أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ميراث الريح














المزيد.....

ميراث الريح


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 00:23
المحور: الادب والفن
    


على ضفاف دجلة، حيث يستيقظ الفجر بكسلٍ فوق رؤوس النخيل، كانت القرية تعيش تحت ظلّ رجل واحد: الشيخ سالم. كان اسمه يسبق خطواته، وكانت هيبته تُظلّل البيوت كما يُظلّل النخيلُ الأرض. يمتلك كل شيء؛ الأرض، الماء، وقرار الخلق، لكنه كان يقف كل صباح أمام إسطبله الفاخر، يتأمل فرسه "الكحيلة". أجمل خيول المنطقة، وأتعسها؛ لأن أحشاءها، مثل قصره المنيف، رفضت أن تمنحه الحياة.
كان في قلبه فراغٌ لا يملؤه مال ولا قوة: لم يُرزق بولد يحمل اسمه، وكلما كبر الظلّ حوله، ازداد خوفه من يومٍ يرحل فيه ولا يمتد أحد منه.

​وفي الطرف القصي من القرية، في بيت صغير متواضع من الطين والقصب، كانت زهراء تعيش مع زوجها جبار. فقيران، نعم… لكن قلبهما عامرٌ بدفء لا يشتريه الأغنياء.
حين وقعت عين الشيخ على زهراء، لم يرَ فيها امرأة وحسب، بل رأى "الأم الممكنة" للولد الذي انتظره عمرًا.
قرر، بمنطق التاجر الذي لم يخسر صفقة قط، أن يمتلك هذا الأمل، تماماً كما قرر في لحظة يأس أن يكسر سلالة فرسه الأصيلة، ويأمر السايس بتزويجها من حصان كديشٍ قوي، صارخاً فيه:
"أريد نسلاً بأي ثمن، ولو كان هجيناً".
​في تلك الليلة القاسية، استدعى الشيخُ جباراً إلى ديوانه. كان المكان واسعاً، تبتلع عتمة زواياه ضوء الفوانيس الشحيح. جلس الشيخ سالم على أريكته المرتفعة، يفرك حبات مسبحته الكهرمانية بإيقاع بطيء ومقلق، بينما وقف جبار أمامه، ضئيلاً، يفرك قبعته الصوفية بين أصابعه المتعرقة.
​لم يرفع الشيخ عينيه عن المسبحة، وقال بصوتٍ هادئ، هدوء ما قبل العاصفة:
«يقولون يا جبار إن أرضك بور.. لا زرع فيها ولا ضرع».
ابتلع جبار ريقه بصعوبة وقال بصوت مرتجف: «مستورة يا شيخنا.. الحمد لله، نأكل من عرق الجبين».
​توقف صوت المسبحة فجأة. رفع الشيخ نظره، فكانت عيناه باردتين كخنجرين من ثلج:
«الستر لا يصنع مجداً.. وأنا، يا جبار، شجرة جذورها تأكل الأرض، لكنها بلا ثمر. وأنت عندك الماء الذي أبحث عنه. زهراء.. لا تليق بكوخك المائل. هي خُلقت لتكون أماً لولدي. رحمها يصرخ يريد سلالةً، وأنت تزرع فيه الفقر».
​انتفض جبار، ونسي خوفه للحظة أمام مساس شرفه: «زهراء عرضي يا شيخ! الموت أهون عليّ من أن يمس طرف ثوبها غريب. هي زوجتي أمام الله وخلقه».
​ضحك الشيخ، ضحكة قصيرة جافة، ثم مال بجذعه للأمام، هامساً بفحيح مرعب:
«الله يرى الظلم في كل مكان، فلماذا سكت عني كل هذه السنين؟ اسمع يا جبار.. الكلام انتهى. أمامك طريقان لا ثالث لهما: إما أن تطلقها الليلة، وتخرج من هنا بقطعة أرض تستر بها شيبتك.. أو ألفق لك تهمة تجعلك تتعفن في السجن عشرين عاماً، وحينها سأحصل على الطلاق من القاضي لغيابك، وأتزوجها أيضاً. في الحالتين زهراء لي. الفرق الوحيد.. هل تريد أن تراها وأنت حر؟ أم تتخيلها وأنت خلف القضبان؟ اختر».
​شعر جبار بأن سقف الديوان يهبط فوق رأسه. انكسر شيء ما في صدره، طأطأ رأسه، وقال بصوت يشبه الحشرجة: «أمرك يا شيخ.. لكن تذكر.. دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب».
أشار له الشيخ بالانصراف بظهر يده كأنه يهش ذبابة: «وفر دعاءك لنفسك».
​عاد جبار إلى بيته منكسرًا، يحمل الخبر كما يحمل الرجل حتفه. بكت زهراء كثيرًا، ثم مسحت دموعها بكفٍ ترتجف، وقالت لزوجها المقهور: «طلّق… بس لا تطيح. الله ما ينسى المظلوم».

تم الطلاق قسرًا، ودخلت زهراء بيت الشيخ زوجةً ثالثة عشرة.
​كان البيت واسعاً، لكنه بارد كالمقبرة. واجهت قوته بحيلتها، وصمته بصلابتها. وبالتزامن مع انتفاخ بطن زهراء، انتفخ بطن الفرس "الكحيلة". دبّ الأمل في عروق الشيخ المتيبسة، وعادت له سطوته، لكن الخوف كان ينهش قلبه كلما وضع رأسه على الوسادة؛ خوفٌ غامض .
​وفي ليلةٍ بلا قمر، جاء المخاض.
في الإسطبل، تعسرت ولادة الفرس، وسمع الشيخ صهيلاً مفجعاً شق سكون الليل، وماتت "الكحيلة" وهي تلد مهراً ميتاً ومشوه الخلق. تشاءم الشيخ، واهتزت أركانه، وقبل أن يستوعب الصدمة، وصلت إليه الداية من مكان الحريم بخبرٍ أثقل:
«يا شيخ.. الولد وصل.. لكنه ضعيف القلب، نبضه متردد، وروحه كأنها تخشى الحياة».
​وقع الشيخ أرضًا… كأنما ضُرب بفأسٍ خفية. شُلّ نصف جسده، وتهاوى صرحه الكبير. ماتت الفرس، ومات نسلها، وولد وريثه عليلاً يصارع الموت. لم يحتمل قلبه المثقل بالآثام هذه الضربة،
وبعد أسابيع من العجز والصمت، مات الشيخ سالم دون أن يحمل طفله.

​في يوم دفن الشيخ، وقفت زهراء عند قبره. لا شماتة في عينيها… ولا كراهية. فقط حكمة امرأة رأت العدل وهو يمرّ أمامها بقدمين ثابتتين.
همست للتربة فوقه:
«يا شيخ… أردتَ الخلود في طفل، فأخذك الله وأخذ الطفل.. ليبقى ميراثك ريحاً.
لو كان الظلم يدوم، كان دامت دنيتك».
​أدارت ظهرها، ومشت. خطوتها هادئة… تشبه امرأة خرجت للتوّ من نفق طويل.
والطفل… لم يعش. ولد بضعف قلبٍ قديم، ورحل بعد ساعات قليلة من موت أبيه، كأن القدر لم يشأ أن يبقى في الدنيا أثرٌ يُنسب للظلم، تماماً كما لم يبقَ أثرٌ من نسل الفرس المغدورة.
​عادت زهراء إلى أهلها، وانتظرت عدّتها كاملة. وحين انتهت، تقدّم جبار لخطبتها من جديد. لم يكن زواجهما الثاني تكرارًا للأول… بل كان خلاصًا من محنة، وولادة لحياة لم يعرفا مثلها.
خرجت زهراء من بيت المأذون، ويد جبار في يدها، تاركين خلفهم القصر المظلم وقبور الطغاة، كأنهما لا يعودان من نهاية… بل يبدآن من جديد.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنسحاب الضوء
- على ضفة نهر العشار
- ظلّ عند بوابة الشقائق
- ظل سمر
- خطيئة السابع عشر
- الهروب .... وعودة الروح
- ريح الحنوب في قلب المستنصرية
- الظلّ الذي قتل الحُب
- غيلةُ الروح
- حين تعبر الريح مزرعة الحمّاد
- أنين الدار
- ​همسة الخلاص: الظل الثالث في السعدون
- الزهور التي تكذِب
- رسالةٌ وصلت متأخرة
- جراخ الازقة
- ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر
- بين السماء والأرض
- ذكريات راحلة
- مقهى عند شطّ العرب
- راديو أم خزعل


المزيد.....




- عام فني استثنائي.. 5 أفلام عربية هزت المهرجانات العالمية في ...
- صناع فيلم -الست- يشاركون رد فعل الجمهور بعد عرضه الأول بالمغ ...
- تونس.. كنيسة -صقلية الصغيرة- تمزج الدين والحنين والهجرة
- مصطفى محمد غريب: تجليات الحلم في الملامة
- سكان غزة يسابقون الزمن للحفاظ على تراثهم الثقافي بعد الدمار ...
- مهرجان الكويت المسرحي يحتفل بيوبيله الفضي
- معرض العراق الدولي للكتاب يحتفي بالنساء في دورته السادسة
- أرشفة غزة في الحاضر: توثيق مشهد وهو يختفي
- الفنان التركي آيتاش دوغان يبهر الجمهور التونسي بمعزوفات ساحر ...
- جودي فوستر: السينما العربية غائبة في أمريكا


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - ميراث الريح