أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفسيرات















المزيد.....

ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفسيرات


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8524 - 2025 / 11 / 12 - 10:06
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


في مطلع القرن السادس الميلادي، كانت مملكة حمير في جنوب الجزيرة العربية مسرحًا لصراع جيوسياسي وديني معقد على طرق التجارة عبر البحر الأحمر. واجهت حمير، بقيادة الملك يوسف أسأر يثأر – المعروف في الذاكرة العربية بـ”ذو نواس” – تحديًا مزدوجًا: من جهة، نفوذ أكسوم المسيحية المدعومة بيزنطيًا، ومن جهة أخرى، الضغط الساساني المتزايد. وسط هذا التوتر، برز ذو نواس كآخر ملوك حمير الكبار، ليس فقط كحاكم، بل كرمز لمقاومة سياسية ودينية انتهت بمذبحة نجران، ثم غزو أكسومي أطاح بعرشه. هذه القصة، المستمدة من تقاطع النقوش الحميرية المعاصرة والروايات البيزنطية والسريانية والمرويات العربية اللاحقة، تكشف عن واقع معقد يمزج بين الدين والسياسة، بعيدًا عن التهويل أو التبسيط.

لم تكن اليهودية في حمير اختراع ذو نواس، بل كانت نتيجة مسار تدريجي بدأ في القرنين الرابع والخامس. تشير النقوش الجنوبية العربية إلى تحول النخبة الحميرية نحو الوحدانية، مع بقاء تعدد ديني في الأرياف والمدن التجارية. وفقًا لكريستيان روبان، لم تكن هذه اليهودية “رابينية” بالمعنى التقليدي، بل شكل محلي يركز على الإله الواحد دون إشارات واضحة إلى التلمود أو الشريعة الفموية. هذا التحول لم يكن تبشيريًا شعبيًا، بل عملية دولة تهدف إلى توحيد الهوية السياسية في مواجهة التمدد المسيحي الأكسومي. في هذا السياق، يبرز ذو نواس كحلقة في سلسلة، لا نقطة انطلاق، حيث اعتنق اليهودية كأداة لتعزيز السلطة.

يُعرف ذو نواس في النقوش الحميرية باسمه الرسمي يوسف أسأر يثأر، وهو اللقب الذي يظهر في تم تأكيده في النقوش القديمة أما “ذو نواس” فتفسيره العربي اللاحق يعود إلى “صاحب الغدائر”، ربما إشارة إلى تسريحة شعره أو رمز قوة. تُعد هذه النقوش أقدم مصدر معاصر، إذ تتحدث بصوت السلطة الحميرية نفسها. في أحد النقوش، يفخر الملك بإحراق كنيسة في ظفار وقتل “الأحباش”، ثم التحرك لحرب مناطق أخرى. أما في نقوش أخرى فتسجلان حملة نجران بتفاصيل عسكرية: قتل آلاف، سبي آخرين، وتدمير معاقل مسيحية. هذه النصوص ليست سرديات، بل تقارير انتصار، مما يجعلها موثوقة في تسجيل الأفعال، لكنها تفتقر إلى وجهة نظر الضحايا. من هنا، يظهر ذو نواس كملك حربي يرى في المسيحيين تهديدًا داخليًا.

تُعد مذبحة نجران (حوالي 523م) الحدث الأبرز في عهد ذو نواس، وأكثرها توثيقًا عبر مصادر مستقلة. تتفق ثلاثة خطوط دلالية على وقوعها: النقوش الحميرية التي تثبت الحملة العسكرية والقتل الجماعي، ورسالة سمعان بيت أرشام (سريانية، ~520م) التي تفصل حصار نجران، رفض الأسقف الحارث (أريثاس) الردة، ثم إحراق المسيحيين في أخاديد أو قتلهم بالسيف، والاستشهاد اليوناني لأريثاس (Martyrium Sancti Arethae) الذي يحفظ أسماء الشهداء ويؤرخ الحدث إلى 24 أكتوبر، مع تفاصيل طقسية. أما بروكوبيوس البيزنطي فيربط الاضطهاد بتدخل الملك الأكسومي كالب (إيلاس بحرا) بدعم من الإمبراطور جستين الأول، مما أدى إلى غزو اليمن عام 525م وسقوط ذو نواس. هذه المصادر، رغم تحيزاتها، تكوّن مركز ثقل تاريخي يؤكد أن الصراع كان دينيًا وسياسيًا في آن واحد.

القراءة التاريخية الأكثر توازنًا ترى أن دوافع ذو نواس كانت مركبة. سياسيًا، رأى في المسيحيين المحليين – خاصة في نجران وظفار – تهديدًا داخليًا مرتبطًا بأكسوم، التي كانت تسيطر على موانئ البحر الأحمر وتهدد خطوط تجارة اللبان والذهب. دينيًا، استخدم اليهودية كغطاء أيديولوجي لتعبئة النخبة وتبرير العنف. يدعم هذا التحليل ج. و. باورسوك في كتابه عرش أدوليس، حيث يصف حروب البحر الأحمر كصراع جيوسياسي يتخذ الدين أداةً له. تتراوح أرقام الضحايا بين مصدر وآخر: النقوش تشير إلى 27,000 قتيل و20,500 أسير، بينما الروايات المسيحية تصل إلى عشرات الآلاف مع وصف تعذيب مفصل مثل الحرق والتقطيع. النصوص الهاجيوغرافية تميل إلى التضخيم لأغراض دينية، لكن تقاطع المصادر يثبت أن المذبحة كانت كبيرة ومنظمة، حتى لو لم نعرف العدد الدقيق. دراسات حديثة (2024–2025) في Arabian Archaeology and Epigraphy تشكك في الأرقام العالية، لكنها تؤكد أن نجران كانت مركزًا مسيحيًا هامًا، مما يجعل استهدافها استراتيجيًا.

بعد هزيمته أمام كالب، تتضارب الروايات حول مصير ذو نواس: الرواية العربية الإسلامية (الطبري، ابن هشام) تقول إنه انتحر بركوب فرسه في البحر الأحمر لتجنب الأسر، بينما الروايات المسيحية تفيد بأنه قُتل في المعركة أو أُسر ثم أُعدم. الدراسات الحديثة لا تجزم، لكنها ترجح أن موته جاء مباشرة بعد الانهيار العسكري. رواية الانتحار تبقى الأكثر انتشارًا في الذاكرة العربية، ربما لما تحمله من رمزية بطولية. هذا السقوط أعاد تشكيل ميزان القوى في البحر الأحمر لصالح أكسوم مؤقتًا، وساهم في رسم خريطة دينية–سياسية جديدة لشبه الجزيرة قبل الإسلام بسنوات قليلة.

تشير سورة البروج (85:4–8) في القرآن إلى “أصحاب الأخدود” الذين أحرقوا المؤمنين في النار، دون تسمية أشخاص أو أماكن. التفسير الإسلامي الغالب يربطها بمذبحة نجران، خاصة مع ذكر “النار ذات الوقود”. لكن النص القرآني لا يحدد هوية الضحايا أو الجناة، مما جعل الربط محل نقاش. دراسات حديثة (2024–2025) تُراجع هذا الربط، مشيرة إلى أن القصة قد تكون عامة، أو مستمدة من تقليد شفهي واسع. هكذا، انتقلت قصة ذو نواس من النقوش إلى الروايات السريانية والبيزنطية، ثم إلى الذاكرة الإسلامية.

بناءً على تقاطع المصادر المستقلة، يمكن تلخيص السيرة الأقرب إلى الواقع كالتالي: التحول الديني في حمير كان سابقًا على ذو نواس ومؤسسًا على مستوى الدولة؛ الاضطهاد وقع فعلاً في نجران وظفار بأبعاد سياسية وعسكرية واضحة؛ الدوافع مزيج من السيادة في مواجهة أكسوم والأيديولوجيا اليهودية؛ والنتيجة غزو أكسوم 525م وسقوط حمير. حدود المصادر متنوعة: النقوش معاصرة ورسمية لكنها من منظور المنتصر فقط؛ رسالة سمعان قريبة زمنيًا لكنها متحيزة دينيًا؛ الهاجيوغرافيا تحفظ أسماء وتواريخ لكنها مبالغة لاهوتية؛ وبروكوبيوس يقدم رؤية إقليمية لكنها مصلحية بيزنطية.

لم يكن ذو نواس مجرد “طاغية يهودي” كما صورته الروايات المسيحية، ولا “بطل قومي” كما احتفى به بعض المؤرخين العرب. بل كان ملكًا في قلب صراع جيوسياسي، استخدم الدين أداةً لحماية السيادة. أحرق كنائس، قتل آلافًا، لكنه لم ينجح في وقف المد المسيحي الأكسومي. سقط عرشه، لكن فعله غيّر توازنات المنطقة، وترك أثرًا في الذاكرة الدينية: من النقوش الحميرية إلى الروايات السريانية، ثم إلى “أصحاب الأخدود” في القرآن. هكذا، يبقى يوسف أسأر يثأر – ذو نواس – رمزًا لتقاطع السلطة والعقيدة في لحظة تاريخية حاسمة قبل الإسلام بسنوات قليلة.

المصادر:

• Robin, Christian. “The Judaism of the Ancient Kingdom of Ḥimyar.” Annales d’Éthiopie, 2000.
• Bowersock, G. W. The Throne of Adulis. Oxford University Press, 2013.
• Shahîd, Irfan. The Martyrs of Najrân: New Documents. 1971.
• Martyrium Sancti Arethae. Acta Sanctorum, October X.
• Procopius. History of the Wars, Book I. Loeb Classical Library, 1914.
• دراسات حديثة في Journal of Arabian Studies وArabian Archaeology and Epigraphy (2024–2025).



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوظيفة المرتبكة بين كفاءة الغرباء وثقة الأقرباء: حين تُدار ...
- التفكير التحليلي النقدي: وعي في زمن الفوضى الرقمية
- حياة تتجدد بعد تشيرنوبل: بين أثر الإشعاع النووي وقوة التكيف ...
- العنصرية: ضلال الروح البشرية في عتمة صندوق الاختلاف اللامتنا ...
- خلق الأعداء: آلية الهيمنة الأمريكية من خلال الدعاية والعمليا ...
- ديني: عظمة صغيرة في كهف سيبيري تحمل في طيّاتها سرّ التميز
- فنّ سرقة الفقراء بالوهم: من “رأس المال الوهمي” إلى رهن البيت ...
- قراءة في كتاب “سحر التفكير الكبير” لديفيد شوارتز
- سجن الأوهام والبحث عن الذات: رحلة الإنسان بين الخوف والحرية
- الشجاعة التي لا تنكسر: صعود الروح في وجه الجدار العنصري
- القمامة والقدر: رحلة (كاري) من سلة المهملات إلى عرش الرعب
- على ظهر امرأة: صورة واحدة تكشف ثقل التاريخ
- أندرو جاكسون: الطاغية الذي صنعته السياسة الأمريكية القديمة
- صناعة الجهل وتفكيكه: حين تتحوّل المعرفة إلى قناعٍ للحقيقة
- وسام الحمار
- القرد أولى بلحم غزاله
- كاميل كلوديل… حين نَحَتَتِ العزلةُ وجهَ العشق
- في حضرة عبث الحنين .. حكاية الحاجّ نبيل وأشباح سبورتنج
- القراءة بين سيف أرطغرل الصارم ومقص زكي الحلاق الفاهم
- ومضات من حياة لازلو كرازناهوركاي: رسول الخراب الجميل


المزيد.....




- ظهور غير معتاد لدلفين يسبح بين القوارب في قنوات البندقية يحي ...
- -بسم الله-.. شاهد ما قاله ضابط أمريكي من أصول عربية ساعد سيد ...
- ترامب يطالب رئيس إسرائيل بمنح نتنياهو العفو في محاكمته الجار ...
- عازفو مزمار القربة في ملبورن يسجلون رقما قياسيا عالميا بعزف ...
- مأساة في البحر المتوسط.. 42 مهاجراً أغلبهم سودانيون يغرقون ق ...
- زين الدين زيدان: سأعود -قريبا- إلى عالم التدريب!
- هجمات 13 نوفمبر الدامية بباريس.. النيابة العامة تفتح تحقيقين ...
- هجمات باريس: -صلاح عبد السلام- يريد لقاء عائلات الضحايا.. ند ...
- الحياة الصعبة في مخيمات غزة.. لا كهرباء وطعام قليل والشتاء ع ...
- في مواجهة التغير المناخي.. مبادرات شبابية أردنية لتحويل الوع ...


المزيد.....

- كتاب دراسات في التاريخ الاجتماعي للسودان القديم / تاج السر عثمان
- كتّب العقائد فى العصر الأموى / رحيم فرحان صدام
- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفسيرات