أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب















المزيد.....

هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 21:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مدينة النور والظلال

في أعماق الإسكندرية القديمة، تلك المدينة الساحرة التي بناها الإسكندر الأكبر عام 331 ق.م كجوهرة حضارية على شاطئ البحر المتوسط، كانت الحياة مزيجاً من التناقضات الجميلة. كانت الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي مركزاً للعلم والفلسفة، حيث يلتقي الشرق بالغرب، واليونان بمصر القديمة، والوثنية بالمسيحية الناشئة. في أوربا حيث كانت غارقة في التخلف والرجعية، كانت هناك مكتبة الإسكندرية، ذلك الصرح الذي احتضن ملايين اللفائف، كان رمزاً للمعرفة الإنسانية غير المحدودة. وفي هذا الجو من الازدهار الفكري، ولدت هيباتيا حوالي عام 355 ميلادياً، ابنة أستاذ الرياضيات الشهير ثيون، آخر أساتذة جامعة الإسكندرية. لم تكن هيباتيا مجرد امرأة في عالم يسيطر عليه الرجال؛ كانت رمزاً للعقل الحر، وللفلسفة التي تتجاوز الحدود الدينية الصارمة، وللمعرفة التي تتحدى السلطة الدينية المتزايدة. شمسها أشرقت في زمن بدأ فيه الظلام يتسلل: صعود المسيحية كدين دولة، وتحول الإيمان من ملجأ المضطهدين إلى سلاح المستبدين.

النشأة: بذرة العبقرية في تربة العلم

نشأت هيباتيا في بيت يعج بالكتب والمناقشات الفلسفية. والدها ثيون – أستاذ رياضيات وآخر مديري “الموسيون” (جامعة الإسكندرية) – لم يعاملها كابنة عادية؛ بل كوارثة للعلم. علمها الرياضيات، الفلك، والفلسفة اليونانية، مستلهماً من أفلاطون وبلوتينوس. كانت تتميز بجمالها الجسدي والروحي، لكنها رفضت الزواج، مفضلة العنوسة كوسيلة للحفاظ على استقلاليتها الفكرية. يروي المؤرخ داماسكيوس أنها، عندما تقدم لها خاطب، أظهرت له منديل به دماء دورتها الشهرية قائلة: “هذا هو ما تحبه في النساء، أما أنا فأفضل العقل على الجسد”. هذه القصة، سواء كانت حقيقية أم رمزية، تكشف عن شخصيتها القوية، التي لا تخشى التحديات الاجتماعية أو الجنسية. يصفها سقراط السكولاستيكوس، وكان مؤرخ مسيحي معاصر: “بسبب سيطرتها على النفس وسهولة تصرفها الناتجة عن تنمية عقلها، كانت تظهر أمام المسؤولين دون خجل، وكان الجميع يعجبون بها بسبب كرامتها وفضيلتها الاستثنائية”.

إسهاماتها العلمية: عبقرية تسبق عصرها بقرون

حوالي عام 400 ميلادياً، أصبحت هيباتيا رئيسة المدرسة الأفلاطونية في الإسكندرية، حيث درست شباباً أثرياء من أنحاء الإمبراطورية، مسيحيين ووثنيين على حد سواء. لم تكن مدرستها مقسمة دينياً؛ كانت مفتوحة للجميع. كتبت شروحاً توضيحية على أعمال إقليدس وبطليموس لجمهور أوسع، وعدلت على “المجسطي” لبطليموس مع والدها، محسنة الجداول الفلكية وطرق الحساب. شرحت “الحساب” لديوفانتوس، أبو الجبر، مضيفة حلولاً بديلة وطرقاً للتحقق من الصحة. أعادت كتابة أجزاء مفقودة من “المقاطع المخروطية” لأبولونيوس، رابطة إياها بالفلك – وصفت مدار الكوكب كقطع ناقصة قبل كبلر بـ1200 سنة. اخترعت الأسطرلاب المسطح، وهي أداة فلكية أخف وأدق، والهيدرومتر لقياس كثافة السوائل، وجهاز تقطير زجاجي. طورت طريقة قسمة طويلة أكثر كفاءة رغم قيود الأرقام الرومانية. كانت تُعلّم طلابها صنع هذه الأدوات بأيديهم، لقد حولت هذه السيدة الثقافة والمعرفة من أسرار نخبوية إلى أداوات في متناول الجميع. من تلاميذها سينيسيوس القوريني، الذي صار أسقفاً مسيحياً، وكتب رسائل تعبر عن إعجابه: “كانت فيلسوفة ذات سمعة هائلة، مكرسة للأباثيا (تحرر العواطف)”.

فلسفتها: الواحد، موسيقى الكواكب، والتأمل الداخلي

كانت هيباتيا نيوبلاطونية، تؤمن بـ”الواحد” كمصدر أزلي للوجود، ينبعث منه الكون بتدرج من الكمال إلى النقص. مستلهمة من فيثاغورس، رأت الكون مرتباً عددياً، مع الكواكب تتحرك في مدارات تتوافق مع فواصل موسيقية، مما يخلق “موسيقى الكواكب”. استخدمت الهندسة كأداة تأملية لفهم الثنائية بين المادة والروح. لم يكن هناك فرق واضح بين الفلك والتنجيم، مما جعل خصومها يتهمونها بالسحر. كانت فلسفتها دعوة للتأمل الشخصي في طبيعة الواقع، غير مرتبطة بإله معين، تتعارض مع الطاعة العمياء للكنيسة. شجعت الاستقلال الفكري، مما يجعلها متوافقة سطحياً مع التوحيد المسيحي، لكنها تهدد الطائفية. هنا يكمن العمق الفلسفي: هيباتيا رمز للصراع الأبدي بين العقل والإيمان، بين الاستبداد الديني والحرية الفكرية. تذكرنا بأن المعرفة ليست ملكاً لأحد، وقمعها يؤدي إلى فقدان الإنسانية.

السياق التاريخي: من السنكريتية إلى التطرف المسيحي

كانت الإمبراطورية الرومانية تتميز بالسنكريتية الدينية، مزج آلهة مختلفة مثل سرابيس (زيوس + أوزيريس)، راعي الإسكندرية. معبد السرابيوم احتضن بقايا المكتبة، قاعات محاضرات، وتماثيل فنية. في 312، انتصر قسطنطين في جسر ميلفيان، رأى الصليب، اعتنق المسيحية. مرسوم ميلان (313) أنهى الاضطهاد، لكنه صادر أموال المعابد، حظر السحر (باستثناء استخدامه الشخصي). مجمع نيقية (325) أسس العقيدة، أحرق كتب آريوس وغيره. قسطنطين، الذي قتل ابنه وزوجته، وجد في المسيحية تطهيراً، كما يقول زوسيموس. بعد وفاته، تقلبات، لكن ثيودوسيوس الأول (379) أعلن المسيحية دين الدولة (380)، حظر الطقوس الوثنية (391)، حتى في المنازل. البارابالاني – ميليشيا رهبانية – وصفهم يونابيوس بـ”خنازير بشرية”، هدموا معابد، هاجموا يهوداً. في الإسكندرية، ثيوفيلوس (385–412) دمر السرابيوم (391)، أحرق مكتبته، حوّله كنيسة.

كيرلس وأوريستيس: الصراع على السلطة

في 412، خلف كيرلس عمه ثيوفيلوس بعد صراع عنيف. طرد اليهود (414)، أغلق معابدهم. أوريستيس، حاكم معتدل مسيحي، صديق هيباتيا، رفض سيطرة كيرلس، كتب للإمبراطور. كيرلس عرض إنجيلاً للمصالحة؛ رفض أوريستيس. هاجم 500 راهب أوريستيس، جرحوه بحجر؛ عُذب المهاجم حتى الموت، فأعلنه كيرلس شهيداً. هيباتيا، مستشارة أوريستيس، اتهمت بالسحر لإبعاده عن الكنيسة. يقول السودا: “كيرلس غار منها فدبر قتلها بأبشع صورة”.

القتل: جريمة في وضح النهار

في مارس 415، أثناء ركوب عربتها، هاجمها البارابالاني بقيادة بطرس القارئ. سحبوها إلى كنيسة القيصريون (معبد سابق)، خلعوا ملابسها، جردوها بلحمها بقذائف محار حادة، قطعوا أطرافها، أحرقوا جثتها في كينارون – سخرية من طقوس وثنية. يروي يوحنا النيقيوي: “كانت مكرسة للسحر والأسطرلاب، فأغوت أوريستيس”. لم يُدان كيرلس؛ قلّص الإمبراطور البارابالاني من 800 إلى 500. أغلقت المدرسة، هاجر الفلاسفة، فقدت أعمال هيباتيا، و90% من التراث اليوناني.

إذا ما أختزلنا العمق المتعدد الأبعاد: نفسي، اجتماعي، فلسفي، علمي
نجد أن نفسياً: رفض هيباتيا الزواج لكي تتحرر من الهوية الجنسية؛ محاضراتها كسرت حاجز الخوف. بالمقابل كان كيرلس ذو طموح مقدس لكي يعوض نقصاً داخلياً، كانت كراهيته للمرأة العالمة المثقفة هاجس وخوف من فقدان السيطرة.
اجتماعياً: تحولت الإسكندرية من تعددية إلى مسيحية قسرية؛ البارابالاني تحولوا من مساعدي مرضى إلى ميليشيا؛ قامت بطرد اليهود وملاحقة الوثنيون وبداية تطهير عرقي ديني.
فلسفياً: هيباتيا: كانت العقل وطريق الخلاص؛ بينما كان كيرلس: الطاعة والتطرف والبرغماتية.
صراع أبدي بين الحرية الفكرية وبين السلطة.
علمياً: قتلها أغلق المدرسة، هاجر العلماء إلى بيزنطة وفارس؛ تأخرت أوروبا ألف سنة.

في النهاية كانت شمس لا تغيب

لم تمت هيباتيا في 415. عاشت في كبلر، نيوتن، كل امرأة تفكر. كيرلس صار “قديساً”، لكن التاريخ يقول عبر سقراط السكولاستيكوس: “تفوقت على الفلاسفة كرامة وفضيلة”. في زمن التعصب، تذكرنا دائما بأن العقل ليس خطيئة؛ التطرف هو الخطيئة. قتلها كان رمزاً لانتقال مساحات الفلسفة إلى صندوق الدين، فقدت الإنسانية هذا التراث الكلاسيكي حتى بداية عصر النهضة.

المصادر:

1. Soraya Field Fiorio, “The Killing of Hypatia,” Lapham’s Quarterly, 2019.
2. “Hypatia of Alexandria,” World History Edu.
3. Soraya Field Fiorio, “The Murder of Ancient Alexandria’s Greatest Scholar,” TED-Ed.
4. Dzielska, Maria. Hypatia of Alexandria. Harvard University Press, 1995.
5. Watts, Edward. Hypatia: The Life and Legend. Oxford University Press, 2017.
6. Socrates Scholasticus, Historia Ecclesiastica, Book VII.
7. Synesius of Cyrene, Letters to Hypatia.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصدقاء الله: مأساة -الأنقياء- النور المقموع في جنوب فرنسا
- الوجه الآخر للعبث الإنساني في رحله صيد: حين يتحوّل الإنسان إ ...
- ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفس ...
- الوظيفة المرتبكة بين كفاءة الغرباء وثقة الأقرباء: حين تُدار ...
- التفكير التحليلي النقدي: وعي في زمن الفوضى الرقمية
- حياة تتجدد بعد تشيرنوبل: بين أثر الإشعاع النووي وقوة التكيف ...
- العنصرية: ضلال الروح البشرية في عتمة صندوق الاختلاف اللامتنا ...
- خلق الأعداء: آلية الهيمنة الأمريكية من خلال الدعاية والعمليا ...
- ديني: عظمة صغيرة في كهف سيبيري تحمل في طيّاتها سرّ التميز
- فنّ سرقة الفقراء بالوهم: من “رأس المال الوهمي” إلى رهن البيت ...
- قراءة في كتاب “سحر التفكير الكبير” لديفيد شوارتز
- سجن الأوهام والبحث عن الذات: رحلة الإنسان بين الخوف والحرية
- الشجاعة التي لا تنكسر: صعود الروح في وجه الجدار العنصري
- القمامة والقدر: رحلة (كاري) من سلة المهملات إلى عرش الرعب
- على ظهر امرأة: صورة واحدة تكشف ثقل التاريخ
- أندرو جاكسون: الطاغية الذي صنعته السياسة الأمريكية القديمة
- صناعة الجهل وتفكيكه: حين تتحوّل المعرفة إلى قناعٍ للحقيقة
- وسام الحمار
- القرد أولى بلحم غزاله
- كاميل كلوديل… حين نَحَتَتِ العزلةُ وجهَ العشق


المزيد.....




- -قد تُلغى بأكملها-.. أول تعليق لهيئة الانتخابات في مصر بعد ب ...
- نواف سلام لوفد سعودي: لبنان لن يكون منصة تهدد أمن أشقائه الع ...
- العدد الجديد الستون المحكم من مجلة جامعة ابن رشد في هولندا
- الذكاء الاصطناعي يساعد الأطباء في العثور على الكسور وعلاجها ...
- ردود فعل إسرائيلية وفلسطينية قبل التصويت على مشروع قرار في م ...
- مصر - هل تعاد المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب المصري؟ ...
- -الكتلة الأكبر- في العراق .. كابوس السوداني لتشكيل الحكومة
- بسبب الجوع.. ملايين اليمنيين يحلمون فقط بالبقاء على قيد الحي ...
- ترامب يعفو مجددا عن أحد مداني هجوم الكابيتول
- ما أهمية إصدار مجلس الأمن قرارا يدعم خطة ترامب بشأن غزة؟


المزيد.....

- كتاب دراسات في التاريخ الاجتماعي للسودان القديم / تاج السر عثمان
- كتّب العقائد فى العصر الأموى / رحيم فرحان صدام
- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب