أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 01:04
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
“في أعماق الظلم، حيث يُبنى الجدار من حجارة الكراهية، لا يحتاج البطل إلى سيفٍ أو صراخ. يكفيه أن يقف، ينتظر، ويصعد… فالروح العظيمة لا تنكسر، بل تقفز فوق الحواجز.”
في قلب الجنوب الأمريكي خلال خمسينيات القرن العشرين، في تلك البلاد التي سُمّيت لاحقًا أرض الأحلام، كانت الأحلام نفسها حبيسة الوهم. أمريكا عام 1950 لم تكن للجميع؛ كانت مملكةً بيضاء تُدار بقوانين جيم كرو التي نشأت في سبعينيات القرن التاسع عشر وامتدت حتى منتصف الستينيات، لتحكم بأن اللون الأبيض هو المعيار الوحيد للكرامة والحق. كانت ساوث كارولاينا، إحدى الولايات المؤسسة للكونفدرالية القديمة، نموذجًا لهذا الانقسام المَرَضي: البيض في القمة، يمتلكون المكتبات والمدارس والمصحات والسماء والقوانين؛ والسود في القاع، محكومون بالأرض الخصبة بالفقر والإقصاء واليأس.
كانت تلك الحقبة تُعرف بسنوات “الفصل العنصري القانوني”. لم تكن اللافتات التي تُعلق على الأبواب مجرد كلمات على الخشب، بل كانت أوامر حديدية تصنع حدود الوجود. لافتات تقول: “للبيض فقط” على المرافق العامة، “لا يُسمح للسود” على المطاعم والمكتبات. وفي مدارس ساوث كارولاينا، كانت كتب السود مستعملة وممزقة، بينما يتلقى طلاب البيض أحدث المناهج. هناك، وُلد نظامٌ إرهابي ناعم الشكل قاسٍ الجوهر، يُغذي الغرور في نفوس الحراس البيض الذين يرون في كل أسود تهديدًا لنقائهم. لم يكن هذا النظام اجتماعيًا فحسب، بل فلسفيًا أيضًا، يقوم على أكذوبة أن الدم يحدّد القدر لا العقل، وأن الخضوع فضيلة للعبيد.
ومع ذلك، في هذا الجحيم المنظم، وُلدت أعظم الثورات. لم تكن ثورة سلاح أو فوضى، بل ثورة الصمت المتمرّد. في عام 1959، في بلدة ليك سيتي (Lake City) الصغيرة بمقاطعة فلورنس في ولاية ساوث كارولاينا، كان هناك طفل في التاسعة من عمره يُدعى رونالد إروين ماكنير. وُلد عام 1950 لعائلة فقيرة تعمل في الحقول منذ أجيال، تحصد القطن تحت شمس الجنوب اللاهبة. كان رونالد مختلفًا عن غيره من الأطفال، إذ حمل في يديه كومة كتبٍ عن الليزر والميكانيكا الكمّية والنسبية العامة، وهي علوم لم يُفترض أن يلمسها طفل أسود في ذلك الزمن. لم يكن يبحث عن ترفٍ أو تسلية، بل عن دليلٍ على أن عقله أقوى من أي جدار.
في ظهيرةٍ من صيف عام 1959، قصد مكتبة ليك سيتي العامة — وكانت آنذاك مفتوحة للبيض فقط بموجب القوانين المحلية. وقف أمام بابها الخشبي الباهت وقد كُتبت عليه الأحرف الحديدية الباردة: “White Only” أي “للبيض فقط”. كانت تلك اللوحات مألوفة في المدارس والمطاعم والفنادق وحتى المستشفيات. دخل الطفل بهدوءٍ، واتجه إلى الرفوف المخصصة للفيزياء، فاختار ثلاثة كتب. عند المنضدة، وقفت موظفة بيضاء صارمة النظرات قالت له ببرودٍ: “اخرج من هنا فورًا. هذه المكتبة ليست مكانك. ارجع إلى حقلك.”
في تلك اللحظة، لم يكن لدى رونالد ماكنير أي سلاح سوى روحه. لم يصرخ، لم يبكِ، لم يهرب. قال بهدوءٍ أقرب إلى الرهبة: “سأنتظر.” كانت كلمة واحدة، لكنها كسرت جدار التاريخ. نُوديت الشرطة، وجاءت والدته بيرل ماكنير، امرأة سوداء تعمل في الحقول من الفجر حتى المغيب. لم تجره من المكان كما توقعوا، بل وقفت بجانبه صامتة. كان صمتهما معًا تمرّدًا كاملاً. انتظرا ساعاتٍ طويلة، والشرطة تُهدد، والموظفة تغضب، لكن الطفل ظلّ ثابتًا. في النهاية، سُمح له باستعارة الكتب، في واقعةٍ سجّلتها صحيفة Lake City News & Post المحلية يومها كـ“حادثة غير اعتيادية”. تلك اللحظة البسيطة صارت شرارة صعودٍ روحي لنظامٍ كان يظن نفسه أبدياً.
لم يكن “سأنتظر” استسلامًا، بل إعلان حربٍ بصوتٍ خافت. فلسفةٌ مضادة للغضب، تقول إن الصبر ليس ضعفًا، بل ذكاء وجودي. في عالمٍ يخلط بين الصراخ والشجاعة، كان ماكنير ينسج طريقًا جديدًا نحو النور. وكأن نيتشه نفسه يُطل من بعيد ليقول: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى.”
من تلك اللحظة، بدأت معركة المعرفة. واصل رونالد تعليمه في مدارسٍ مفصولة، تفتقر إلى المختبرات والمكتبات، لكنه صنع من مصباحٍ باهت ليلاً مختبره الأول. في عام 1967 تخرج من مدرسة Carver High School متفوقًا على جميع أقرانه، رغم التمييز الذي جعله يعيش صراعًا يوميًا مع الإقصاء. ثم التحق بجامعة North Carolina A&T State University في مدينة غرينزبورو، وحصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء عام 1971، في لحظةٍ كانت فيها حركة الحقوق المدنية الأمريكية بقيادة مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس قد فتحت ثغراتٍ واسعة في جدار الفصل العنصري.
لكن الطفل الذي تحدّى مكتبة ليك سيتي لم يكتفِ بذلك. عام 1976، حصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، ليصبح ثاني أمريكي من أصولٍ أفريقية ينالها في تاريخ المعهد. أطروحته تناولت تقنيات الليزر المتقدمة، وهي أبحاثٌ فتحت لاحقًا الطريق لتطبيقات في الاتصالات والطب. في ذلك الحين، كانت الولايات المتحدة ما تزال تصارع بقايا التمييز، ورونالد يمثّل الوجه الجديد لأمريكا التي بدأت تعترف بعقلٍ أسودٍ يصعد بهدوء فوق الجدار.
ثم جاء عام 1978، حين اختارته وكالة ناسا (NASA) ضمن برنامج رواد الفضاء، ليكون من أوائل الأمريكيين السود الذين يخضعون لتدريب الفضاء في مركز جونسون الفضائي بمدينة هيوستن بولاية تكساس. في يناير 1984، صعد على متن مكوك “تشالنجر” في مهمته الأولى كأخصائي تحميل علمي في الرحلة STS-41B، حيث نفّذ تجارب معقدة في مجالات الليزر والاتصالات الفضائية. كانت تلك اللحظة أكثر من مجرّد إنجازٍ علمي؛ كانت انتصارًا روحيًا لطفلٍ وقف قبل ربع قرن أمام باب مكتبة مغلقة.
لكن القدر، كما لو أنه أراد تخليد رمزيته، قرّر أن ينهي حياته في السماء. في صباح 28 يناير 1986، انطلق مكوك تشالنجر من مركز كينيدي للفضاء في فلوريدا، يحمل على متنه سبعة رواد. بعد 73 ثانية فقط من الإقلاع، انفجر المكوك أمام أنظار العالم، وسقط حطامه في مياه الأطلسي قبالة كيب كانافيرال. من بين الركام، بقي اسم رونالد إروين ماكنير (1950–1986) يضيء كنجمةٍ لا تنطفئ.
ذلك الطفل الذي انتظر في مكتبةٍ مغلقة صار اليوم اسمًا يُزيّن مكتباتٍ في جميع أنحاء الولايات المتحدة، تحت برنامجٍ أنشأته وزارة التعليم الأمريكية عام 1991 باسم Ronald E. McNair Post-Baccalaureate Achievement Program، لمساعدة الطلاب الفقراء على مواصلة الدراسات العليا. كان ذلك انتصارًا بعد الموت، يليق بروحٍ لم تعرف الانكسار.
⸻
دعونا نحلّل هذا المجتمع الأمريكي العنصري القديم بجراحة الفلسفة الاجتماعية العميقة. كان نظامًا يُبنى على أكذوبة كبرى: أن اللون يُحدّد القيمة الإنسانية. في الجنوب، كانت “قوانين جيم كرو” جدرانًا قانونية لا تُخترق: مكتباتٌ للبيض، ومدارسٌ للسود بميزانياتٍ أقل بنسبة 60٪، حتى المياه والحمامات منفصلة. كان التمييز ليس صدفة، بل فلسفة اجتماعية تُعلّم البيض الخوف المرضي من “التلوّث العرقي”، وتُعلّم السود الخضوع كواجبٍ أخلاقي. الأبيض يرى في السود تهديدًا لـ”حضارته”، فيُغلق الأبواب خوفًا من أن يُثبتوا تفوّقهم العقلي. هذا الخوف كان أضعف حلقات هذا النظام: عندما وقف رونالد بهدوئه، كشف الوهم الكامل. لم يحطّم الجدار بالقوة الجسدية، بل بإثبات أن عقله أبيضٌ أنقى وأقوى من أي قانونٍ ظالم. هكذا ينهار أي نظامٍ استبدادي: ليس بالثورة الدموية التي تُولّد كراهيةً جديدة، بل بالصعود الفردي الذي يُجبر العالم على إعادة الكتابة والاعتراف.
في روح العظماء – مانديلا الذي قضى 27 عامًا في السجن دون كراهية، وغاندي الذي هزم الإمبراطورية البريطانية بالصوم والصمت، ومارتن لوثر كينغ الذي حلم بصوتٍ هادئ – نجد هذا الخيط الذهبي: الصمت المقاوم الذي يبني التاريخ. قال مانديلا: “حين أخرجتني الكراهية من السجن، كنت لا أزال سجينها؛ فاخترت أن أتركها خلفي لأكون حرًا بحق.” رونالد، مثلَهم، يُعلّمنا الدرس الأعظم: لا تستسلم أبدًا، مهما طال الانتظار! الغضب يُحرقك قبل أن يُحرق عدوّك. الصبر يبني إمبراطورياتٍ داخلية لا تُهزم. في بحثٍ فلسفي أعمق، يُذكّرنا بأفلاطون في “الجمهورية”: العدالة الحقيقية ليست في الانتقام الأعمى، بل في النفس المتوازنة التي تتجاوز الظلم بالفضيلة. رونالد لم يُغيّر القانون أولًا، بل غيّر نفسه أولًا، فغيّر العالم كلّه. هذا هو السرّ الخالد: العظمة داخلية، لا خارجية. مهما بنى المجتمع جدرانًا عالية، يمكنك بناء صاروخٍ داخل روحك يطير إلى ما لا نهاية له.
اليوم، في عالمٍ يتخفّى فيه التمييز خلف شعارات “الفرص المتساوية” و”العدالة الاجتماعية”، نحن بحاجة إلى هذا الدرس أكثر من أي وقت مضى. العنصرية لم تمت؛ صارت ناعمة وخبيثة: في التوظيف حيث يُفضَّل البيض سرًّا، في التعليم حيث تُقصى الأحلام السوداء، في الإعلام حيث تُصوَّر القصص بنصف الحقيقة. لكن رونالد يصرخ لنا من النجوم بصوته الهادئ: قُم، انتظر، اصعد الآن! لا تدع الرفض يُطفئ نارك الداخلية. اجعل كل “لا” خطوة نحو “نعم” أكبر وأعظم. في حياتك اليومية – وظيفة مرفوضة، حلم مُسخر منه، صديق يخونك – تذكّر: الطفل انتظر ساعات، ففتح السماء لأمّة بأكملها. أنت أقوى مما تظنّ، أقوى من أي جدار! لا تستسلم، قاتل بالمعرفة، بالإصرار، بالحلم! العالم ينتظر شجاعتك الهادئة ليتبعك ويُغيّر مساره.
تخيّل لو استسلم رونالد في تلك اللحظة: لما صار اسمه على مكتباتٍ مفتوحة للجميع، على جوائز ناسا الخالدة، على دروسٍ في كل مدرسة أمريكية، على أفلامٍ وكتبٍ تُلهم الملايين. لكنه لم يستسلم، فغيّر وجه أمةٍ وألهم جيلًا كاملًا. هذا الإصرار النبيل هو فلسفة الحياة الحقيقية: الروح التي لا تنكسر هي التي تبني التاريخ وتُعيد صياغته. في مواجهة اليأس الذي يحيط بنا، اختر المعرفة كسلاحك الأقوى. اقرأ كتابًا كل يوم، تعلّم مهارةً جديدة كل شهر، ابتكر حلًّا لمشكلةٍ كل عام. ردّ على الكراهية بنجاحٍ يُعمي أعداءك، بإنجازٍ يُجبرهم على التصفيق. هكذا تنتصر حقًا: ليس بإسقاط الآخر في الوحل، بل برفع نفسك إلى قمةٍ لا يصلون إليها أبدًا.
قصة رونالد ليست سيرة بطلٍ فردي، بل درسٌ كونيّ في كيفية انتصار الروح على الجدار. في زمن الضجيج، كن الصمت الذي يصنع التحوّل. انتظر، ليس ضعفًا، بل يقينًا بأن للسماء موعدًا معك كما كان له. قل لنفسك كما قال: “سأنتظر.” أمام الرفض المهين، أمام الظلم اليومي، أمام الخوف، قف كما وقف هو. فربما تفتح أنت بابًا ينتظر جيلًا كاملًا أن يُفتح.
لقد رحل رونالد ماكنير إلى النجوم التي حلم بها، لكن روحه بقيت ككوكبٍ لا يغيب. كتب التاريخ اسمه إلى جانب العلماء الكبار، وكتبت الحياة على جدارها أن الإنسانية لا تُقاس بلون الجلد بل بعمق الحلم. في كل مرة تواجه فيها عدوًا داخليًا أو خارجيًا، تذكّر الطفل الذي انتظر. أنت أيضًا قادر أن تفتح السماء بنفسك.
فالعظماء لا يُولَدون في الظروف المثالية، بل يُصنعون من الإصرار النبيل والصبر المتمرّد. وأنتَ عظيمٌ بالفعل، إذا اخترتَ أن تكون كذلك – اختر الآن، وابدأ رحلتك!
ــــــ
المصادر:
• Ronald McNair: Challenger Astronaut – Gail Sakurai (1998)
• Dreams of Space: The Story of Ronald E. McNair – Sharon Shavers Gayle (2011)
• NASA Biography Archive – Ronald E. McNair (NASA.gov)
• The New Jim Crow – Michelle Alexander (2010)
• Simple Justice – Richard Kluger (1975)
• Lake City News & Post Archives, 1959
• Civil Rights Movement Digital Archive, University of South Carolina
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟