رانية مرجية
كاتبة شاعرة ناقدة مجسرة صحفية وموجهة مجموعات
(Rania Marjieh)
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 14:04
المحور:
الادب والفن
لم يكن البيت الذي دخلاه يشبه ما توقّعاه. بدا وكأنه ظلّ بيتٍ آخر، لا يكتمل تمامًا ولا ينهار. ممرّ طويل يفصل بين نافذتين لا تُشبهان بعضهما، وإن كان بينهما شيءٌ خفيّ يشدّ الهواء ويؤخّر الخطوة.
في الليلة الأولى، طرق الباب رجل قصير، كأنه خرج من قصةٍ قديمة. حمل كيسًا صغيرًا من الملح وقال بصوتٍ هادئ:
"هذا للبيوت التي تفيق ليلًا… لا تتركوه في الضوء."
لم يفهم هو، ولم تسأله هي. كان في الرجل شيء يجعل السؤال أثقل من الإجابة.
بعد أن اختفى، بقي في البيت صدى غريب، كأنّ الجدران تتذكّر صوتًا قديمًا.
وفي الليل، حين هدأ كل شيء، أحسّا أن الممرّ يتمدّد قليلًا، وأن الجدار يتنفّس. وعند الفجر، ظهرت على الجدار كفّ باهتة، ليست مرسومة ولا محفورة—كأنها بقيت من زمنٍ سابق ينتظر أحدًا يكتشف أثره.
في اليوم التالي عاد الرجل. هذه المرة يحمل قنينة من رمل أسود. قال:
"إذا تغيّر طعم الضوء… لا تسبقوه."
لم يعرفا كيف يمكن للضوء أن يكون له طعم، حتى حدث ما حدث.
في الليل، انفتح زجاج النافذة الثانية ببطء، ودخل ضوء ليس بضوء. شيء يتحرّك كما لو كان يبحث عمّن يسمعه. اقتربت هي منه بحدسٍ لا تفسير له. وحين لمس جلدها، أضاء وجهها من الداخل، كأنها تبتلع نغمة وليست نورًا.
قالت بصوتٍ يكاد يهمس:
"إنه يكتب فيّ… لا أعرف بأي لغة."
ثم عاد الضوء إلى المائدة، وفتح الكيس الذي جلبه الرجل. لم يكن فيه سكر، بل ماءٌ أسود يتحرك كأن له نفسًا. مدّت يدها إليه، فأضاءت مرة أخرى، وقالت:
"ربما نحن طعامه… أو هو طعامنا."
ومنذ تلك الليلة، تغيّر كل شيء فيها: خطواتها، نظراتها، صمتها الذي صار يلمع. وصار البيت كل فجر يكتب سطرًا على الجدار، لا يفهمان كيف ظهر، ولا لماذا يختفي مع شروق الشمس.
وحين نطقت المدينة اسمها—الاسم الذي يحدث مرة واحدة فقط—تحوّل جسدها إلى وهج خفيف، كأنها تعود إلى المكان الذي جاءت منه.
بقي هو وحده، بين نافذتين، يسمع الجدار يهمس:
"لا تُنادِها… الأسماء تُغلق الطريق."
ومع أنه لا ينادي،
كان يشعر أن الضوء الذي أخذها…
لم يخرج من قلبه قطّ.
--
#رانية_مرجية (هاشتاغ)
Rania_Marjieh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟