أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 21:28
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في بلدٍ يمكن أن ترى فيه تمثالًا برونزيًا لمؤسسٍ علمانيٍّ صارم يحدّق بثبات نحو الأفق، وخلفه مباشرةً ترتفع مئذنةٌ رشيقةٌ تُطلق الأذان بالعربية خمس مراتٍ في اليوم، لن تكون الحكاية بسيطة. تركيا الحديثة، تلك التي خرجت من رماد الإمبراطورية العثمانية المهزومة في 1918، ليست سرديةَ قطيعةٍ صافيةٍ مع الدين، ولا هي استئنافٌ أمينٌ لقرونٍ من الحكم بالشريعة؛ إنها مزجٌ حادٌّ بين دولةٍ قوميةٍ مركزيةٍ ذات قانونٍ مدنيٍّ غربيٍّ، ومجتمعٍ واسع التدين يعتبر الدين لغة حياته اليومية. في قلب هذا المزج يقف اسمان: كمال أتاتورك، وعصمت إينونو. الأول رمز “الانفصال المؤسِّس”، والثاني رمز “الاستمرارية المُديرة”—وبينهما طبقاتٌ كثيفة من الحقائق، والمبالغات، والأساطير التي أنتجها أنصارٌ وخصوم.
هذه السطور محاولةٌ لتفكيك الصورة بعيدًا عن صخب المزايدات: لا تجريمًا ولا تمجيدًا، بل توصيفٌ لما جرى، ثم قراءةٌ لِما تُسميه الذاكرةُ الجماعيةُ “الخطيئةَ المؤسِّسة” و“المنجز الوطني” في آنٍ واحد، وأخيرًا تفسيرٌ لمفارقةٍ ساحرة: كيف يختلف الأتراك حزبيًا ودينيًا إلى أقصى الحدود، ثم يعودون في الأغلب ليقِفوا إجلالًا عندما تُذكر عبارة “مصطفى كمال”.
من السلطنة المهزومة إلى الجمهورية الناشئة
انتهت الحرب العالمية الأولى بانهيار بنية السلطنة: احتلالٌ مباشر لإسطنبول، معاهدة سيفر (1920) التي اقترحت عمليًا تمزيق الأناضول إلى مناطق نفوذ، وجيشٌ مُنهك، وخزانُ رمزيةٍ دينيّةٍ اسمه “الخلافة” بات بلا مخالب. هنا برز مصطفى كمال، الضابط الذي راكم سمعةً صلبة في جناق قلعة، ليغادر إسطنبول متجهًا إلى سامسون في مايو 1919، ويلتقط خيط مقاومةٍ مسلحةٍ وسياسيةٍ تنتهي، عبر سلسلة محطاتٍ قاسية (سقاريا، دوملوبينار)، إلى فرض معاهدة لوزان (1923) التي اعترفت بقيام جمهوريةٍ ذات سيادة بحدودٍ واضحة، وعاصمةٍ جديدةٍ في أنقرة بعيدًا عن “إغراءات البوسفور” وطبقاتِ التاريخ الإمبراطوري.
لكن إعلان الجمهورية لم يكن نهاية الحكاية بل بدايتها. الدولة الجديدة أرادت أن تكون “حديثة” لا في المفردات فحسب، بل في بنية القانون والتعليم والرموز. عند هذه النقطة لم يعد الصراع مع القوى المحتلة وحده هو الملف، بل الصراع مع “الماضي القريب” أيضًا: كيف تُدار علاقة الدولة بالدين؟ ما موقع العربية في التعليم؟ ماذا نفعل بالمحاكم الشرعية والأوقاف والتكايا؟ هل تبقى “الخلافة” رمزًا فوق الدولة أم تُلغى لتُكرَّس السيادة لمؤسساتٍ مدنيةٍ منتخبة؟ أسئلةٌ كبيرة أجاب عنها كمال وحزبُ الشعب الجمهوري بسياساتٍ جراحية حادّة.
مشروع القطع والوصل: إصلاحات تُعيد صوغ اللغة والقانون والفضاء العام
في مارس 1924 سُنَّ قانونٌ أنهى الخلافة رسميًا ونقل صلاحياتها الدينية إلى رئاسةٍ للشؤون الدينية (ديانت) تُشرف عليها الدولة. في اليوم نفسه تقريبًا جرى “توحيد التعليم” بإلغاء تعدد السلطات التعليمية الدينية والمدنية، وضمّ المدارس تحت مظلة وزارة المعارف. هذا القرار لم يكن تفصيلاً تقنيًا؛ كان إعادة تعريفٍ لمصدر الشرعية المعرفية: الدولة الحديثة هي التي تُقرر مناهجَ الدين وأين تُدرس وكيف تُدرّس، لا الزوايا والتكايا المستقلة.
بعد عام، أُغلقت التكايا والزوايا وأُلغيت الطرقُ الصوفية قانونًا. من وجهة نظر مؤيدي الإصلاح كانت تلك البُنى—على قدْر ما مثّلت من تقاليد روحية—“دولًا صغرى داخل الدولة”، تنازعها التأثير والولاء. من وجهة نظر خصوم الإصلاح كان الإغلاق قطيعةً فظة مع الروحانيات الشعبية وتجفيفًا لمجاري التدين الاجتماعي الذي لم يكن دوماً خصمًا للدولة.
ثم جاء 1926 بالقانون المدني المستورد من سويسرا؛ خطوةٌ بدّلت قواعد اللعبة في الأسرة والمِلكية والميراث والزواج والطلاق. لم يعد ثمة قضاءٌ شرعيٌّ منفصل، ولم تعد المرأةُ تنال ميراثًا مختلفًا عن الرجل، وصارت الشهادة في المحاكم والولاية على النفس والمال تُدار بمنطق المساواة القانونية. كان ذلك هو قلب المشروع: علمنة القانون الخاص والعام في آن، بحيث يصبح الدين علاقةً فرديةً تُحترم في الضمير والعبادة، لكن الدولة تُدار بقانونٍ مدنيٍّ موحد.
في 1928 جاء “إصلاح الأبجدية” كالصاعقة: إسقاط الخط العثماني ذي الجذور العربية، واعتماد أبجديةٍ لاتينية مبسطة. الخطوة كانت علمانيةً بلا لبس، لكنها كانت أيضًا مشروع محوٍ وإعادة كتابة. مؤيدوها يرون أنها فتحت باب محو الأمية وقرّبت اللغة المنطوقة من المكتوبة وجعلت التعلم أسرع. خصومها يرون أنها قطعت الجيل الجديد عن تراثٍ مكتوبٍ من آلاف المخطوطات والكتب، وجعلت الوصول إلى ذاك الإرث يحتاج إلى “ترجمة مزدوجة”: ترجمة اللغة ذاتها، وترجمة الحرف.
الفضاء العام تغير منظره كذلك: قانون القبعات أنهى حضور الطربوش رمزًا عثمانيًا، وقانون الألقاب أنهى “باشا وأفندي وبك” واستبدلها بألقاب عائلية ثابتة، ومنح مؤسس الجمهورية لقب “أتاتورك” أي “أبو الأتراك”. أما أيام العطل الرسمية فتمت إعادة تنظيمها ليُصبح الأحد يوم الراحة الأسبوعية، مع تثبيت عيدي الفطر والأضحى ضمن العطل الرسمية. هذه جزئيات رمزية لكنها تؤسس لِما أراده النظام: أن ينظر المواطن إلى نفسه أولًا بوصفه عضوًا في “أمةٍ تركيةٍ حديثة” لها تقويمها وإيقاعها وعلاماتها المرئية.
الدين تحت سقف الدولة: من “الاستبعاد” إلى “الإدارة”
كثيرٌ مما يُتداول عن “عداء أتاتورك للإسلام” يستمد قوته من ملفين رمزيين: إلغاء الخلافة، و”تتريك الأذان”. في الملف الأول، لا جدال أن الإلغاء أحدث جرحًا رمزيًا كبيرًا في الوعي الإسلامي العام، لأن الخلافة—برغم ضعفها السياسي—كانت عنوانًا لوحدةٍ معنوية. لكن الملف الثاني أكثر تعقيدًا: في 1932 بدأ إلزام أداء الأذان بالتركية، وتم تجريم تلاوته بالعربية لاحقًا. هنا امتزجت رؤيةٌ لغويةٌ قومية—إيصال النداء بلغة الجمهور—مع إرادة ضبط الشعيرة في إطار الهوية الجديدة. بالنسبة لجمهورٍ واسع داخل تركيا وخارجها بدت الخطوة تدخلاً في “مقدّسٍ تعبديّ” يتجاوز “لغةَ الفهم” إلى “لغة العبادة ذاتها”. المفارقة أن القرار استمر طوال رئاسة عصمت إينونو بعد 1938، ولم يُرفع إلا في يونيو 1950 عند أول دورانٍ ديمقراطيٍّ للسلطة إلى الحزب الديمقراطي. أي إن سياسة “اللغة في الأذان” لم تكن نزوة تأديبية عابرة، بل جزءًا من تصوّرٍ طويل المدى للفضاء الديني.
لكن خارج هذين الرمزين، لا بد من تذكّر أن الدولة لم “تطرد” الدين من المجال العام بقدر ما “أدخلته تحت السقف الرسمي”: أنشأت رئاسة الشؤون الدينية لتشرف على المساجد والخطابة والفتوى ورواتب الأئمة؛ أي إن “الديانة” صارت جهازًا إداريًا من أجهزة الدولة. هذه الصيغة ما زالت قائمةً حتى اليوم، وهي أحد وجوه المفارقة التركية: دولةٌ علمانية تؤطّر الدين عبر جهازٍ رسميٍّ كبير وميزانيةٍ عامّة.
أما ما قيل عن “حظر الحج” و“إلغاء الأعياد” و“جنازةٍ بلا صلاة” فمبالغات لا تسندها وثائق. كانت هناك فتراتٌ من تقييد السفر لأسباب العملة والصحة العامة، لكن لم يصدر قانونٌ يُجرِّم الحج بوصفه شعيرة. والأعياد الدينية أُقرت رسميًا ضمن العُطل منذ 1935. وصلاة الجنازة على أتاتورك أُديت فعلًا في قصر دولمه بهجة، بإمامة رئيس الشؤون الدينية آنذاك، وشهدتها الصحافةُ والوثائق والصور. الأساطير الإعلامية—من “النمل الأحمر” إلى “روائح لا تحتمل”—تعيش لأنها تُرضي حاجةً نفسيةً لدى الخصوم لتصديق “قصاصٍ سماويٍّ سريع”، لكنها لا تصمد أمام أرشيفٍ تاريخيٍّ مفتوح.
أما الحجاب، وهو من أكثر الملفات حساسيةً، فلم يصدر في عهد أتاتورك قانونٌ عام يحظره على النساء؛ ما حدث هو تنظيم صارم للباس موظفي الدولة والزيّ الرسمي، ثم جاءت موجاتُ التضييق على الحجاب في الجامعات والمؤسسات لاحقًا خلال العقود التالية، خصوصًا بعد 1980، قبل أن تُرفع القيود تدريجيًا في العقد الماضي. ربط ذلك مباشرةً بعهد المؤسس خطأ تاريخي، حتى عند أشد معارضيه إنصافًا.
القمع حين يكون “سياسة دولة”: تمرد 1925 ومحاكم الاستقلال
ليست الصورة ورديةً بالطبع. الجمهورية المبكرة واجهت تمرّداتٍ مسلحةً أبرزها حركة الشيخ سعيد في 1925، والتي خلطت مطلب الإصلاح الديني بمطالب قومية كردية. ردُّ الدولة كان قاسيًا: محاكمُ استثنائيةٌ واعتقالاتٌ واسعةٌ وأحكامُ إعدام. هنا تَظهَر حدّة الدولة المركزية التي لا تحتمل تعدّد سلطاتٍ دينيةٍ أو إثنيةٍ في فضاءٍ سياسيٍّ هشّ. وفي أواخر الثلاثينيات جاءت حملةُ “درسيم” لتدلّ على الوجه الأمني القاسي عندما يتقاطع الهامشُ الجغرافي مع الهامش الإثني والثقافي. المدافعون يرون أن الدولة كانت تُبتلى على حدودها الداخلية والخارجية وأنها “تتعلم الحكم” بسرعةٍ وسط عواصف. المنتقدون يرون أن التكوين الحزبي الواحد، والافتقار إلى المعارضة القانونية، وأنفاس الحرب والكساد، صنعت كلها آلةَ ضبطٍ لا تعرف الفروق الدقيقة بين الأمن والسياسة.
هنا تتضح إحدى حقائق التأسيس: مشروعُ علمنة القانون والفضاء العام تَقدَّم في ظل دولةٍ تُغلّب الأمن على التعددية، وتُدير المجتمع بالعصا والجزرة: مدارسٌ حديثةٌ ومؤسساتٌ عامةٌ وكودٌ ضبطيٌّ صارم. هذه الحقيقة تُفسِّر لماذا ظل قطاعٌ من الإسلاميين والقوميين الأكراد—على اختلافاتهم العميقة—ينظرون إلى الجمهورية المبكرة ككيانٍ “انتزع” منهم شيئًا مركزيًا: الشرعية الدينية لدى الأولين، ووعْد الاعتراف الثقافي لدى الآخرين.
عصمت إينونو: استمرارية محسوبة وحيادٌ مُكلف
يظهر اسم عصمت إينونو بوصفه “الرجل الثاني” في حرب الاستقلال و“الرجل الأول” بعد رحيل أتاتورك. كان رئيس الوزراء الأطول بقاءً في عهد المؤسس، ثم صار رئيس الجمهورية من 1938 إلى 1950. أسلوبه الإداري أقل خطابةً وأكثر صمتًا، لكن أثره عميق. أهم ما فعله في ملف الدين أنه أبقى سياسة الأذان بالتركية حتى نهايتها في 1950، لكنه في الوقت نفسه فتح باب العودة التدريجية للتربية الدينية إلى المدارس الابتدائية في 1949، وأسّس كلية الإلهيات في جامعة أنقرة؛ وهو ما سيقرأه مؤيدوه بوصفه “تعديلاً براغماتيًا” لقسوة العشرينيات، بينما يقرأه خصومه بوصفه “التفاتة متأخرة”.
على الصعيد الخارجي قاد إينونو تركيا في أخطر سنوات القرن العشرين: الحرب العالمية الثانية. اختار الحياد بحذرٍ شديد، مدركًا أن جيشًا ما يزال في طور التحديث واقتصادًا هشًا لا يحتملان مغامرة. الحياد أنقذ البلاد من ويلات الحرب، لكنه كلّفها غلاءً وشحًّا وضغوطًا دولية، ووضع السلطة في مواجهة تحدي “التعبئة بلا معركة”. بقي النظام حزبًا واحدًا حتى منتصف الأربعينيات، ثم أخذت التعدّدية الحزبية طريقها تدريجيًا، إلى أن جاءت انتخابات 1950 لتطيح بحزب الشعب الجمهوري وتفتح عهد الحزب الديمقراطي؛ لحظةٌ سيقرأها المؤرخون بوصفها “امتحانًا مؤسسيًا” نجحت فيه الجمهورية: سلطةٌ تنتقل انتخابيًا من حزب المؤسسين إلى خصومهم.
لماذا يخاصمه قطاعٌ واسعٌ في العالم الإسلامي؟
ليس سرًا أن صورة أتاتورك في الوجدان الإسلامي—العربي بخاصة—سوداء لدى كثيرين. الأسباب عميقة ورمزية وواقعية في آن. أولها إلغاء الخلافة: مهما قيل عن خوائها السياسي، فقد كانت في الوعي العام “آخر قشرةٍ” لوحدةٍ تتجاوز الحدود. إسقاطها بقرارٍ من دولةٍ مسلمةٍ بدا لكثيرين “انقلابًا على الدين”، لا مجرد “إصلاحٍ مؤسسي”. ثانيها علمنةُ القانون الخاص وشؤون الأسرة والميراث، وهو ما فُهم بوصفه “استبدالًا للشريعة”، لا مجرد نقلٍ لتدبير المجال العام إلى قانونٍ مدني. ثالثها تتريك الأذان، الذي فاقم الإحساس بأن الدولة “تدخلت” في منطقة “محرّمٍ تعبديّ”. رابعها أن مصفوفةَ الإعلام والتعليم في البلدان العربية—خصوصًا منذ الخمسينيات—قدّمت “الأتاتوركية” بصفتها نقيضًا حاسمًا للدين، وغالبًا ما أهملت تفاصيلَ مثل صلاة الجنازة أو حضور الأعياد الدينية الرسمية في نظام العطل.
إلى ذلك تضاف حساسيةٌ مؤلمة في الذاكرة العربية: العلاقات التركية-العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين قامت على مسافةٍ نفسية، إذ ورث العرب من أواخر العثمانيين سردية “تركٍ حكموا فظلموا”، ثم جاءت الجمهورية لتدير ظهرها للشرق الناطق بالعربية لصالح الغرب الناطق بالفرنسية والإنجليزية. في مثل هذا المناخ، أي إصلاحٍ علنيٍّ يمس الدين سيُقرأ بوصفه عداءً، لا بوصفه “تحويرًا في إدارة المجال”.
ولماذا يحترمه الأتراك رغم خلافاتهم الحزبية والدينية؟
لأن الأتراك يضعون “حرب الاستقلال” و“قيام الدولة” في كفةٍ ثقيلةٍ جدًا. لا ينسون بسهولةٍ أن بلدهم كان مرشحًا للتقسيم وفق سيفر، وأنه خرج من تلك الحافة عبر حربٍ قادها أتاتورك ورفاقه، وأنه استبدل تلك المعاهدة بلوزان التي كرّست السيادة وحدود الدولة. أيٌّ من هذا لا يمحو قسوةَ بعض السياسات، لكنه يضعها في سياق “تأمين الكيان” أولاً. فوق ذلك، فإن مشروع التحديث—بالجامعة، والجيش، والبيروقراطية، والقانون المدني—صنع طبقةً وسطى جديدة تعتبر نفسها ابنةَ الجمهورية، حتى عندما تُصوّت لأحزابٍ محافظةٍ دينيًا. هذه الطبقة لا ترى تناقضًا بين تعليق صورة أتاتورك على الجدار، والذهاب إلى صلاة الجمعة، والتصويت لحزبٍ إسلامي التوجه؛ إذ إن الرمز الوطني السابق على الانقسام الحزبي يظلّ “القاسم المشترك” الذي يحرس فكرة الدولة.
وهنا تتلخّص “الازدواجية التركية المُنتِجة”: علمانية الدولة إطارًا قانونيًا وإداريًا، وتدين المجتمع إيقاعًا يوميًا. الصورة تُربك مراقبين كُثّر خارج تركيا ممن اعتادوا ثنائياتٍ حادة: إمّا هذا أو ذاك. لكن داخل تركيا، صار التعايش بين الصورتين هو “الطبيعي الجديد”.
حقائقٌ في مواجهة المبالغات
من المهم أن نضع خطًا فاصلًا بين ما ثبت تاريخيًا وما صاغته الآلة الدعائية، سواءً تلك التي تمجّد أو تلك التي تلعن. ثبت أن السلطنة أُلغيت سياسيًا عام 1922، وأن الخلافة أُلغيت 1924. ثبت أن التعليم وُحّد، وأن التكايا أُغلقت، وأن القانون المدني الغربي حل محل القضاء الشرعي، وأن الأبجدية اللاتينية اعتمدت، وأن الأحد صار يوم الراحة الأسبوعية. ثبت أيضًا أن الأذان تُركي طوال 1932–1950. ثبت أنّ التربية الدينية عادت اختياريًا إلى المدارس في 1949، وأن كلية إلهيات أنقرة أسست في العام ذاته. ثبت انتخابيًا انتقال السلطة في 1950 إلى خصوم حزب المؤسس، وأن العربية عادت لغة الأذان في يونيو من ذلك العام. ثبتت صلاة الجنازة في دولمه بهجة، وثبت أن الأعياد الدينية عطلٌ رسمية منذ 1935، وأن “حظر الحج” لم يُسنّ قانونًا.
ومقابل ذلك ثبت أن الدولة مارست قمعًا سياسيًا حادًا في لحظاتٍ مفصلية: محاكم الاستقلال بعد 1925، وحملة درسيم 1937–1938، وتضييق المعارضة في نظام الحزب الواحد. لا يجوز أن تُمسح هذه الحقائق بذريعة “ضرورات التأسيس”، مثلما لا يجوز أن تُقرأ وحدها بمعزلٍ عن تهديدات تلك المرحلة.
أما الأساطير—من “شطب اسم مصطفى” إلى “النمل الأحمر”—فهي نفاياتٌ خطابيةٌ ينبغي التوقف عن ترويجها إن كنا نريد نقدًا جادًا. المبالغة ليست حجةً، بل دليلُ ضعف. يكفي النقد الجاد أن يقول: لقد حوّلت الجمهورية الدين من مصدرٍ للتشريع إلى موضوعٍ للإدارة، وأبقت عليه عبادةً. ويكفيها أيضًا أن تسجّل أن بعض سياسات الإدارة تلك—كإلزام لغة الأذان—تجاوزت الحد المعقول في التدخل بالشعيرة.
سخرية تركية بامتياز: مآذن تحمل أسماء “خصومها”
ليس من قبيل المصادفة أن تجد مسجدًا يحمل اسم سياسيٍ جمهوريٍ صارم. في تركيا تُطلق أسماء القادة على الجسور والمدارس والساحات، وأحيانًا على المساجد أيضًا. قد يرى خصمٌ للإينونويّة في هذا “نفاقًا تاريخيًا”، وقد يراه آخر “تصالحًا مدنيًا” مع الماضي. لكن القراءة الأعمق أن المجتمع أعاد إدخال السياسي إلى فضاء الرموز الدينية كما أدخل السياسيُّ الدينَ إلى فضائه الإداري. إنها عملية تبادلٍ طويلة بين رمزين كبيرين: “الهوية الدينية” و“الهوية الوطنية”. قد يختلفان في محكمةٍ أو في مناهج الصف الثالث، لكنهما يتعانقان في نشيدٍ واذان، في تمثالٍ وصلاةِ جمعةٍ مزدحمة.
تلك السخرية لها وجهٌ آخر: أحزابٌ محافظةٌ حكمت عقدين وأكثر، كرّست يافطات “المشاريع الكبرى” وافتتحت آلاف المساجد، ومع ذلك لم تُلغِ رمزية أتاتورك في الفضاء العام؛ لم تنزل صوره من المدارس، ولم تُمسّ أعياد الجمهورية. والسبب بسيط: لا أحد يريد أن يتهم نفسه في الوجدان التركي بأنه “خان الأب المؤسس”. المعركة الحقيقية لا تُخاض على صورته بل على تفسير إرثه: هل تُقرأ “الأتاتوركية” بوصفها علمانيةً متصلبة، أم بوصفها دولة قانونٍ وإدارةٍ حديثةٍ قابلةٍ للتأويل والتطوير؟ هنا يدور الصراع الثقافي في تركيا، لا على شرعية الرجل في ذاته.
أين يلتقي الرجلان وأين يفترقان؟
يلتقي كمال وإينونو في “المبادئ الستة” التي أرادها حزب الشعب الجمهوري عنوانًا للجمهورية: الجمهورية، القومية، الشعبوية، العلمانية، الدولة، الثورة. يلتقيان في بناء جيشٍ منضبطٍ وجهازٍ إداريٍّ محترف، وفي الثقة بدور المدرسة والجامعة والقانون المدني في صنع “المواطن التركي الحديث”. ويفترقان في الأسلوب والنبرة: كمال خطيبٌ مؤسسٌ يطلق الشعارات الكبيرة ويهشم الأصنام الرمزية بسرعة، وإينونو مديرُ أزمةٍ طويل النفس يبرع في “المشي على الحافة” بين حربٍ عالميةٍ وداخلٍ متململ. الأول يُذكّرك باللحظة الثورية التي لا تطلب إذنًا، والثاني يُذكّرك بالروتين الذي يحفظ الدولة حيّةً حتى تمر العاصفة.
في ملف الدين، يلخصان الثنائية التركية بامتياز: قرارٌ رمزيٌّ ضخم كتتريك الأذان يتواصل بلا تردد طوال عهد إينونو، ثم خطوةٌ براغماتية في 1949 تعيد التربية الدينية وتفتح كلية الإلهيات. كأن الدولة تقول: يمكن أن نختلف على اللغة في المئذنة، لكننا لا نترك “دين المجتمع” بلا عناية رسمية. هذا هو “فن الإدارة” على الطريقة الجمهورية المبكرة: أن تمضي إلى أقصى العلمنة في القانون، ثم تترك للدين مقعدًا وظيفيًا في إدارة الضمير العام، شرط أن يظلّ “المقعد” داخل مسرح الدولة.
كيف نقرأ العداء والاحترام معًا؟
لا مشكلة في أن يختلف المسلمون مع أتاتورك؛ المشكلة في أن يختلفوا معه اعتمادًا على أساطير. ولا مشكلة في أن يحترمه الأتراك؛ المشكلة في أن يُحوِّلوه إلى أيقونةٍ منزوعة السياق لا تُنتقد ولا تُراجع. القراءة الناضجة تبدأ من الاعتراف بإنجازه الوطني الملموس: إنقاذ الكيان، بناء مؤسسات، تثبيت السيادة. ثم تمضي إلى نقد سياساتٍ أثقلت المجتمع، خصوصًا حين لامست لغة التعبّد وتقاليد الأطراف. بعدها فقط يمكن أن نفهم سرَّ المفارقة: الأتراك يحترمونه لأنهم—ببساطة—يعيشون في دولةٍ بناها؛ والمجتمعات الإسلامية خارجه تعاديه لأنهم رأوه—ببساطة—يهدم رمزًا دينيًا عزيزًا عليهم. كلا الطرفين يرى جزءًا من الصورة؛ وكلاهما يميل، أحيانًا، إلى تضخيم جزئه على حساب بقية اللوحة.
إذا كان لا بد من ملاحظةٍ ساخرة، فهي أن تركيا الحديثة تحمل مآذنها على كتفي تمثال. لم تتخلَّ عن أذانها، ولم تتخلَّ عن صورة مؤسسها. بدت لسنواتٍ وكأنها تمشي على حبل مشدودٍ بين المسجد والمدرسة، بين الخطيب في الجمعة والمدير في الوزارة. لكنها في الواقع صنعت من هذا الحبل “جسرًا” لعبور قرنٍ كامل. قد تكون تعثرت غير مرة، وقد تكون آذت أطرافًا من جسدها، لكنها لم تسقط. ولعل هذا ما يزعج المتطرفين على الطرفين: أن الدولة الدنيوية يمكن أن تتسع لدينٍ حيّ، وأن الدين الحي يمكن أن يتسع لدولةٍ دنيوية، إذا اتفق الطرفان على أن القانون فوق السلاح، وأن صندوق الاقتراع فوق الرغبة في احتكار المصحف أو الرمح.
ماذا نفعل بهذه الذاكرة اليوم؟
ليس المقصود هنا في هذا المقال تلميع صورةٍ أو تشويه أخرى، بل رسمُ الحد الفاصل بين الوقائع والأساطير، وتقديمُ إطارٍ يتيح للباحث والقارئ والمتجادل أن يتكلم اللغة نفسها. حين نقول إن الأذان تُركي بين 1932 و1950، وإن العربية عادت في 1950، فهذا وصفٌ للأحداث التاريخية وليس نوع من الإستنكار. وحين نقول إن صلاة الجنازة أُديت، فهذا وصفٌ لا اعتذار. وحين نقول إن التكايا أُغلقت والمحاكم الشرعية أُلغيت، فهذا وصفٌ أيضا وليس ادانه أو استنكار. بعد هذا الوضوح يمكن أن يختلف الناس سياسيًا ودينيًا كما يشاؤون؛ يمكن للشخص المحافظ أن يقول: لا أرضى أن تكون الأسرة خارج الشريعة. ويمكن للجمهوري أن يقول: لا أرضى أن تكون الدولة خارج القانون المدني. وفي الحالتين لا يحق لأحدٍ أن يضيف إلى التاريخ ما ليس فيه، أو يقتطع منه ما لا يناسب هواه.
هل كان ممكنًا أن تُدار الإصلاحات ببطءٍ أكثر وبحوارٍ أوسع؟ ربما. هل كانت البيئة الإقليمية والدولية، بين انهيار إمبراطورياتٍ وصعود فاشياتٍ وكسادٍ عالمي وحربٍ كونية، تسمح برومانسيةٍ سياسية؟ غالبًا لا. هذه ليست حجّة تبرير، بل محاولة لفهم “مزاج الزمن”. وقد يكون من فائدة النقاش اليوم أن نحرر إرث أتاتورك وإينونو من أن يكون “سلاحًا آنيًا” في معارك الحاضر، وأن نعيد قراءته بوصفه تجربة نشأة دولةٍ في عالمٍ كان ينهار ويُعاد بناؤه في الوقت نفسه.
لعل المشهد الثقافي والاجتماعي يمتاز بسخرية تركية بامتياز.
ليس من قبيل المصادفة أن تجد مسجدًا يحمل اسم سياسيٍ جمهوريٍ صارم. المجتمع أعاد إدخال السياسي إلى فضاء الرموز الدينية كما أدخل السياسيُّ الدينَ إلى فضائه الإداري. إنها عملية تبادلٍ طويلة بين رمزين كبيرين: “الهوية الدينية” و“الهوية الوطنية”.
لو أردتَ صورةً أخيرة تُلخّص التركيبات كلّها، تخيّل مشهدًا في ساحةٍ تركية: أطفالٌ يرفعون أعلامًا في 29 أكتوبر ويهتفون باسم الجمهورية، ومصلّون يخرجون من جامعٍ قريب بعد صلاة الجمعة، ومتحفٌ صغير يضم نسخةً من طبعةٍ عثمانيةٍ للقرآن، ومكتبةٌ عامّة تحتوي على ترجماتٍ حديثة لآلاف الكتب، وملصقٌ على الجدار لصورة مصطفى كمال، وبائعُ سمسمٍ يضحك: “الله يرضى عليك، خُذ قطعةً ثانية”. هذا المشهد ليس تناقضًا؛ إنه الصورة الطبيعية لبلدٍ قرر أن يعيش في عالمٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ وغربيٍّ في آنٍ واحد، وأن يحمل أذانه على كتفي تمثالٍ، دون أن يسقط.
ولهذا فأني أعتقد في الخلاصة بأنه لا مشكلة في أن يختلف المسلمون مع أتاتورك، ولا مشكلة أيضا في أن يحترمه الأتراك. المهم أن نقرأ الوقائع كما هي: لا نضيف ولا ننقص. الأسطورة لا تصلح سلاحًا في نقاش جاد. تركيا الحديثة اليوم بلدٌ يحمل أذانه على كتفي تمثال مؤسسه، ولم يسقط.
⸻
المراجع والمصادر:
• Erik J. Zürcher, Turkey: A Modern History, I.B. Tauris, 2004.
• Andrew Mango, Atatürk, Overlook Press, 2000.
• Bernard Lewis, The Emergence of Modern Turkey, Oxford University Press, 1961.
• Feroz Ahmad, The Making of Modern Turkey, Routledge, 1993.
• Feroz Ahmad, The Turkish Experiment in Democracy, 1950–1975, C. Hurst & Co., 1977.
• قوانين الجمهورية التركية المبكرة:
• قانون إلغاء الخلافة وتنظيم السلطات الدينية (3 مارس 1924).
• قانون توحيد التعليم (1924).
• قانون إغلاق التكايا والزوايا والطرق (1925).
• القانون المدني التركي المستمد من السويسري (1926).
• قانون “حروف اللغة التركية” واعتماد الأبجدية اللاتينية (1928).
• قوانين الألقاب وإلغاء الألقاب العثمانية (1934).
• قانون العطل الرسمية والراحة الأسبوعية وتثبيت عيدي الفطر والأضحى ضمن العطل (1935).
• أرشيف رئاسة الشؤون الدينية (ديانت) وأرشيف الصحافة التركية بشأن صلاة جنازة أتاتورك في دولمه بهجة (نوفمبر 1938) وإعادة الأذان بالعربية (يونيو 1950).
• محاضر البرلمان التركي (الجمعية الوطنية الكبرى) وخطب أتاتورك المنشورة بين 1920 و1938.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟