. تصرف فنان مع سائقه يفجر موجة من ردود الفعل
- الشرطة الأمريكية تحقق في -جريمة قتل- المخرج الشهير روب راينر ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - وصل الغرامة