أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 21:52
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
كسر الحاجز بين الإنسان والطبيعة
منذ أن وقف الإنسان على قدميه لأول مرة، ظلت البرية مرآته الغامضة التي يتأملها ليعرف ذاته، يخشاها لبناء حضارته، ويحن إليها كلما ضاقت عليه المدن وضاع صوته بين ضجيج الآلات. الاندماج مع الحيوان لم يكن يومًا مجرد نزوة عابرة، بل فعل فلسفي قديم يعكس سؤالًا وجوديًا عميقًا يتردد عبر العصور: هل نحن جزء لا يتجزأ من الطبيعة، أم كائنات منفصلة عنها تمامًا؟ في فلسفة هنري ديفيد ثورو، تتحول الطبيعة إلى خلاص العالم نفسه، ليست مجرد مشهد جمالي نطل عليه من النوافذ، بل جوهر يعيد تشكيل الذات البشرية؛ وفي تصوف إيمرسون، لا يعرف الإنسان نفسه إلا إذا انحل في شبكة الكائنات الأخرى التي تشاركه الوجود. لكن على الضفة الأخرى، يحذر العلم من الانغماس في الأنثروبومورفيزم، أي إسقاط الصفات الإنسانية على الحيوان، لأن ذلك قد يعمي عن فهم حقيقي لغريزته ووظائفه البيولوجية التي تكشف عن نظام حياة مختلف تمامًا. ومع ذلك، تثبت قصص كثيرة أن التعاطف، حتى لو كان ملوثًا ببعض الإسقاطات البشرية، يفتح أبوابًا لفهم أعمق وعلاقة أرحب بين الإنسان والكائنات التي تشاركه الكوكب، مما يعزز حملات حماية ويغير الرأي العام نحو التعايش بدلاً من الاستغلال.
فيرنر فرويند: الذئب الذي حمل قلب إنسان
إذا كانت هناك تجربة تجسد الحلم البشري في الذوبان الكامل مع الحيوان، فهي تجربة فيرنر فرويند الذي ولد في ألمانيا عام 1933، وخاض تجربة الحرب جنديًا، ليخرج منها مثقلًا بأسئلة حول العنف البشري والسلطة التي دمرت المجتمعات. في عام 1972، أسس حديقة “وولفسبارك” قرب ميرتسيغ، معلنًا ولادة حياة ثانية لا تقوم على الانتماء إلى مجتمع بشري منهك بالحروب، بل على الذوبان في قطيع من الذئاب يعيد تعريف الهوية البشرية. لم يكتف فرويند بالمراقبة من بعيد أو الترويض المألوف، بل اختار طريقًا قاسيًا يمزج بين الوجودي والعملي: زحف على أربع، عوى مع العواء، تناول اللحوم النيئة بيديه وأسنانه، ونام في الثلج البارد محاطًا بأجساد الذئاب، محاكيًا غريزتها ليصبح جزءًا من نظامها الاجتماعي. ولأكثر من أربعين عامًا، لم يكتفوا بقبوله عضوًا بينهم، بل منحوه موقع “الألفا”، القائد الذي يسبقهم في الطعام، يوزع الأدوار في الصيد، ويؤدب الصغار عند خرق النظام، مما يثير تساؤلات عميقة حول الحدود بين الإنسان والحيوان وإمكانية العودة إلى الطبيعة الأصلية حيث يسود الغريزة والوضوح على التعقيد البشري. علميًا، وفرت هذه التجربة مادة نادرة لدراسة الذئاب من الداخل، مثل سلوكها الاجتماعي وديناميكيات القطيع وأصواتها، وثقها فرويند من موقع لم يصل إليه العلماء التقليديون، رغم أنها تثير جدلاً حول ما إذا كانت تجربة علمية منهجية أم مغامرة شخصية مشبعة بالأسطورة. أما اجتماعيًا، فقد أثرت في الرأي العام الأوروبي، ملهمة حملات لحماية الذئاب المهددة بالصيد والمزارع، محولة الذئب من رمز الخطر إلى كائن اجتماعي معقد يشبهنا أكثر مما نظن، ومغيرة النظرة الثقافية نحو البرية. في صور التقطت له عام 2013، يظهر فرويند شيخًا أبيض الشعر، يلعق الذئب وجهه في مشهد يصعب تحديد معناه: هل هو خضوع الذئب للإنسان، أم انمحاء الإنسان في الذئب؟ وفي فبراير 2014، حين مات عن ثمانين عامًا، بدا وكأن ذئبًا خرج من جسده ليعود إلى الغابة، تاركًا للبشر سؤالًا معلقًا: هل نحن من يقود القطيع، أم أننا في النهاية مجرد أفراد في قطيع أكبر اسمه “الحياة”؟
الدوتشر في أيداهو: ست سنوات على حافة البرية
بينما كان فرويند يعيش الذوبان الجسدي الكامل وسط قطيع الذئاب، اختار الزوجان جيم وجيمي دوتشر مسارًا مختلفًا في برية “سوتوث” بولاية أيداهو خلال التسعينيات، حيث بنوا مخيمًا بسيطًا وقررا العيش لست سنوات بين قطيع سموه Sawtooth Pack، لا كذئاب بالتبني بل كمراقبين صبورين يذوبون في تفاصيل الحياة اليومية للقطيع، مما يعكس فكرة أن الفهم العميق لا يتطلب الذوبان التام بل الصبر والتواضع أمام نظام حياة آخر. في كتابهما Wolves at Our Door (1997)، صورا لحظات حزن القطيع عند موت أحد أفراده، واللعب المبهج بين الصغار، والحروب الصامتة التي تخاض لحماية حدود القطيع، محولين هذه الملاحظات إلى دروس وجودية حول الإصغاء دون محو الهوية الخاصة. علميًا، سجلت ملاحظاتهما تغيرًا مهمًا في فهم الذئاب، دعمت الدراسات اللاحقة لديفيد ميك بأن “الألفا” ليس قائدًا متسلطًا بل دور أبوي داخل عائلة متماسكة، مما أسقط أسطورة غذت كتب التربية والقيادة لعقود. أما اجتماعيًا، فقد تحولت أفلامهما وصورهما إلى أدوات مؤثرة في حملات توعية، دافعة الرأي العام الأمريكي إلى إعادة النظر في الذئب من كائن شرير في الأساطير إلى رمز للحياة البرية التي تستحق الحماية، محولين الذئب من “العدو” إلى “الجار البري” عبر عدساتهما التي غيرت الثقافة البيئية.
شون إيليس: الذئب بالتبني أم الباحث عن ذاته؟
بعد الدوتشر، جاء المغامر البريطاني شون إيليس الذي اشتهر في الألفية الجديدة بكونه “الرجل الذي يعيش كالذئاب”، مرتديًا جلد الذئب في المعنى الحرفي، فعاش فترات طويلة بين القطعان في الولايات المتحدة وبريطانيا، معتمدًا طقوسهم مثل الصيام الطويل والنوم في البرد والعواء بطرق مختلفة، حتى سجل “معجمًا” لأصواتهم يعكس رحلة هوية تشبه الهروب من المجتمع البشري الصارم إلى قطيع يمنح معنى آخر للانتماء، بحثًا عن أبوة روحية في البرية. لكن إيليس أثار جدلًا حادًا بين العلماء والجمهور، إذ تساءلوا هل كان حقًا يعيش كذئب أم يقدم عرضًا إعلاميًا يجذب الأضواء، رغم أن تسجيلاته للعواء أغنت فهم التنوع الصوتي لدى الذئاب علميًا، وإن لم تحظ باعتراف أكاديمي كامل بسبب غياب المنهج المنضبط والانغماس في الأنثروبومورفيزم. اجتماعيًا، رغم الانتقادات، ألهم قصصه الإعلامية ووثائقياته الرأي العام البريطاني، مروجًا لفكرة التعايش مع الذئاب بدلاً من استئصالها، ومفتحًا نقاشًا مجتمعيًا حول مكان الذئب في بيئة أوروبا الحديثة، حتى لو كان مشروعه مشوبًا بالجدل.
لورنس أنثوني: الفيل الذي علّم الإنسان معنى الوفاء
في أواخر التسعينيات، وصل رجل أعمال جنوب أفريقي يدعى لورنس أنثوني إلى نقطة تحول غيرت مساره إلى الأبد، إذ كان عليه إنقاذ قطيع من الفيلة المتمردة كان الحكم عليها بالإعدام حتميًا إن لم تجد مأوى جديدًا، فنقلها إلى محميته “ثولا ثولا” عام 1999، مبتدئًا عهدًا جديدًا من الرفقة بين البشر والفيلة يعتمد على الصبر والثقة لا السيطرة أو الترويض. استخدم لغة الحضور الهادئ والاقتراب المتدرج، دون سياط أو أقفاص، حتى قبلت الفيلة بوجوده وتلجأ إليه في أوقات القلق، مكشفة إمكانية بناء جسر عاطفي بين نوعين يفصل بينهما ملايين السنين من التطور، حيث يصبح الفيل رمزًا للقوة والذاكرة قادرًا على منح الإنسان درسًا في الوفاء الروحي الذي يتجاوز الفوارق البيولوجية. عندما توفي أنثوني عام 2012، روايات واسعة الانتشار تقول إن القطيع سار مسافات طويلة ووقف عند بيته كأنه يودعه، قصة محاطة بالرمزية تبقى صورة بليغة عن اندماج يذيب المسافات. علميًا، دون في كتابه The Elephant Whisperer (2009) سلوكيات عاطفية واجتماعية معقدة مثل الحزن والفقد والذاكرة الجمعية، معززًا فرضيات سابقة حول ذكاء الفيلة وقدرتها على التعاطف. اجتماعيًا، لم يتوقف دوره عند حدود محميته، بل أسس “Earth Organization” التي قادت حملات واسعة لحماية الفيلة ووضع قوانين ضد الصيد الجائر، محولاً تجربته الفردية إلى حركة بيئية عابرة للحدود تغير الوعي العالمي.
كيفن ريتشاردسون: الرجل الذي يعانق الأسود
على الطرف الآخر من إفريقيا، اختار كيفن ريتشاردسون طريقًا أكثر خطورة في محمية قرب بريتوريا، عاش مع الأسود لسنوات حتى أطلق عليه الإعلام لقب “The Lion Whisperer”، مصورًا وهو يحتضنها ويلعب معها في مشاهد تجمع بين الدهشة والرهبة، مما يطرح تساؤلات حول حدود الثقة وإمكانية تجاوز الخوف مع مفترس قاتل، لكن اللحظات المأساوية تكشف أن الغريزة الحيوانية أقوى من أي وهم بالسيطرة، دعوة للتواضع أمام حدودنا الوجودية. اندماجه لم يخلُ من المآسي، ففي عام 2018 وقعت حادثة دامية حين هاجمت الأسود شابة وقتلتها بعد مطاردة ظبي، مكشفة الخط الرفيع بين الثقة والانفجار الغريزي. علميًا، اعتمد على بناء علاقة ثقة مع الأسود خلافًا للترويض القسري، مقدمًا مادة مهمة لفهم السلوك الاجتماعي للمفترسات وكيف يغير الاعتياد على البشر ردود أفعالها، رغم تحذيرات العلماء من الخلط بين “الترويض بالعاطفة” والبحث الأكاديمي. اجتماعيًا، أسهمت شهرته في لفت الانتباه إلى مأساة تجارة عظام الأسود في جنوب إفريقيا، لكنه أثار جدلاً أخلاقيًا حول المخاطر على الزوار والعاملين، معيدًا النقاش إلى سؤال أعمق: هل الاندماج مع المفترس طريق للتعايش، أم فخ يقود إلى كوارث لا مفر منها؟
بهذا نكون قد وقفنا في هذا الجزء من السرد، أمام تجربتين متناقضتين: الفيلة التي منحت إنسانًا وفاءً يشبه الحكايات الصوفية، والأسود التي كشفت هشاشة الوهم البشري بالسيطرة، كلاهما يعزز فكرة أن الطبيعة تعلم الإنسان دروسًا لا تنتهي.
تيموثي تريدويل: العناق المميت مع الدببة
في تسعينيات القرن العشرين، ظهر شاب أمريكي يدعى تيموثي تريدويل، ترك حياة المدينة وقرر العيش صيفًا بعد صيف وسط الدببة الرمادية في متنزه كاتماي بألاسكا، بلا سلاح أو حماية، مقتنعًا أن التعاطف والاندماج كفيلان بكسر حاجز الخوف، مسجلاً يومياته بالصوت والصورة بصدق يشبه الاعترافات، راسمًا صورة شاعرية لعلاقته بالدببة كمأساة يونانية حيث يريد الإنسان تجاوز حدود الطبيعة فتلتهمه تلك الطبيعة نفسها. لكن في أكتوبر 2003، انقلب الحلم إلى مأساة: قتل تريدويل وصديقته على يد دب جائع، في حادثة هزت الرأي العام ووثقها المخرج فيرنر هيرتسوغ في فيلمه Grizzly Man، تذكير قاس بأن الاندماج مع المفترسات قد يظل وهمًا لا يصمد أمام الغريزة. علميًا، قدمت وثائقه المصورة مشاهد نادرة لسلوك الدببة، لكن العلماء انتقدوا منهجيته لخلطها بين المراقبة والرغبة العاطفية في الانتماء. اجتماعيًا، أثارت الحادثة نقاشات واسعة حول حدود السياحة البيئية، معيدة إلى الواجهة سؤالًا: كيف نوازن بين التعاطف مع الحياة البرية وحماية حياة البشر، محولة تريدويل من رمز للتعايش إلى تحذير عالمي من تجاهل حدود الطبيعة؟
جين غودال: الصبر الذي كسر عزلة الشمبانزي
على الضفة الأخرى، وفي إفريقيا الشرقية، بدأت شابة بريطانية رحلتها العلمية بصبر أسطوري، وصلت جين غودال إلى محمية غومبي في تنزانيا في 14 يوليو 1960، بلا شهادة أكاديمية متخصصة لكن مسلحة بشغف عميق ورغبة في الاقتراب من الشمبانزي، جالسة وحيدة ساعات وأيامًا في الغابة حتى اعتياد القردة حضورها، مكشفة أسرارًا هزت علم السلوك الحيواني وغيرت علاقتنا بفهم “الإنسانية”، إذ لم نعد كائنات استثنائية منعزلة بل جزء من طيف أوسع من الذكاء والثقافة بين الكائنات. في نوفمبر من العام نفسه، رصدت شمبانزيًا يستخدم عصًا لاستخراج النمل الأبيض، لحظة قلبت تعريف “الأداة” من اختصاص بشري إلى قدرة حيوانية، وعلى مدى عقود وثقت الصراعات والتحالفات وحتى “الحروب” بين جماعات الشمبانزي، مؤسسة علمًا جديدًا في دراسة الرئيسيات برفع شعار الملاحظة الميدانية طويلة الأمد، مؤكدة أن للشمبانزي ثقافة تنتقل بين الأجيال كانت محصورة بالبشر سابقًا. اجتماعيًا، لم تكتف بالعلم بل أسست معهد جين غودال الذي أصبح مرجعًا عالميًا في حماية الشمبانزي والغابات، محولة تجربتها الشخصية إلى حركة إنسانية وبيئية شاملة تغير الوعي العالمي.
في هذا الجزء المأساوي، نرى التباين: تريدويل الذي مات ضحية اندماج متهور مع الدببة، وغودال التي منحتنا علمًا جديدًا بالاندماج الصبور مع الشمبانزي، الأول مأساة تحذر من التسرع، والثانية معجزة علمية تثبت أن التواضع والوقت يفتحان أسرار الطبيعة دون مخاطرة غير محسوبة.
ديان فوسي: صوت الغابة الذي اغتيل
في عام 1967، حملت الباحثة الأمريكية ديان فوسي حقيبتها وصعدت إلى جبال فيرونغا في رواندا، لبدء رحلة امتدت حتى اغتيالها عام 1985، هدفها دراسة الغوريلات الجبلية المهددة بالانقراض، لكنها تحولت إلى أكثر من عالمة؛ صارت صوتًا مدافعًا عنهم في وجه الصيادين والتجار والفساد المحلي، مجسدة التضحية القصوى حيث أصبح الدفاع عن الغوريلات معركتها الوجودية حتى فقدت حياتها في ظروف غامضة. عاشت مع الغوريلات كعائلة ممتدة، عرفت أسماءهم ورصدت عاداتهم وسجلت نبرات أصواتهم بل ملامح شخصياتهم الفردية، وكتابها Gorillas in the Mist (1983) ليس عملًا علميًا فقط بل شهادة إنسانية عن حياة مهددة بالزوال، تساءل عن الثمن الذي يدفعه الإنسان حين يتبنى قضية أبعد من ذاته. علميًا، أسست ملاحظاتها الميدانية قاعدة بيانات لا تقدر بثمن حول سلوك الغوريلات الاجتماعي من رعاية الصغار إلى التحالفات بين الذكور. اجتماعيًا، غير نضالها قوانين الصيد في رواندا والكونغو، وأدى إلى برامج حماية قائمة حتى اليوم، جاعلًا منها رمزًا عالميًا للحفاظ على الرئيسيات رغم انتقادات أسلوبها الصدامي مع السلطات.
بيروتيه غالدكاس: أمّ الأورانغوتان
بعد عامين من فوسي، وتحديدًا في 1971، شدت الكندية بيروتيه غالدكاس رحالها إلى جزيرة بورنيو، شابة في الخامسة والعشرين وتلميذة لعالم الرئيسيات لويس ليكي مثل غودال، اختارت مخلوقًا أكثر عزلة وغموضًا: الأورانغوتان “إنسان الغابة”، متبعة هذه الكائنات البرتقالية عبر الغابات المطيرة بصبر أسطوري حتى لقبت بـ “أم الأورانغوتان”، مدعوة لفهم “العزلة” كخيار طبيعي حيث يعيش الأورانغوتان في فرادة مدهشة كمرآة لحاجة الإنسان أحيانًا إلى الانسحاب والتأمل بعيدًا عن الضوضاء. درست عاداتهم الغذائية وأساليبهم في التنقل ونظامهم العاطفي القائم على الوحدة أكثر من الجماعة، وكتابها Reflections of Eden (1995) مزج بين المذكرات الشخصية والعلم الصارم، مكشفًا عن كائنات لا تقل تعقيدًا عن أقربائنا من الشمبانزي. علميًا، غيرت فهمنا للرئيسيات العليا، مؤكدة أن السلوك والثقافة لا يقتصران على القردة الأقرب للبشر. اجتماعيًا، ساهم عملها في برامج إنقاذ للأورانغوتان، رافعًا وعيًا عالميًا بأزمة إزالة الغابات المطيرة التي تهدد موائلهم.
مع ديان فوسي وبيروتيه غالدكاس، نكمل ثلاثية “نساء الرئيسيات” إلى جانب جين غودال، كل واحدة لم تكتف بالعلم بل دخلت مواجهة مع الموت والفقد والسياسة، محولة حياتهن إلى شهادة على أن الاندماج مع الطبيعة ليس ترفًا بل رسالة وجودية تتجاوز الفردي إلى الجماعي.
“إلزا”: حين تتحول اللبؤة إلى أيقونة حرية
في خمسينيات القرن العشرين، في قلب كينيا، عثر الزوجان البريطانيان جورج وجوي آدمسون على ثلاثة أشبال أسود بعد قتل أمهم، تبنياها كفعل إنقاذ لكن إحداها “إلزا” أصبحت قصة استثنائية تغير نظرة العالم إلى الأسود، إذ قررا إعادة تأهيلها وإطلاقها إلى البرية بدلاً من الإبقاء عليها في الأسر، تجربة مخاطرة غير مسبوقة لأن لبؤة تربت بين البشر قد لا تملك القدرة على الصيد أو الاندماج مع قطيع، لكن بعد صبر وتجارب طويلة نجحت، ممثلة نقلة في التفكير من اعتبار الحيوان “ملكًا للإنسان” إلى النظر إليه ككائن له الحق في مصيره، دعوة للتأمل في معنى الحرية لجميع الكائنات. عام 1960 صدر كتاب Born Free الذي دون الحكاية ثم تحول إلى فيلم عالمي، جاعلاً إلزا رمزًا لحق الحيوان في الحرية وصورة مضادة لترويض المفترسات كوسيلة سيطرة. علميًا، أثبتت إمكانية إعادة تأهيل الحيوانات المفترسة وإعادتها إلى البرية، أساس لمئات المشاريع اللاحقة في الحفاظ على الأنواع. اجتماعيًا، ألهمت حركات بيئية عالمية، أسست خطابًا إعلاميًا جديدًا عن علاقة الإنسان بالمفترسات يقوم على المشاركة لا السيطرة.
غراي آول: القندس الذي فضح هوية الإنسان
في ثلاثينيات القرن العشرين، ظهر كاتب كندي غامض يعرف باسم غراي آول (البومة الرمادية)، يقدم نفسه كهندي أصلي عاشق للحياة البرية، كتب Pilgrims of the Wild (1935) مصورًا حياة القنادس ككائنات اجتماعية معقدة تستحق الاحترام والحماية، لكن بعد وفاته انكشف سره: اسمه الحقيقي آرتشيبلد بلاني، رجل إنجليزي تنكر بهوية هندية لدعم رسالته، رغم الصدمة لم ينهَر تأثير كتاباته بل بقيت مصدر إلهام لحركات حماية البرية في كندا، تثير تساؤلاً حول الهوية والصدق: هل تقلل الكذبة من قيمة الرسالة أم أن الخداع قناع يخفي شغفًا حقيقيًا؟ علميًا، أسهمت أوصافه الدقيقة في تعزيز الدراسات حول سلوك القنادس، خاصة حياتها الاجتماعية وبناء السدود. اجتماعيًا، رغم الفضيحة، ترك أثرًا في تشكيل الوعي البيئي الكندي، دافعًا السلطات لإنشاء محميات لحماية القنادس.
في هذا السياق، نرى وجهين متناقضين: إلزا التي أعادت للبشر إيمانهم بأن الحرية حق مشترك بين الأنواع، وغراي آول الذي أخفى حقيقته لكنه كشف جوهرًا أعمق عن البرية، كلاهما وسع مدارك الإنسان عن معنى العيش مع غيره من الكائنات دون الحاجة إلى اندماج جسدي مباشر.
الثعالب الفضية وتجربة بليايف: حين يصنع الإنسان القطيع
في عام 1959، أطلق العالم الوراثي الروسي ديميتري بليايف تجربة فريدة في معهد سيبيريا بنوفوسيبيرسك، هدفها إعادة خلق تاريخ التدجين أمام أعيننا، اختار ثعالب فضية وبدأ ينتقي الأفراد الأكثر ودية تجاه الإنسان، جيلًا بعد جيل، حتى حدثت “معجزة تطورية مصغرة”: تغيرت سلوكياتها لتصبح أليفة تبحث عن ملامسة الإنسان وتلوح بذيلها مثل الكلاب، وظهرت تغييرات جسدية غير متوقعة كآذان مترخية وألوان شعر متنوعة وذيول ملتفة، أثبتت أن الانتقاء للسلوك الوديع يؤدي إلى “متلازمة التدجين”. هذه التجربة تختلف جوهريًا عن فرويند أو أنثوني الذين اندمجوا مع الحيوان كما هو، إذ غير بليايف الحيوان ليقترب من الإنسان، مبرزًا سؤالاً عميقًا: هل الأفضل الاندماج مع الكائنات كما هي أم إعادة تشكيلها على صورتنا، حيث لم “تختر” الثعالب هذا المسار بل فرضه الإنسان، تجربة ناجحة علميًا لكنها تكشف حدود العلاقة حين يصبح الإنسان سيدًا لا رفيقًا. علميًا، اعتبرت ثورة كشفت أن التدجين عملية بيولوجية غيرت جينات الحيوانات منذ آلاف السنين، من الكلاب إلى المواشي، جاعلة الثعالب آلة زمن تعيدنا إلى بدايات العلاقة. اجتماعيًا، ألهبت الخيال العلمي وأثارت نقاشًا حول الهندسة الوراثية، فتحت أبوابًا مقلقة: إذا أعدنا تشكيل سلوك الحيوان بهذه السهولة، ماذا عن الإنسان وإمكانية تدجين اجتماعي أو سياسي؟
في هذا الجزء ، نرى الوجه الآخر: ليس الذوبان أو التعايش بل التشكيل القسري، وبينما منح فرويند نفسه للذئاب ووهب أنثوني روحه للفيلة، قرر بليايف إعادة صياغة الحيوان بعلم الوراثة، الفارق بين كونك ضيفًا في بيت الطبيعة أو مهندسًا يعيد بناءه على هواه.
الإنسان مرآة الحيوان
من ميرتسيغ الألمانية حيث زحف فرويند أربعين عامًا بين الذئاب، إلى أدغال تنزانيا حيث صبرت غودال حتى اعترفت بها الشمبانزي، ومن جبال رواندا حيث ضحت فوسي بحياتها بين الغوريلات، إلى مختبر نوفوسيبيرسك حيث غير بليايف شكل الثعالب وسلوكها، نرى خيطًا واحدًا يربط هذه التجارب: شغف الإنسان بالعودة إلى الجذر، إلى الحيوان الذي يسكن داخله ويذكره بأنه ليس سيد الأرض بل جزء من قطيع أعظم اسمه الطبيعة. هذه القصص ليست مغامرات فردية بل محاولات وجودية لكسر الانفصال بين الإنسان والعالم الطبيعي، بعضها انتهى بمجد كغودال وأنثوني، وبعضها بمأساة كتريدويل وفوسي، وبعضها بجدل أخلاقي كإيليس وريتشاردسون، لكنها تكشف أن الإنسان لا يكتمل إلا باعترافه بالحيوان كمرآة تكشف صورته الأولى. علميًا، وفرت مادة ثرية قلبت تصورات من أسطورة “الألفا” الذئبية إلى “ثقافة الشمبانزي” إلى “متلازمة التدجين”، أثبتت أن المعرفة تولد في التماس المباشر مع البرية حيث يصبح الجسد أداة بحث. اجتماعيًا، ألهمت حركات الحفاظ على البيئة، دافعة الحكومات لسن قوانين ضد الصيد الجائر، وأثرت في المخيلة الجماعية عن الأسود والفيلة والذئاب، جاعلة “التعايش” هدفًا جماعيًا لا نزوة شخصية.
بين الاندماج والتدجين
هنا يظهر التوتر العميق: فرويند ودوتشر وأنثوني سعوا إلى الاندماج مع الحيوان كما هو، بينما بليايف سعى إلى تغييره ليقترب من الإنسان، الأول يذوب في الآخر والثاني يعيد صياغته على صورته، وبين المسارين سؤالنا الأكبر: هل نحن مستعدون للتواضع والاعتراف بالطبيعة كما هي، أم لا نرتاح إلا حين نعكسها على مقياسنا البشري؟
صدى ثورو وهيرتسوغ
حين قال هنري ديفيد ثورو: “في البرية خلاص العالم”، لم يقصد الطبيعة كحديقة جمالية بل كمعلم أخلاقي يكشف هشاشتنا، وحين وثق فيرنر هيرتسوغ مأساة تريدويل في Grizzly Man، لخص الأمر بجملة مؤثرة: “في عيني الدب، لم أرَ إلا اللامبالاة”. بين الأمل واليأس، بين الوصال والانفصال، يظل الاندماج مع الحيوان فعلًا يذكرنا بحقيقتنا.
الهمسة الأخيرة
كل هذه الحكايات تقول شيئًا واحدًا: إننا لسنا أسياد الكوكب بل ضيوف عابرون، وأن علاقتنا بالحيوانات تحدد إنسانيتنا نفسها. قد نذوب في ذئب أو نرافق فيلًا أو نعيد ثعلبًا إلى شكل جديد، لكن جوهر التجربة واحد: نبحث عن أنفسنا في عيون الكائنات الأخرى.
وكما كتب أنطوان دو سانت-إكزوبيري في الأمير الصغير:
“أنت مسؤول إلى الأبد عمّا روّضت.”
لكن السؤال الأعمق: هل نحن مستعدون أن نكون مسؤولين عمّا لم نروّضه أيضًا؟
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟